الحلقة رقم (2)
مفاكرات حول منهج التحليل الثقافي
الثقافة، الدّولة، الدّيموقراطيّة، الاستقلاليّة، الأيديولوجيا، والآفروعمومية
محمّد جلال أحمد هاشم
الخرطوم ــــ 2020م
الطّبعة الثّانية ــ منقحة ومزيدة
الإهداء
لثلاث نُجيماتٍ مضين في المحاق ولكن لا زِلْنَ يُرسلن لنا ضوءهنّ عبر السديم لألاءً شفيفا:
عبد الهادي الصّدّيق
دينق أجاك
بانكي فورستر بانكي
الفصل الأوّل
التّحليل الثّقافي: الثّقافة والدّولة، الشّعب والعنصريّة
ما هي الثّقافة؟
شأنُها في ذلك كشأن جميع المفاهيم الفلسفيّة الاجتماعية، للثّقافة عدّة تعريفات إلاّ أنّها كلّها تدور حول التّعريف الذي اجترحه إدوارد بيرنيت تايلور Edward Burnett Tylor في عام 1871م (تايلور، 1920)، ذلك عندما قال: "الثّقافة، أو الحضارة، بتناولها في معناها الإثنوقرافي الواسع، هي ذلك الكلّ المركّب الذي يشمل المعرفة، المعتقد، الفنّ، الأخلاق، القانون، التقاليد، وأيّ قدرات أو عادات أخرى يكتسبها الإنسان بوصفه عضواً في مجتمعٍ ما". وبالرّغم من أنّ تعريفه هذا جاء في إطار دراساته لما أسماها بثقافات المجتمعات البدائيّة، وخلوصه إلى أنّ المجتمعات محكومة في تطوّرها بالمرور عبر ثلاث مراحل، الأولى هي مرحلة الوحشيّة savagery، والثّانية هي مرحلة البربريّة barbarism، والثّالثة هي مرحلة الحضارة civilization، استناداً على التّطوّر المادّي، وهي أمور تجاوزتها الأنثربولوجيا الحديثة حيث تُقاس الحضارة بدرجة استخدام اللغة والإقناع والتّوافق بديلاً عن القوّة المادّيّة القسريّة physical and material force (انظر ستيف كيتون، 1987)، إلاّ أنّ نصاعة التّعريف الذي قدّمه تايلور لا يزال طريّاً، طازَجاً، قابلاً للاستخدام. وعلينا ملاحظة ربطه للثّقافة بالحضارة.
وهنا لنا وقفة! ما الذي يجعلنا نعود القهقرى إلى أكثر من 150 عاماً لنسترجع تعريفاً للثّقافة تمّ صكُّه في بدايات الدّراسات الثّقافيّة كمساق علمي؟ هناك عدّة أسباب لهذا، منها ما ذكرناه بخصوص خصب التّعريفات التي قدّمها تيلور. بجانب ذلك لأنّنا نُعامل هنا قضايا فشل المجتمع السّوداني في تحقيق الحداثة إلى الآن حيث يعيش في عصر ما بعد الحداثة, فهذه الوضعيّة تربطنا بفترة الـ 150 عاماً هذا، بل وتزيد لتعود بنا إلى ما قبل ذلك. ثمّ هناك المراجعات الهامّة التي قام بها روبيرت ووشنو Robert Wuthnow وآخرون (etal (1984 بخصوص الدّراسات الثّقافيّة وكيف أنّ مناهج ونظريّات دراسات الحداثة حيث مالت إلى النّزعات الإمبيريقيّة Empirical للثّقافة، متأثّرة في ذلك بتيّار الوضعيّة Positivism الذي ساد من مرحلة ما قبل الحرب العالميّة الأولى إلى ما بعد الحرب العالميّة الثّانية.
كان تايلور أوّل من حدّد بأنّ الثّقافة تُكتسب ويتمّ تعلّمُها، خلافاً لما كان يقول به العلماء وقتها من أنّها ذات خصائص بيولوجيّة. وقد جاءت قولتُه هذه بمثابة ثورة في ذلك العصر الذي سادت فيه الأيديولوجيّات العنصريّة والنّظريّات الاجتماعيّة التّطوّريّة Social Evolutionism التي قام عليها الاستعمار وتمّ تبريره عبرها. وقد شمل تعريفُه هذا السّلوك والقدرات الذّهنيّة (الفكر)، بمثلما شملت السّلوك العملي والأفعال. فكما يتمّ تعلّم الثّقافة، يتمّ مشاركتها مع الآخرين، وهذا هو مناط خصيصتها الاجتماعيّة كونها تتولّد في، وداخل، المجموعات الإنسانيّة، لا عبر الفرد. إلاّ أنّ أعظم ما جاء في تعريفه ذلك هو كلّيّة الثّقافة وتكاملها فيما بين مكوّناتها، بمعنى استحالة تجزئتها إلاّ نظريّاً، لا عمليّاً، وإلا فقدت اختصاصها كثقافة. ويعني هذا تراوح الثّقافة ما بين النّظر thoughts (الفكر والفنّ Art، أي الإبداع والاختراع) كمركّب في حدّ ذاته وبين العمل actions (التّطبيق، أي حكم الحالة) بوصفه مركّباً في حدّ ذاته أيضاً، وبهذا كانت لدينا الثّقافة غير المادّيّة في جانب، والثّقافة المادّيّة في الجانب الآخر. وهذا هو مناط وصف الثّقافة بالجدليّة.
لقد انطلق منهج التّحليل الثّقافي من تعريف تايلور للثّقافة ومن ثمّ قام بتوسيع ماعونها. من ذلك إعادة قراءة الثّقافة على أنّها جدليّة ومتعدّدة الأقطاب، ليس فقط ثنائيّة تقوم على الأطروحة Thesis تقابلُها الأنقوضة Antithesis، لتخلصا في صراعهما الجدليّ إلى الأجموعة Synthesis. وفي تعدّديتها الاستقطابيّة هذه تستمدّ الثّقافة ديناميكيّتها من خصائصها المتحوّلة والمتطوّرة باستمرار التي يمكن تشبيهها بالنّواة في الذّرّة وتعدد مساراتها في شكل تحوّلات مستمرّة. كما جاءت قراءة الثّقافة على أنّها مصدر توليد السّلطة والفضاء الذي تدور حوله وفيه السّلطة بوصفها وعياً فرديّاً وجمعيّاً.
من الجوانب الجدليّة في الثّقافة Cultural Dialectics تراوحُها ما بين الحتميّة Cultural Determinism في جانب وبين النّسبيّة Cultural Relativism في الجانب الآخر. فالثّقافة تنحو في جانبٍ منها لتشكيل السّلوك على شاكلةٍ بعينها، بينما اختلاف الثّقافات والأشخاص يجعل من هذا التّشكيل أمراً نسبيّاً، لا حتميّاً. في سعيها لتحقيق حتميّتها تقوم الثّقافة بابتناء ما نسمّيه بالقوالب السّلوكيّة (باشتمالها لكلا الفكر والعمل) Paradigms، وهو ما يجعل الأشخاص الذين يشتركون في نفس الثّقافة ينحون للتصرّف بطريقة معيّنة بما يسمح بالتّنبّؤ بذلك السّلوك وبما يمكن أن يُفضي إلى تشكيل بذرة الانتماء والوعي بالذّاتيّة. وفي المقابل، تعمل الثّقافة على تحقيق نسبيّتها بما يحفظ إنسانيّة الأشخاص المنتمين إليها بتوكيد تفرّد كلّ واحد منهم بخصائص وصفات تخصّه لوحده. ويتمّ هذا بتحقيق الفرد لاستقلاليّته عن تلك القوالب السّلوكيّة من حيث تجاوزه للقيم التي أدّت إلى تشكّلها أوّل مرّة، منطلقاً في براح ممارستها تعبيراً عن قيم جديدة وحادثة. وهكذا تعيش الثّقافة جدليّتها وتظلّ تعمل بوصفها كائناً حيّاً كونها ناتجاً عن، وانعكاساً لحياة البشر.
وهي بوصفها هذا، عادةً ما تكون الثّقافة عُرضة للعديد من الأدواء والأمراض، وأخطرُها هي الأيديولوجيا التي تعمل ضدّ الثّقافة وتنحو لتزييف الواقع وقتل الثّقافة في خاتمة مطافها إذا كُتب لها النّجاح. ومدخل الأيديولوجيا لتفعل فعلَها هذا هو تجميد وتخشيب القوالب السّلوكيّة وتحويلها إلى شروط حتميّة للانتماء للمجموعة، بدونها يفقد المرء أحقّيّة وشرف ذلك الانتماء. وهذا هو جوهر صراع الثّقافة ضدّ الأيديولوجيا؛ ما بين القوالب السّلوكيّة الثّقافية في جانب، والقوالب السّلوكيّة الأيديولوجيّة في الجانب الآخر.
ما هو الوعي الثّقافي؟
الثّقافة في منهج التّحليل الثّقافي هي جماع وعي ثلاثي الأضلاع يتكوّن ضلعُه الأوّل في رأسه الأعلى من "الفرد" لينزل في قاعدته إلى رأس ضلعه الثّاني وهو "الجماعة"، بينما رأس الضّلع الثّالث هو "الفعل". وهذه العناصر الثّلاثة هي التي تعطينا المجتمع. ويتطوّر الوعي من الفرد إلى الجماعة لينتقل بالعكس في عمليّة تماهٍ فيها يسعى الفرد لتحقيق ذاتيّته واستقلاليّته مقاوماً روح القطيع، دافعاً ذلك بالفعل الذي يتضمّن بدوره التّفاعل مع البيئة المحيطة التي تستند على قاعدة صلبة هي الأرض التي يدور فوقها كلّ هذا الصّراع.
ويتحرّك هذا الوعي ويتشكّل في زمن دائري، ثلاثي الأبعاد يتكوّن من "الماضي"، وهو ذاكرة الثّقافة وفكرها، و"الحاضر"، وهو حياةُ الثّقافة الآنيّة وتفكيرها ومناط الفعل، ثمّ من "المستقبل"، وهو أشواق الثّقافة وأحلامُها وتخطيطها. وجماعُ هذا الزّمن الدّائري هو ما نسمّيه "التّاريخ" (انظر الشّكل أعلاه). والصّراع بين عناصر الثّقافة وأبعادها الزّمنيّة هو صراع جدليّ في معنى أنّه صراع صحّي ومعافى من المفترض أن يُفضي إلى تطورّ الثّقافة والمجتمع الذي تُعتمل فيه الثّقافة. هذا ما لم تُصب هذه الثّقافة بفيروس الأيديولوجيا (حسبما أشرنا له أعلاه وما سنفصّل فيه أكثر أدناه).
الثّقافة بهذا الشّكل ليست جامدة، بل هي في حركة ديناميكيّة دائبة. فالثّقافة لا تفقد حركتها الدّيناميكيّة إلاّ عندما يتمّ تخزين أجناسها العديدة في أضابير الكتب. أمّا في الحياة اليوميّة، فالثّقافة تتحرّك دائماً بطريقة ديناميكيّة وجدليّة. وهي إذ تفعل هذا، إنّما تفعلُه في إطار التّاريخ الذي هو بدوره في حركة دائبة قمنا بتصويرها هنا كما لو كانت تسير في اتّجاه عقارب السّاعة، أي من اليسار إلى اليمين. ويعني هذا أنّ الزّمن يتحّرك من الحاضر إلى المستقبل، مخلّفاً وراءه الماضي.
ومن أهمّ ما أضافه منهج التّحليل الثّقافي لمفهوم الثّقافة، بجانب ما ذكرناه أعلاه، هو نسبيّتُها، كونها تتراوح ما بين الفروقات الشّخصيّة من فرد إلى آخر في جانب، ثمّ النّزوع نحو التّماهي والحتميّة من قبل الجماعة في الجانب الآخر. هذا بجانب ما أضافه منهج التّحليل الثّقافي، مع تأمينه على جدليّة الثّقافة، من حيث خلوصه إلى تعدّديّة الأقطاب الجدليّة دون انحباسها في أبعادها الثّلاثيّة الأحاديّة التّقليديّة (أطروحة Thesis، أنقوضة Antithesis، وأُجموعة Synthesis). فما يكون أطروحةً في جانب، قد يكون أنقوضةً في جانب آخر؛ والأجموعة التي تتشكّل الآن، قد تصبح لتوّها أطروحةً أو أنقوضةً في مواجهة أقطاب أخرى .. وهكذا دواليك.
شارك هذا الموضوع: