تداعى عدد من أبناء السودان لتخليد ذكرى ابن الفاشر الأستاذ صديق محمد البشير بعد أن التقط الأستاذ محمد بدوي القِفازَ أولا لتحشيد الجهود لبناء مكتبة، أو مركز، باسمه. ومحمد نفسه من خيرة أبناء الفاشر الذين أنجبتهم تجربة العمل المدني المثابرة، ومشاركاتُه القومية عبر الكتابة الراتبة عن شؤون السياسة، والثقافة، وحقوق الإنسان، والقانون الذي فيه هو خبير مختص. ولهذا أحس البدوي بأن هناك حاجة ملحة لتحريك النشاط الثقافي بهذه المدينة المفتونة بهوى الثقافة، والاجتماع، والود، حيث يمتد تاريخها الثقافي ضاربا في عمق التاريخ. فقد أقام فيها السلطان الرشيد منتدى كة ثقافيا شهيراً في القرن الثامن عشر في رهد تندلتي، والذي يقسم المدينة بمجراه اللولبي التليد ليستقر هاجعاً في قلبها.
وصديق كان فنجري الفاشر كما سماه الأستاذ عبدالله آدم خاطر، إذ كان مؤسسا لمكتبة الجماهير التي نشرت ثقافة الاطلاع في فاشر الخمسينات والستينات قبل أن تمتد إليها أيادي الهوس الديني لتُشعلُها بالنار ضمن ملابسات حل البرلمان، وطرد الحزب بحِجة انتماء صديق الشيوعي. ومع ذلك كان يحلم الراحل بعد غربة امتدت نحو عقدين بمعاودة المساهمة الثقافية في مدينته على رغم ما سببته الحادثة من حزن تجاوزه لاحقاً بقلبه الرؤوف بأهله.
الشاعر عالم عباس محمد نور تحدث عن صاحب مكتبة الجماهير فقال ان الحديث عن شخصية صديق محمد البشير الآسرة يطول ويحلو ويمتد، فقد كان نسيج وحده، سابقاً لعصره، ونموذجاً فريداً في الفكر.
في جو التعدد الاجتماعي الذي تميزت به الفاشر عرف صديق طريقه نحو قلوب أهل المدينة، وضيوفها، ولهذا خلد اسمه للأجيال عبر نشر ثقافة الإطلاع. يقول عنه الكاتب الراحل د. حسين آدم الحاج: لقد كان صدّيق فى تلك الفترة سياسياً من أهل اليسار لكن ذلك لم يؤثر البتة أو حتى انعكس على دوره الاجتماعى وريادته الثقافيّة بل ظلّ كل أهلُ المدينة محبين لشخصيته الجاذبة وفى حاجة دائمة لخدماته فقد كان هو ومكتبته مؤسسة قائمة بذاتها، ولذلك لا يحدث شأن فى المدينة إلاّ وكان حاضراً فى السياسة إن كان ذلك فى الأفراح والأتراح التى تميّز بها مجتمع الفاشر الباذخ يومها. وهكذا سارت الحياة مبتسمة على نحو ما يشتهى الجميع حتى اغتالتها فجأة أحداث حل الحزب الشيوعى السودانى من داخل البرلمان نهاية نوفمبر 1965، وطرد نوابه، والنواب، الذين يؤيدهم فى أخطر سابقة دستوريّة قانونيّة فى تاريخ التجربة البرلمانيّة السودانيّة.
ويضيف حسين آدم الحاج : على العموم فما يهمنا من تلك الأحداث هو الهيجان والعنف المفرط الذى تعرض له منسوبو الحزب، حيث لم يسلم صدّيق من ذلك وتعرضت مكتبتُه وبيتُه لعنف غير مبرر من الشرذمة والدهماء سبّبت له الكثير من العنت، ولم يشفع له ما قدمه من مواعين الاستنارة لنحو عقدين من الزمان لمجتمع مترابط فى حاجة ماسة إليها، والتزامه بمعايير الانضباط السياسى، إضافة إلى علاقاته الممتدة، وتواصله مع كل أهل المدينة فغادر على اثرها إلى الخرطوم ثمّ إلى دولة قطر حيث عمل فى حقل الصحافة والثقافة ردحاً طويلاً من الزمان، ومع ذلك لم ينس جذوره فى الفاشر.
لم يكن صديق صاحب مكتبة فحسب، وإنما مثقف زادته الأخلاق الرفيعة سموقا وسط أقرانه من رموز المدينة المكتبيين الدي قامت على عاتقهم نشر الثقافة في تلك الفترة الباكرة من المدينة التي حرقت العلم البريطاني في مظاهرة صاخبة. ولعلها الفاشر المسيس مواطنيها الذين يتحدرون من كل جهات السودان ومن الحزام السوداني، ومصر، والشام ليكونوا تضاريسها الجغرافية، وليلها الباريسي.
الدكتور عبد السلام نور الدين قال عن صاحب مكتبة الجماهير إن تسنى لصديق محمد البشير أن يحافظ طوال حياته بصرامة العلوم الرياضية وتلقائية منطقها أن يتزيأ بالوسامة، والأناقة، والسماحة، والأريحية، في روحه، وفي بدنه، وفي الملابس التي يرتديها، وفي الخطابات التي يكتبها إلي الخلص من أحبابه والاباعد من معارفه، وفي توجهه الشخصي في المحافل التي يغشاها، وفي الأحداث والوقائع التي شارك فيها مؤازرا أو مبتكرا فاعلا، ومع الذين يلتقي بهم أثناء ساعات العمل الرسمية، وفي الفكر الذي تمثله بشفافيه التذوق، وفي الأهداف والغايات التي تطلع أن يراها تمشي بثبات علي الارض، وقبل ذلك في صلاتة مع أقرب الناس إليه، وعلي وجه خاص الاطفال، والنساء، والشيوخ.
وأضاف عبد السلام نور الدين أن صديقا يظل عالما من الخير، ورمزا له بالنسبة لأولئك الذين كانوا في الخامسة عشر من عمرهم مثلي الذين إنما قدموا إلي الفاشر للالتحاق بإحدي ثانويتيها- الفاشر الثانويه أوالمعهد العلمي ـ الشرقية، وكان صديق محمد البشير من مصادرهم الأساس للتعرف علي الكتب، والمجلات، والبشر، وعلي وجة خاص الناس في المدينة الوادعة.
رجل لكونه رجل علاقات عامة من طراز فريد فقد امتدت علاقته خارج دارفور، وكان يمثل صديقا حفيا للموظفين الذين يزورون المدينة، ويتواصل مع أبناء الوطن داخل السودان وخارجه في غربته.
ولهذا يقول الدكتور عبدالله على إبراهيم إن صديق محمد البشير رفيق لم تلده عطبرة مدينتي الأثيرة. فلم احتج لأكون في الفاشر ليغمرني صديق بفيض عنايته.
ويضيف صاحب "السكة الحديد قربت المسافات" أنه زار قطر لمؤتمر ما في 1988. ووجد صديقاً مغترباً فيها وأشار بقوله: أخجلني صديق بحفاوته بي. أخذني في جنح ليل بعد محاضرة لي للجالية السودانية إلى مدينة في أطراف الدوحة. وكنت أغالب النعاس الذي أرى من بين غلالته مودة هذا الإنسان الفنجري النبيل وزوجته. أهذا ما تفعله الكتب والمعرفة بالناس الفناجرة؟
كان ذلك تساؤل الدكتور عبدالله علي إبراهيم أما الأستاذ عبدالله ادم خاطر بقوله: "عندما كنا بنهاية المرحلة الوسطى ، بزالنجي، كان الأستاذ إبراهيم أبو الخيرات يدربنا على اعداد الخطاب و العنوان باللغة الإنجليزية، و عندما أراد اختبارنا، طلب إلينا أن نكتب رسالة طلب كتب إلى صديق محمد البشير، صاحب مكتبة الجماهير بالفاشر، وما كنت أدري أن ذلك عنوان حقيقى، إلا بعد أن وصلنا إلى مدرسة الفاشر الثانوية.
""ما زلت أذكر شعوري بالرهبة و الاحترام لدى دخولي المكتبة أول مرة، تنظيم الكتب وروائح المكان، والصوت الهادى و الأناقة التي كان يتمتع بها صديق نفسه مع حسن الاستقبال للزائرين.."
ويضيف خاطر أنه "بعد أكتوبر الثورة خاصة، كانت الفاشر الثانوية من رئات المدينة الثقافية، ومكتبة الجماهير المرجعية الثقافية وملتقى المثقفين صباحات الجمعة خاصة."
ليكن تخليد الراحل التنويري صديق محمد البشير عبر مركز ثقافي - أو مكتبة تحمل اسمه في المدينة التي أخلص لها - فليكن ذلك فرصة لتداعي أبناء الفاشر ودارفور والسودان كافة لرد الدين لهذا الإنسان النبيل الذي حمل مشعل ثقافة التنوير في تلك الفترة الباكرة. ونأمل أن يأتي الاهتمام من المسؤولين بالولاية لرعاية التأسيس لهذا الصرح الثقافي. ويقع العبء الأكبر على أبناء المدينة في الداخل، ومهاجرهم، لمد يد العون النقدي والعيني، وذلك لإنجاح هذا المشروع الذي ابتدره ابن المدينة الأستاذ محمد بدوي، والتف حوله عدد من المثقفين من دارفور، وكل بقاع السودان ليعيدوا الاعتبار لمثقف عضوي اسمه صديق محمد البشير.
شارك هذا الموضوع: