القـــانونِ الإِنســـانيِّ الدَّولــــيِّ، وقانونِ حُقوقِ الإِنسانِ في السُّودان: بين القَضَاءَيْنِ (الوَطَنيِّ والدَّوْليِّ)

أماني‭ ‬عجيمي - 16-06-2020
 القـــانونِ الإِنســـانيِّ الدَّولــــيِّ، وقانونِ حُقوقِ الإِنسانِ في السُّودان:  بين القَضَاءَيْنِ (الوَطَنيِّ والدَّوْليِّ) | أماني‭ ‬عجيمي

بعد‭ ‬التَّحولات‭ ‬السياسية‭ ‬الأخيرة‭ ‬في‭ ‬السودان‭ ‬التي‭ ‬أفضت‭ ‬إلى‭ ‬سقوط‭ ‬نظام‭ ‬البشير‭ ‬في‭ ‬أبريل‭ ‬2019م،َّ‭ ‬أشارت‭ ‬المدعية‭ ‬العامة‭ ‬للمحكمة‭ ‬الجنائية‭ ‬الدولية‭ ‬في‭ ‬خطابها‭ ‬لمجلس‭ ‬الأمن‭ ‬الدَّوليِّ‭ ‬بتاريخ‭ ‬19‭ ‬يونيو‭ ‬2019م،‭ ‬قائلةً‭ ‬‮«‬‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يعود‭ ‬السلام‭ ‬والاستقرار‭ ‬المستدامان‭ ‬إلى‭ ‬دارفور‭ ‬إ‭ ‬لا‭ ‬عند‭ ‬معالجة‭ ‬الأسباب‭ ‬الجذرية‭ ‬للنزاع‭ ‬ويشمل‭ ‬ذلك‭ ‬الإفلات‭ ‬من‭ ‬العقاب‭ ‬على‭ ‬الجرائم‭ ‬المزعوم‭ ‬ارتكابها‭ ‬في‭ ‬دارفور‭ ‬،‭ ‬المنصوص‭ ‬عليها‭ ‬في‭ ‬نظام‭ ‬روما‭ ‬الأساسي،‭ ‬وضمان‭ ‬تحقيق‭ ‬المساءلة‭ ‬لصالح‭ ‬ضحايا‭ ‬هذه‭ ‬الجرائم‭ ‬الخطيرة‮»‬‭.‬وأضافت،أنَّ‭ ‬على‭ ‬السلطات‭ ‬السودانية‭ ‬الإسراع‭ ‬في‭ ‬تسليم‭ ‬الرئيس‭ ‬السوداني‭ ‬المخلوع‭ ‬عمر‭ ‬البشير،‭ ‬للمحكمة‭ ‬في‭ ‬هولندا،‭ ‬أو‭ ‬محاكمته‭ ‬في‭ ‬العاصمة‭ ‬الخرطوم،‭ ‬على‭ ‬الجرائم‭ ‬التي‭ ‬ارتكبها‭ ‬في‭ ‬إقليم‭ ‬دارفور‭ ‬غربيّ‭ ‬البلاد‭. ‬هذا‭ ‬الخطاب‭ ‬يشير‭ ‬إلى‭ ‬دور‭ ‬المحكمة‭ ‬واحترامه‭ ‬لمبدأ‭ ‬التكامل،‭ ‬والذي‭ ‬يتحقق‭ ‬بقيام‭ ‬القضاء‭ ‬الوطني‭ ‬بدوره‭ ‬كاملاً‭ ‬في‭ ‬المساءلة‭ ‬والمحاسبة‭ ‬على‭ ‬الجرائم‭ ‬الوحشية‭ ‬في‭ ‬دارفور‭ ‬وغيرها‭ ‬من‭ ‬الجرائم‭ ‬التي‭ ‬اُرْتُكِبتْ‭ ‬في‭ ‬النيل‭ ‬الأزرق‭ ‬وجبال‭ ‬النوبة‭. ‬وهذا‭ ‬الأمر‭ ‬هو‭ ‬تذكير‭ ‬من‭ ‬مدعية‭ ‬المحكمة‭ ‬الجنائية‭ ‬للمسؤولين‭ ‬في‭ ‬حكومة‭ ‬السودان‭ ‬القادمة‭ ‬للقيام‭ ‬بواجبهم‭ ‬والتزامهم‭ ‬وفق‭ ‬ميثاق‭ ‬الأُمم‭ ‬المتحدة‭ ‬بإِنهاء‭ ‬حالة‭ ‬الإفلات‭ ‬من‭ ‬العقاب‭ ‬،والعمل‭ ‬على‭ ‬محاكمة‭ ‬المتورطين‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الجرائم‭ ‬في‭ ‬المحاكم‭ ‬الوطنية‭ ‬السودانية،‭ ‬وهذا‭ ‬الخطاب‭ ‬يحمل‭ ‬في‭ ‬طياته‭ ‬تحذيراً‭ ‬بأنَّ‭ ‬المحكمة‭ ‬الجنائية‭ ‬الدولية‭ ‬ستتدخل‭ ‬وفق‭ ‬مبدأ‭ ‬التكامل‭ ‬في‭ ‬حال‭ ‬رأت‭ ‬عدم‭ ‬قدرة‭ ‬أو‭ ‬رغبة‭ ‬الحكومة‭ ‬السودانية‭ ‬في‭ ‬محاكمة‭ ‬المتورطين‭ ‬بشكل‭ ‬عادل‭ ‬وشفاف‭.‬

المسؤولية‭ ‬الأساسية‭ ‬عن‭ ‬المحاسبة‭ ‬والتحقيق‭ ‬في‭ ‬الجرائم‭ ‬المنصوص‭ ‬عليها‭ ‬في‭ ‬نظام‭ ‬روما‭ ‬الأساسي‭ (‬النظام‭ ‬الأساسي‭ ‬للمحكمة‭ ‬الجنائية‭ ‬الدولية‭) ‬ومقاضاة‭ ‬المتهمين‭ ‬بارتكابها‭ ‬،إنَّما‭ ‬تقع‭ ‬‮«‬وَفْقاً‭ ‬لمبدأ‭ ‬التكامل‮»‬،‭ ‬على‭ ‬عاتق‭ ‬الدول‭ . ‬ومبدأ‭ ‬التكامل‭ ‬يعني‭ ‬أن‭ ‬دور‭ ‬المحكمة‭ ‬الجنائية‭ ‬الدولية‭ ‬هو‭ ‬دور‭ ‬مكمِّل‭ ‬‮«‬فقط‮»‬‭ ‬للقضاء‭ ‬الوطني‭ ‬للدول‭ ‬ولا‭ ‬يَحِلُّ‭ ‬مَحَلَّ‭ ‬القضاء‭ ‬الوطني‭ ‬إِلَّا‭ ‬في‭ ‬حالات‭ ‬محددة‭ ‬،‭ ‬من‭ ‬ضمنها‭ ‬عدم‭ ‬قدرة‭ ‬هذا‭ ‬القضاء‭ ‬الوطني‭ ‬على‭ ‬محاكمة‭ ‬مرتكبي‭ ‬الجرائم‭. ‬وعدم‭ ‬القدرة‭ ‬يشمل‭ ‬عدم‭ ‬استقلال‭ ‬المؤسسات‭ ‬العدلية‭ ‬متمثلةً‭ ‬في‭ ‬السلطة‭ ‬القضائية‭ ‬والنائب‭ ‬العام‭ ‬والجهات‭ ‬الأخرى‭ ‬المخول‭ ‬لها‭ ‬إِنفاذ‭ ‬القانون‭ ‬من‭ ‬شُرْطَةٍ‭ ‬وغيرِها‭ . ‬الحالة‭ ‬الأخرى‭ ‬لإِحلال‭ ‬القضاء‭ ‬الدولي‭ ‬محلَّ‭ ‬القضاء‭ ‬الوطني‭ ‬،‭ ‬عدم‭ ‬رغبة‭ ‬هذه‭ ‬الدول‭ ‬في‭ ‬محاكمة‭ ‬الجناة‭ . ‬وعدم‭ ‬الرغبة‭ ‬يتمثل‭ ‬في‭ ‬انعدام‭ ‬الإِرادة‭ ‬السياسية‭ ‬لإِجراءِ‭ ‬هذه‭ ‬المحاكمات‭ ‬مُتمثِّلةً‭ ‬في‭ ‬التأخير‭ ‬غير‭ ‬المبرِّر‭ ‬في‭ ‬إِجراءات‭ ‬المحاكمات‭ ‬و‭ ‬حماية‭ ‬المتورطين‭ ‬في‭ ‬ارتكاب‭ ‬هذه‭ ‬الانتهاكات‭ ‬ومنحهم‭ ‬حصانات‭ ‬قضائية‭ ‬ودستورية‭ . ‬وفي‭ ‬هذا‭ ‬السياق،‭ ‬ما‭ ‬تم‭ ‬ارتكابه‭ ‬من‭ ‬جرائم‭ ‬ضد‭ ‬المتظاهرين‭ ‬السِّلميين‭ ‬في‭ ‬أَقاليم‭ ‬السودان‭ ‬المختلفة‭ ‬وتشمل‭ ‬فضَّ‭ ‬اعتصام‭ ‬القيادة‭ ‬العامة‭ ‬للجيشِ‭ ‬السُّوداني‭ ‬بالخرطوم‭ ‬في‭ ‬3‭ ‬يونيو‭ ‬2019‭ ‬وعدم‭ ‬تقديم‭ ‬المتورطين‭ ‬لمحاكمات‭ ‬شفافة‭ ‬ونزيهة‭ ‬أو‭ ‬إِضفاء‭ ‬أيِّ‭ ‬نوعٍ‭ ‬من‭ ‬الحماية‭ ‬لهؤلاء‭ ‬المتورطين‭ ‬يُمْكِنُ‭ ‬أن‭ ‬يُفسَّرَ‭ ‬من‭ ‬جانب‭ ‬المحكمة‭ ‬الجنائية‭ ‬على‭ ‬أنه‭ ‬انعدامٌ‭ ‬للإِرادة‭ ‬السياسة‭ ‬يبرِّر‭ ‬للمحكمة‭ ‬الجنائية‭ ‬الاستمرار‭ ‬في‭ ‬المحاكمات‭ ‬عن‭ ‬جرائم‭ ‬الحرب‭ ‬والجرائم‭ ‬ضد‭ ‬الإنسانية‭ ‬المذكورة‭ ‬وفق‭ ‬نص‭ ‬المادة‭ ‬19‭ ‬من‭ ‬اتفاقية‭ ‬روما‭.‬

ومن‭ ‬المعلوم‭ ‬أن‭ ‬السودان‭ ‬ليس‭ ‬طرفاً‭ ‬في‭ ‬معاهدة‭ ‬روما‭ ‬المُنْشِئَةِ‭ ‬للمحكمة‭ ‬الجنائية‭ ‬الدَّولية‭ ‬،‭ ‬لكنَّ‭ ‬السودان‭ ‬‮«‬بصفته‭ ‬عضواً‭ ‬في‭ ‬ميثاق‭ ‬الأمم‭ ‬المتحدة‮»‬‭ ‬مُلْزَمٌ‭ ‬بالقرارات‭ ‬التي‭ ‬يصدرها‭ ‬مجلس‭ ‬الأمن‭ ‬الدَّولي‭ . ‬وبموجب‭ ‬الفصل‭ ‬السابع‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬الميثاق‭ ‬فإِنَّ‭ ‬مجلس‭ ‬الأمن‭ ‬هو‭ ‬الجهة‭ ‬المنوط‭ ‬بها‭ ‬حفظ‭ ‬السلام‭ ‬والأمن‭ ‬العالميين‭. ‬لذلك،‭ ‬فإِنَّ‭ ‬المادة‭ ‬13‭ ‬من‭ ‬ميثاق‭ ‬روما‭ ‬قد‭ ‬خوَّلت‭ ‬للمحكمة‭ ‬الجنائية‭ ‬الدولية‭ ‬مباشرة‭ ‬الاختصاص‭ ‬حتى‭ ‬على‭ ‬الدول‭ ‬غير‭ ‬الأَعضاء،‭ ‬أي‭ ‬غير‭ ‬المنضمين‭ ‬لمعاهدة‭ ‬روما‭ ‬،حيث‭ ‬أعطتها‭ ‬هذا‭ ‬الاختصاص‭ ‬في‭ ‬مباشرة‭ ‬القضايا‭ ‬التي‭ ‬تُحَوَّلُ‭ ‬إِلَيها‭ ‬من‭ ‬مجلس‭ ‬الأمن‭ ‬عملاً‭ ‬بالفصل‭ ‬السابع‭ ‬من‭ ‬ميثاق‭ ‬الأمم‭ ‬المتحدة‭. ‬وتطبيقاً‭ ‬لهذه‭ ‬المادة،أصدر‭ ‬مجلس‭ ‬الأمن‭ ‬الدَّولي‭ ‬القرار‭ ‬رقم‭ ‬1593‭ ‬في‭ ‬يونيو‭ ‬2005‭ ‬بإِحالة‭ ‬ملف‭ ‬السودان‭ ‬إِلى‭ ‬المحكمة‭ ‬الجنائية‭ ‬الدولية‭ ‬لِتَتولَّى‭ ‬التحقيق‭ ‬والمحاكمة‭ ‬عن‭ ‬الانتهاكات‭ ‬التي‭ ‬وقعت‭ ‬في‭ ‬إِقليم‭ ‬دارفور‭. ‬وهذا‭ ‬يعني‭ ‬أن‭ ‬السودان‭ ‬مثله‭ ‬مثل‭ ‬أي‭ ‬دولة‭ ‬طرف‭ ‬في‭ ‬ميثاق‭ ‬روما‭ ‬ملزم‭ ‬ومقيد‭ ‬بالقرارات‭ ‬التي‭ ‬تصدر‭ ‬من‭ ‬المحكمة‭ ‬الجنائية‭ ‬الدولية‭ ‬وملزم‭ ‬بالتعاون‭ ‬معها‭ ‬وفقاً‭ ‬للمادة‭ ‬25‭ ‬من‭ ‬ميثاق‭ ‬الأمم‭ ‬المتحدة‭.‬

تاريخياً‭ ‬تُعَدُّ‭ ‬تجربة‭ ‬القضاء‭ ‬السوداني‭ ‬في‭ ‬المحاسبة‭ ‬وإِجراء‭ ‬محاكماتٍ‭ ‬على‭ ‬انتهاكات‭ ‬حقوق‭ ‬الإِنسان‭ ‬أو‭ ‬ارتكاب‭ ‬جرائم‭ ‬الحرب،‭ ‬ضعيفةً‭ ‬أو‭ ‬على‭ ‬وجه‭ ‬الدقة‭ ‬معدومة،‭ ‬حيث‭ ‬اقتصرت‭ ‬‮«‬فقط‮»‬‭ ‬على‭ ‬المحاكمات‭ ‬التي‭ ‬تمَّت‭ ‬إِبانَ‭ ‬الفترة‭ ‬الانتقالية‭ ‬التي‭ ‬تلت‭ ‬فترة‭ ‬حكم‭ ‬الرئيس‭ ‬السابق‭ ‬المعزول‭ ‬جعفر‭ ‬نميري‭. ‬تلك‭ ‬المحاكمات‭ ‬تمت‭ ‬لرموز‭ ‬نظام‭ ‬مايو‭ ‬وركَّزت‭ ‬على‭ ‬قضايا‭ ‬الفساد‭ ‬المالي‭ ‬،و‭ ‬الإداري‭ ‬والاقتصادي‭ ‬وترحيل‭ ‬الفلاشا‭ ‬،‭ ‬ولم‭ ‬يتم‭ ‬التركيز‭ ‬فيها‭ ‬‮«‬بشكلٍ‭ ‬مباشرٍ‮»‬‭ ‬على‭ ‬انتهاكات‭ ‬حقوق‭ ‬الإِنسان‭ ‬وانتهاكات‭ ‬القانون‭ ‬الدولي‭ ‬الإنساني‭ ‬على‭ ‬الجرائم‭ ‬التي‭ ‬وقعت‭ ‬إبانَ‭ ‬الحرب‭ ‬مع‭ ‬جيش‭ ‬الأنانيا‭ ‬ومن‭ ‬بعده‭ ‬الجيش‭ ‬الشعبي‭ ‬لتحرير‭ ‬السودان‭ ‬في‭ ‬الجنوب‭. ‬وبالتالي‭ ‬يمكن‭ ‬اعتبارها‭ ‬تجربةً‭ ‬ضعيفةً‭ ‬جدّاً‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬نركن‭ ‬إليها‭ ‬وحدها‭ ‬للقول‭ ‬بأنَّ‭ ‬القضاء‭ ‬السوداني‭ ‬له‭ ‬تجربة‭ ‬سابقة‭ ‬في‭ ‬إجراء‭ ‬هذا‭ ‬النوع‭ ‬من‭ ‬المحاكمات‭ ‬،‭ ‬وهذا‭ ‬مرجعه‭ ‬ليس‭ ‬إلى‭ ‬عدم‭ ‬قدرة‭ ‬الجهاز‭ ‬القضائي‭ ‬السوداني‭ ‬‮«‬المشهود‭ ‬له‭ ‬بالكفاءة‮»‬،‭ ‬ولكنْ‭ ‬بشكل‭ ‬عام‭ ‬يرْجِعُ‭ ‬إلى‭ ‬انعدام‭ ‬الإرادة‭ ‬السياسية‭ ‬في‭ ‬إجراء‭ ‬المُحاسبةِ‭ ‬أو‭ ‬الخضوع‭ ‬لأيِّ‭ ‬نوعٍ‭ ‬منها‭. ‬وهذا‭ ‬انعكس‭ ‬بوضوح‭ ‬في‭ ‬اتفاقيات‭ ‬السَّلام‭ ‬الموقعة‭ ‬بين‭ ‬الحكومات‭ ‬السودانية‭ ‬المختلفة‭ ‬والحركات‭ ‬المسلحة‭ ‬سواء‭ ‬في‭ ‬جنوب‭ ‬السودان‭ ‬أو‭ ‬غربه‭.‬

إِحالةُ‭ ‬ملف‭ ‬دارفور‭ ‬في‭ ‬العام‭ ‬2005م،‭ ‬تزامن‭ ‬مع‭ ‬التوقيع‭ ‬على‭ ‬اتفاقية‭ ‬السلام‭ ‬الشامل‭ ‬بين‭ ‬حكومة‭ ‬السودان‭ ‬والجيش‭ ‬الشعبي‭ ‬لتحرير‭ ‬السودان‭ ( ‬اتفاقية‭ ‬نيفاشا‭ ‬عام‭ ‬2005م‭)‬،‭ ‬والتي‭ ‬أنهت‭ ‬حرباً‭ ‬بين‭ ‬شمال‭ ‬السودان‭ ‬وجنوبه‭ ‬استمرت‭ ‬لفترة‭ ‬أربعة‭ ‬عقود‭ ‬تقريباً‭ ‬،‭ ‬حيث‭ ‬بدأت‭ ‬فصول‭ ‬هذه‭ ‬الحرب‭ ‬قُبيْلَ‭ ‬استقلال‭ ‬السودان‭ ‬في‭ ‬1955م‭. ‬وعلى‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬الانتهاكات‭ ‬التي‭ ‬اُرْتُكبتْ‭ ‬من‭ ‬جانب‭ ‬حكومة‭ ‬السودان‭ ‬وبواسطة‭ ‬الجيش‭ ‬الشعبي‭ ‬لتحرير‭ ‬السودان‭ ‬ومن‭ ‬قبله‭ ‬حركة‭ ‬الأنانيا‭ ‬،‭ ‬لم‭ ‬يتم‭ ‬الاتفاق‭ ‬‮«‬سواء‭ ‬ضمن‭ ‬اتفاقية‭ ‬نيفاشا‭ ‬أو‭ ‬من‭ ‬قبلها‭ ‬اتفاقية‭ ‬أديس‭ ‬أبابا‭ ‬في‭ ‬1972‭ ‬إبانَ‭ ‬عهد‭ ‬الرئيس‭ ‬الأَسْبق‭ ‬المخلوع‭ ‬جعفر‭ ‬نميري‮»‬‭ ‬علي‭ ‬أيِّ‭ ‬إجراءاتٍ‭ ‬لمحاسبة‭ ‬مرتكبي‭ ‬هذه‭ ‬الانتهاكات،‭ ‬ولم‭ ‬يتم‭ ‬الاتفاق‭ ‬بالتالي‭ ‬على‭ ‬أي‭ ‬إجراءاتٍ‭ ‬للعدالة‭ ‬الانتقالية‭ ‬ضمن‭ ‬اتفاقية‭ ‬نيفاشا‭. ‬ليس‭ ‬هذا‭ ‬فحسب‭ ‬بل‭ ‬تم‭ ‬منح‭ ‬مرتكبي‭ ‬هذه‭ ‬الفظائع‭ ‬عفواً‭ ‬شاملاً‭ ‬غيرَ‭ ‬مشروطٍ‭ ‬بموجب‭ ‬قانون‭ ‬العفو‭ ‬1972‭ ‬،‭ ‬وكذلك‭ ‬لم‭ ‬يُقدَّمْ‭ ‬أي‭ ‬أحد‭ ‬للمحاسبة‭ ‬بعد‭ ‬التوقيع‭ ‬على‭ ‬اتفاقية‭ ‬نيفاشا‭ ‬في‭ ‬2005‭. ‬وهذا‭ ‬ربما‭ ‬فتح‭ ‬الباب‭ ‬على‭ ‬مصراعيه‭ ‬لمزيد‭ ‬من‭ ‬الانتهاكات‭ . ‬وقد‭ ‬أثبتَتِ‭ ‬العديدُ‭ ‬من‭ ‬التجارب‭ ‬أن‭ ‬عدم‭ ‬المحاسبة‭ ‬في‭ ‬الغالب‭ ‬يَنْتُجُ‭ ‬عنه‭ ‬مزيدٌ‭ ‬من‭ ‬الانتهاكات‭ ‬والفظائع‭ . ‬وما‭ ‬يجري‭ ‬في‭ ‬دارفور‭ ‬وجبال‭ ‬النوبة‭ ‬والنيل‭ ‬الأزرق‭ ‬وما‭ ‬تلى‭ ‬انفصال‭ ‬جنوب‭ ‬السودان‭ ‬من‭ ‬أحداث‭ ‬وانتهاكات،لَهِيَ‭ ‬خيرُ‭ ‬أَدِلَّةٍ‭ ‬وأمثلةٍ‭ ‬حية‭ ‬على‭ ‬صدقِ‭ ‬هذه‭ ‬التجارب‭ ‬وصحَّتِها‭. ‬فَفَوْرَ‭ ‬انفصال‭ ‬جنوب‭ ‬السودان‭ ‬،‭ ‬وتكوين‭ ‬دولته،‭ ‬لم‭ ‬تسارع‭ ‬الدولة‭ ‬الوليدة‭ ‬في‭ ‬الدخول‭ ‬في‭ ‬إجراءات‭ ‬عدالة‭ ‬انتقالية‭ ‬وما‭ ‬يستتبعها‭ ‬من‭ ‬محاسبةٍ،‭ ‬وبناء‭ ‬وإِصلاح‭ ‬مؤسسات‭ ‬وقوانين‭ ‬وإجراء‭ ‬مصالحة‭ ‬وطنية‭ ‬شاملة‭ ‬،‭ ‬مما‭ ‬شجَّع‭ ‬الجيش‭ ‬الشعبي‭ ‬لتحرير‭ ‬السودان‭ (‬السُّلطةُ‭ ‬الحاكمةُ‭) ‬على‭ ‬الاستمرار‭ ‬في‭ ‬الانتهاكات‭ (‬طالما‭ ‬توجد‭ ‬حالة‭ ‬إفلات‭ ‬من‭ ‬العقاب‭ ‬فلا‭ ‬يوجد‭ ‬ما‭ ‬يخشاه‭) ‬وتطورت‭ ‬هذه‭ ‬الانتهاكات‭ ‬إلى‭ ‬حربٍ‭ ‬قبلية‭ ‬وعِرْقيَّة‭ (‬إثنية‭) ‬أدخلت‭ ‬الدولة‭ ‬الوليدة‭ ‬في‭ ‬نفق‭ ‬مظلم‭ ‬نتج‭ ‬عنه‭ ‬إجهاض‭ ‬حلم‭ ‬الأشقَّاء‭ ‬في‭ ‬جنوب‭ ‬السودان‭ ‬بدولة‭ ‬القانون‭ ‬والمساواة‭ ‬والعدل‭.‬

تم‭ ‬التعامل‭ ‬مع‭ ‬اتفاقية‭ ‬نيفاشا‭ ‬باعتبارها‭ ‬شأناً‭ ‬شماليّاً‭ ‬جنوبيّاً‭ ‬صِرفاً،‭ ‬وبعبارة‭ ‬أخرى‭ ‬،‭ ‬الاتفاق‭ ‬يتعلق‭ ‬‮«‬فقط‮»‬‭ ‬بمعالجة‭ ‬مشكلة‭ ‬جنوب‭ ‬السودان‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬الحكومة‭ ‬السودانية‭ (‬نظام‭ ‬الإنقاذ‭) ‬والجيش‭ ‬الشعبي‭ ‬لتحرير‭ ‬السودان‭ ‬وكذلك‭ ‬الوسطاء‭ ‬،‭ ‬وبالتالي‭ ‬لم‭ ‬تدرج‭ ‬مشكلة‭ ‬دارفور‭ ‬ضمن‭ ‬أجندة‭ ‬اتفاقية‭ ‬نيفاشا‭ ‬،‭. ‬حيثُ‭ ‬فضلت‭ ‬حكومة‭ ‬السودان‭ ‬إجراء‭ ‬مفاوضات‭ ‬سلام‭ ‬منفصلة‭ ‬لمعالجة‭ ‬مشكلة‭ ‬دارفور‭ ‬وفي‭ ‬عام‭ ‬2006،‭ ‬وقد‭ ‬تم‭ ‬التوقيع‭ ‬على‭ ‬اتفاقية‭ ‬سلام‭ ‬دارفور‭ ‬في‭ ‬أبوجا‭ ‬بنيجيريا‭ ‬بين‭ ‬حكومة‭ ‬السودان‭ ‬وحركة‭ ‬تحرير‭ ‬السودان‭ ‬فصيل‭ ‬مني‭ ‬أركو‭ ‬ميناوي،‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬رفض‭ ‬الفصيل‭ ‬الآخر‭ ‬من‭ ‬الحركة‭ ‬بقيادة‭ ‬عبد‭ ‬الواحد‭ ‬محمد‭ ‬نور‭ ‬و‭ ‬حركة‭ ‬العدل‭ ‬والمساواة‭ ‬بقيادة‭ ‬د‭.‬خليل‭ ‬إبراهيم،‭ ‬التوقيع‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬الاتفاق‭. ‬وفي‭ ‬أثناء‭ ‬مفاوضات‭ ‬اتفاقية‭ ‬أبوجا‭ ‬أثيرت‭ ‬مسألة‭ ‬المحاسبة‭ ‬على‭ ‬الانتهاكات‭ ‬والعدالة‭ ‬خلال‭ ‬تلك‭ ‬المناقشات،‭ ‬إِلا‭ ‬أنَّ‭ ‬حكومة‭ ‬السودان‭ ‬اعترضت‭ ‬ورفضت‭ ‬وضع‭ ‬أي‭ ‬بند‭ ‬يتعلق‭ ‬بالعدالة‭ ‬الانتقالية‭ ‬استناداً‭ ‬على‭ ‬أنَّ‭ ‬ملف‭ ‬العدالة‭ ‬قد‭ ‬تمت‭ ‬إحالته‭ ‬إلى‭ ‬المحكمة‭ ‬الجنائية‭ ‬الدولية‭.‬

و‭ ‬كما‭ ‬هو‭ ‬متوقع‭ ‬،‭ ‬لم‭ ‬يتحقق‭ ‬السلام‭ ‬المنشود‭ ‬في‭ ‬دارفور‭ ‬بعد‭ ‬التوقيع‭ ‬على‭ ‬تلك‭ ‬الاتفاقية‭ ‬وبالتالي‭ ‬لم‭ ‬تفشل‭ ‬الاتفاقية‭ ‬فحسب،‭ ‬بل‭ ‬ازدادت‭ ‬حدة‭ ‬المعارك‭ ‬وضراوتها‭ ‬بين‭ ‬الأطراف‭ ‬المتحاربة‭ ‬في‭ ‬دارفور،‭ ‬وبالتالي‭ ‬ازدادت‭ ‬كمية‭ ‬الانتهاكات‭ ‬الجسيمة‭ ‬التي‭ ‬وقعت‭ ‬من‭ ‬حرقٍ‭ ‬للقرى‭ ‬،‭ ‬وتشريد‭ ‬،‭ ‬وقتل‭ ‬للمدنيين‭ ‬واغتصابٍ‭ ‬وغيرها‭ ‬من‭ ‬جرائم‭ ‬الحرب‭ ‬والجرائم‭ ‬ضد‭ ‬الإنسانية‭ ‬،‭ ‬وكان‭ ‬مجلسُ‭ ‬الأمن‭ ‬الدَّوْلِيّ‭ ‬قد‭ ‬كوَّن‭ ‬لجنة‭ ‬دولية‭ ‬لتقصي‭ ‬الحقائق‭ ‬في‭ ‬إقليم‭ ‬دارفور‭ ‬انتهت‭ ‬برفع‭ ‬تقريرها‭ ‬لمجلس‭ ‬الأمن‭ ‬في‭ ‬2005‭ ‬بارتكاب‭ ‬حكومة‭ ‬السودان‭ ‬ومليشيات‭ ‬الجنجويد‭ ‬اِنتهاكاتٍ‭ ‬جسيمةً‭ ‬للقانون‭ ‬الدولي‭ ‬الإنساني‭. ‬واستناداً‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬التقرير،‭ ‬تم‭ ‬رفع‭ ‬الأمر‭ ‬إلى‭ ‬المحكمة‭ ‬الجنائية‭ ‬الدولية‭ ‬بموجب‭ ‬المادة‭ ‬13‭ ‬من‭ ‬ميثاق‭ ‬روما‭. ‬و‭ ‬بعدَ‭ ‬التحريات‭ ‬اللازمة،‭ ‬أصدرت‭ ‬المحكمة‭ ‬الجنائية‭ ‬الدولية‭ ‬أمراً‭ ‬بإعلان‭ ‬مسؤولين‭ ‬اِثنينِ‭ ‬في‭ ‬الحكومة‭ ‬،وألحقته‭ ‬بأوامر‭ ‬قبض‭ ‬على‭ ‬كلٍّ‭ ‬من‭ ‬أحمد‭ ‬هارون‭ ‬وعلي‭ ‬كوشيب‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬2007م،‭ ‬حينها‭ ‬رفضت‭ ‬الحكومة‭ ‬التعاون‭ ‬مع‭ ‬المحكمة‭ ‬الجنائية‭ ‬الدولية‭ ‬وصرحت‭ ‬بأنها‭ ‬لن‭ ‬تقوم‭ ‬بتسليم‭ ‬أي‭ ‬شخص‭ ‬سوداني‭ ‬للمحكمة‭ ‬الجنائية‭ ‬الدولية،مُفضلةً‭ ‬المواجهةَ‭ ‬السياسية‭ ‬على‭ ‬التعاون‭ ‬وإيجاد‭ ‬حلٍّ‭ ‬قانوني‭. ‬هذه‭ ‬المواجهة‭ ‬مع‭ ‬المحكمة‭ ‬الجنائية‭ ‬الدولية‭ ‬انتهت‭ ‬إلى‭ ‬إصدار‭ ‬أمر‭ ‬قبض‭ ‬على‭ ‬الرئيس‭ ‬‮«‬المعزول‮»‬‭ ‬عمر‭ ‬البشير‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬2009م‭.‬

مَثَّلَ‭ ‬أمرُ‭ ‬القبض‭ ‬على‭ ‬البشير‭ ‬‮«‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الوقت‮»‬،‭ ‬أوَّلَ‭ ‬أمرِ‭ ‬قبضٍ‭ ‬يصدر‭ ‬في‭ ‬حق‭ ‬رئيس‭ ‬لا‭ ‬زال‭ ‬يجلس‭ ‬على‭ ‬كرسي‭ ‬الحكم‭! ‬وبلا‭ ‬شك‭ ‬ازدادت‭ ‬ردود‭ ‬فعل‭ ‬الحكومة‭ ‬شراسةً‭ ‬في‭ ‬مواجهة‭ ‬المحكمة‭ ‬الجنائية‭ ‬،‭ ‬فبدأت‭ ‬بطرد‭ ‬منظمات‭ ‬الإغاثة‭ ‬والعون‭ ‬الإنساني‭ ‬العاملة‭ ‬في‭ ‬دارفور،واتهمتهم‭ ‬بأنهم‭ ‬جواسيس‭ ‬لصالح‭ ‬المحكمة‭ ‬الجنائية‭ ‬الدولية‭ ‬وكذلك‭ ‬تم‭ ‬إغلاق‭ ‬منظمات‭ ‬محلية،‭ ‬من‭ ‬ضمنها‭ ‬مركز‭ ‬الخرطوم‭ ‬لحقوق‭ ‬الإنسان‭. ‬هذا‭ ‬بالإضافة‭ ‬إلى‭ ‬أنَّ‭ ‬الصحف‭ ‬السودانيةَ‭ ‬لم‭ ‬تستطيع‭ ‬الكتابة‭ ‬حول‭ ‬موضوع‭ ‬الجنائية‭ ‬بسبب‭ ‬الرقابة‭ ‬‮«‬القَبْلِيَّةِ‮»‬‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تمارس‭ ‬من‭ ‬جانب‭ ‬الحكومة‭. ‬وكما‭ ‬سبق‭ ‬أن‭ ‬أشرنا‭ ‬أعلاه‭ ‬،‭ ‬فإنَّ‭ ‬قرار‭ ‬الإحالة‭ ‬من‭ ‬مجلس‭ ‬الأمن‭ ‬الدَّوْلي‭ ‬لم‭ ‬يستند‭ ‬على‭ ‬تقارير‭ ‬هذه‭ ‬المنظمات‭ ‬كما‭ ‬ادَّعتِ‭ ‬الحكومة،‭ ‬وإِنَّما‭ ‬استند‭ ‬على‭ ‬تقرير‭ ‬لجنة‭ ‬تقصي‭ ‬الحقائق‭ ‬الدولية‭ ‬التي‭ ‬وافقت‭ ‬عليها‭ ‬واستقبلتها‭ ‬الحكومة‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬2005م،‭ ‬حيثُ‭ ‬أشارت‭ ‬اللجنة‭ ‬ضمن‭ ‬تقريرها‭ ‬إِلى‭ ‬وجود‭ ‬انتهاكات‭ ‬للقانون‭ ‬الدولي‭ ‬الإنساني،‭ ‬مع‭ ‬انعدام‭ ‬وجود‭ ‬إرادة‭ ‬سياسية‭ ‬من‭ ‬الدولة‭ ‬السودانية‭ ‬لمحاكمة‭ ‬الجناة‭ ‬،‭ ‬هذا‭ ‬بالإضافة‭ ‬إلى‭ ‬الضعف‭ ‬الذي‭ ‬شاب‭ ‬الجهاز‭ ‬القضائي‭ ‬وتسبب‭ ‬في‭ ‬عدم‭ ‬قدرته‭ ‬أيضاً‭ ‬على‭ ‬إجراء‭ ‬المحاكمات‭ ‬بحيادية‭ ‬تامة‭ ‬،‭ ‬وذلكَ‭ ‬نتيجةَ‭ ‬قيامِ‭ ‬حكومة‭ ‬الإنقاذ‭ ‬بإحالة‭ ‬معظم‭ ‬القضاة‭ ‬المؤهلين‭ ‬للصالح‭ ‬العام‭ ‬بناء‭ ‬على‭ ‬خلفياتهم‭ ‬السياسية،‭ ‬كما‭ ‬أشارت‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬القانون‭ ‬الجنائي‭ ‬السوداني‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬ينصُّ‭ ‬على‭ ‬هذه‭ ‬الجرائم‭ ‬ذات‭ ‬الطابع‭ ‬الدولي‭ ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬التزامات‭ ‬السودان‭ ‬وانضمامه‭ ‬لاتفاقيات‭ ‬جنيف‭ ‬الأربع‭ ‬والعهدين‭ ‬الدوليين‭ ‬وغيرها‭ ‬،‭ ‬والتي‭ ‬تُجرِّم‭ ‬هذه‭ ‬الافعال‭.‬

استمرت‭ ‬الحكومة‭ ‬السودانية‭ ‬في‭ ‬توجيه‭ ‬حربها‭ ‬تجاه‭ ‬المحكمة‭ ‬الجنائية‭ ‬الدولية،‭ ‬وأخذت‭ ‬تبحث‭ ‬عن‭ ‬حلول‭ ‬محلية‭ ‬وأفريقية‭. ‬فكان‭ ‬من‭ ‬ضمن‭ ‬أدوات‭ ‬هذه‭ ‬الحرب،‭ ‬إنشاء‭ ‬المحكمة‭ ‬الخاصة‭ ‬بجرائم‭ ‬دارفور‭ ‬في‭ ‬7‭ ‬يونيو‭ ‬عام‭ ‬2005م‭ ( ‬بعد‭ ‬يوم‭ ‬واحد‭ ‬من‭ ‬إعلان‭ ‬المدعي‭ ‬العام‭ ‬للمحكمة‭ ‬الجنائية‭ ‬الدولية‭ ‬أنه‭ ‬سيبدأ‭ ‬التحري‭ ‬في‭ ‬قضية‭ ‬دارفور‭) ‬،‭ ‬بالإضافة‭ ‬إلى‭ ‬ذلك،‭ ‬تم‭ ‬تعيين‭ ‬مدعي‭ ‬عام‭ ‬لجرائم‭ ‬دارفور‭ . ‬كما‭ ‬بحثت‭ ‬الحكومة‭ ‬عن‭ ‬دعم‭ ‬إقليمي‭ ‬وحلول‭ ‬أخرى‭ ‬عبر‭ ‬الاتحاد‭ ‬الإفريقي،‭ ‬حيث‭ ‬قامت‭ ‬وكسابقتها‭ (‬لجنة‭ ‬تقصي‭ ‬الحقائق‭ ‬الدولية‭) ‬انتهى‭ ‬تقرير‭ ‬لجنة‭ ‬الحكماء‭ ‬إلى‭ ‬وجود‭ ‬انتهاكات‭ ‬جسيمة‭ ‬اُرْتُكِبَتْ‭ ‬في‭ ‬إقليم‭ ‬دارفور‭ ‬،‭ ‬كما‭ ‬ذكرت‭ ‬اللجنة‭ ‬في‭ ‬تقريرها‭ ‬أنَّ‭ ‬القضاء‭ ‬السوداني‭ ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬قدرته‭ ‬على‭ ‬إجراء‭ ‬هذه‭ ‬المحاكمات،إلا‭ ‬أنَّ‭ ‬ضحايا‭ ‬هذه‭ ‬الانتهاكات‭ ‬ليست‭ ‬لديهم‭ ‬الثقة‭ ‬الكافية‭ ‬في‭ ‬القضاء‭ ‬السوداني‭ ‬للقيام‭ ‬بإجراء‭ ‬محاكمات‭ ‬نزيهة‭ ‬وعادلة‭ ‬،‭ ‬لذلك‭ ‬وضعت‭ ‬اللجنة‭ ‬توصيتها‭ ‬بتشكيل‭ ‬محكمة‭ ‬مختلطة‭ ‬Hybrid Court‭ ‬يتم‭ ‬تشكيلُها‭ ‬من‭ ‬قضاةٍ‭ ‬سودانيين‭ ‬وقضاةٍ‭ ‬غير‭ ‬سودانيين،‭ ‬حيث‭ ‬أوصت‭ ‬‮«‬في‭ ‬سياق‭ ‬تقريرها‮»‬‭ ‬بتأسيس‭ ‬محاكم‭ ‬مختلطة‭ ‬لتنظر‭ ‬بوجهٍ‭ ‬خاص‭ ‬في‭ ‬الجرائم‭ ‬الخطرة‭ ‬المرتكبة‭ ‬في‭ ‬دارفور،‭ ‬وتتكون‭ ‬من‭ ‬قضاة‭ ‬سودانيين‭ ‬وغير‭ ‬سودانيين‭ ‬ومن‭ ‬فريقٍ‭ ‬مساعد‭ ‬عالي‭ ‬المستوى،‭ ‬وأن‭ ‬يقوم‭ ‬الاتحاد‭ ‬الإفريقي‭ ‬بتسمية‭ ‬المجموعتين‭ ‬الأخيرتين‭. ‬وشملت‭ ‬توصيات‭ ‬التقرير‭ ‬الحديثَ‭ ‬عن‭ ‬العدالة‭ ‬الاقتصادية‭ ‬والاجتماعية‭ ‬التي‭ ‬تَمنح‭ ‬ضحايا‭ ‬هذه‭ ‬الانتهاكات‭ ‬في‭ ‬دارفور‭ ‬تعويضاتٍ‭ ‬فرديةً‭ ‬وجماعية،‭ ‬ووضع‭ ‬خطة‭ ‬شاملة‭ ‬لإعادة‭ ‬إعمار‭ ‬دارفور‭ ‬بما‭ ‬يعالج‭ ‬اختلال‭ ‬الموازنة‭ ‬التاريخية‭ ‬في‭ ‬حق‮ ‬‭ ‬الإقليم‭. ‬وأوصى‭ ‬التقرير‭ ‬أن‭ ‬يرعى‭ ‬الاتحاد‭ ‬الإفريقي‭ ‬والأمم‭ ‬المتحدة‭ ‬الوساطة‭ ‬الدولية‭ ‬حول‭ ‬دارفور‭ ‬حتى‭ ‬تؤدي‭ ‬إلى‭ ‬إنجاح‭ ‬المفاوضات‭ ‬في‭ ‬إطارٍ‭ ‬زمنيٍّ‭ ‬محدد،‭ ‬وأن‭ ‬تُنشأ‭ ‬مفوضيةُ‭ ‬تنفيذٍ‭ ‬ومراقبةٍ‭ ‬بصلاحياتٍ‭ ‬واسعةٍ‭ ‬حتى‭ ‬تُشْرِفَ‭ ‬على‭ ‬تنفيذ‭ ‬الاتفاقية‭ ‬السياسية‭ ‬الشاملة‭.‬

أعقبَ‭ ‬ذلك‭ ‬التقريرَ‭ ‬قيامُ‭ ‬مجلس‭ ‬السلم‭ ‬والأمن‭ ‬الإفريقي‭ ‬بقيادة‭ ‬محادثات‭ ‬سلام‭ ‬بين‭ ‬الأطراف‭ ‬المتحاربة‭ ‬في‭ ‬دارفور‭ ‬في‭ ‬عاصمة‭ ‬دولةِ‭ ‬قطر‭ (‬الدَّوْحَة‭) ‬اِنتهت‭ ‬بالتوقيع‭ ‬على‭ ‬اتفاقية‭ ‬سلام‭ ‬دارفور‭ ( ‬أو‭ ‬اتفاقية‭ ‬الدوحة‭ ) ‬في‭ ‬عام‭ ‬2011م‭ ‬بين‭ ‬حكومة‭ ‬السودان‭ ‬وحركة‭ ‬التحرير‭ ‬والعدالة‭ ( ‬دون‭ ‬الفصائل‭ ‬الأخرى‭ ‬المتحاربة‭). ‬والملاحظُ،‭ ‬خلافاً‭ ‬لاتفاقيات‭ ‬السلام‭ ‬السابقة‭ ‬سواء‭ ‬كانت‭ ‬المتعلقة‭ ‬بالجنوب‭ ‬أو‭ ‬اتفاق‭ ‬أبوجا‭ (‬المشار‭ ‬إليها‭ ‬آنفاً‭) ‬،‭ ‬فإن‭ ‬اتفاقية‭ ‬الدوحة‭ ‬قد‭ ‬حَوَتْ‭ ‬فصلاً‭ ‬كاملاً‭ ‬عن‭ ‬العدالة‭ ‬الانتقالية‭ ‬وآلياتها،والنَّصَّ‭ ‬على‭ ‬المحاسبة‭ ‬ومحاكمة‭ ‬المتورطين‭ ‬بانتهاكات‭ ‬القانون‭ ‬الدولي‭ ‬الإنساني‭ ‬،وتكوين‭ ‬لجنة‭ ‬الحقيقة‭ ‬والمصالحة‭ . ‬هذا‭ ‬التَّحَوُّلُ‭ ‬عن‭ ‬النمط‭ ‬السابق‭ ‬في‭ ‬اتفاقيات‭ ‬السلام‭ ‬،يُفهم‭ ‬في‭ ‬سياق‭ ‬بحث‭ ‬الحكومة‭ ‬المستمر‭ ‬عن‭ ‬مخرج‭ ‬من‭ ‬مأذق‭ ‬المحكمة‭ ‬الجنائية،والبحث‭ ‬عن‭ ‬حلول‭ ‬داخل‭ ‬القارة‭ ‬الإفريقية‭ ‬وإيجاد‭ ‬بديل‭ ‬للمحكمة‭ ‬الجنائية‭. ‬ولعل‭ ‬اِستدعاء‭ ‬الرئيس‭ ‬الكيني‭ ‬اوهورو‭ ‬كينياتا‭ ‬وإعْلانَه‭ ‬بواسطة‭ ‬المحكمة‭ ‬الجنائية‭ ‬‮«‬لاحقاً‮»‬‭ ‬قد‭ ‬استفادت‭ ‬منه‭ ‬الحكومة‭ ‬في‭ ‬تحريك‭ ‬الاتحاد‭ ‬الإفريقي‭ ‬باتخاذ‭ ‬خطوات‭ ‬نحو‭ ‬استهداف‭ ‬المحكمة‭ ‬الجنائية‭ ‬للدول‭ ‬الإفريقية‭ ‬ورؤساء‭ ‬هذه‭ ‬الدول‭. ‬وقد‭ ‬عبَّرَ‭ ‬الاتحاد‭ ‬الإفريقي‭ ‬عن‭ ‬قلقه‭ ‬بشأْنِ‭ ‬استهداف‭ ‬المحكمة‭ ‬الجنائية‭ ‬الدولية‭ ‬رؤساءَ‭ ‬إفريقيا‭ ‬وقادةَ‭ ‬دُولِها‭.‬

كذلك‭ ‬قامت‭ ‬الحكومة‭ ‬بتعديل‭ ‬القانون‭ ‬الجنائي‭ ‬وقانون‭ ‬قوات‭ ‬الشعب‭ ‬المسلحة‭ ‬،وذلك‭ ‬بإضافة‭ ‬موادَّ‭ ‬تتعلق‭ ‬بانتهاك‭ ‬القانون‭ ‬الدولي‭ ‬الإنساني‭ ‬،‭ ‬وتم‭ ‬إنشاء‭ ‬وحدة‭ ‬خاصة‭ ‬بالعنف‭ ‬الجنسي‭ ‬لدى‭ ‬وزارة‭ ‬العدل‭. ‬وشملت‭ ‬التعديلات‭ ‬إلغاء‭ ‬التعامل‭ ‬بأورنيك‭ ‬8‭ ‬المثير‭ ‬للجدل‭ ‬في‭ ‬شأن‭ ‬جرائم‭ ‬الاغتصاب‭ ‬وذلك‭ ‬بقرار‭ ‬من‭ ‬وزير‭ ‬العدل‭. ‬الجدير‭ ‬بالذكر‭ ‬أنَّ‭ ‬هذه‭ ‬التعديلات‭ ‬تمت‭ ‬بعد‭ ‬عامِ‭ ‬2009م،‭ ‬ومعظمُ‭ ‬هذه‭ ‬الجرائم‭ ‬تم‭ ‬ارتكابها‭ ‬منذ‭ ‬عام‭ ‬2003م،‭ ‬مما‭ ‬يَعْدِمُ‭ ‬فعالية‭ ‬هذه‭ ‬التعديلات‭ ‬وفقاً‭ ‬لنظرية‭ ‬عدم‭ ‬تطبيق‭ ‬القوانين‭ ‬الجنائية‭ ‬بأثر‭ ‬رجعي‭ ‬ويسري‭ ‬القانون‭ ‬‮«‬فقط‮»‬‭ ‬على‭ ‬الجرائم‭ ‬اللاحقة‭ ‬لتعديله‭ ‬،‭ ‬إِلَّا‭ ‬إذا‭ ‬كان‭ ‬قانوناً‭ ‬أصلحَ‭ ‬للمُتَّهم‭. ‬كذلك‭ ‬فإن‭ ‬هذا‭ ‬التعديل‭ ‬لم‭ ‬يشملِ‭ ‬النَّصَّ‭ ‬على‭ ‬مسؤولية‭ ‬القائد‭ ‬عن‭ ‬قواته‭ (‬Command Responsibility‭ ) ‬وهذا‭ ‬النَّصُّ‭ ‬‮«‬‭ ‬في‭ ‬حالِ‭ ‬تَضْمِيْنِه‮»‬‭ ‬سَيُمَكِّنُ‭ ‬الاتهامَ‭ ‬من‭ ‬الوصول‭ ‬إلى‭ ‬قادة‭ ‬الجيش‭ ‬أو‭ ‬رؤسائِه‭ ‬،‭ ‬ومن‭ ‬العوائق‭ ‬التي‭ ‬تعترض‭ ‬سير‭ ‬العدالة‭ ‬في‭ ‬السودان،‭ ‬الحصاناتُ‭ ‬الهائلة‭ ‬المنصوص‭ ‬عليها‭ ‬في‭ ‬القوانين‭ ‬المختلفة‭ ‬والتي‭ ‬‮«‬بلا‭ ‬شكٍّ‮»‬‭ ‬تُقَلِّلُ‭ ‬من‭ ‬فعالية‭ ‬النصوص‭ ‬التي‭ ‬تُجَرِّمُ‭ ‬هذه‭ ‬الانتهاكات‭ ‬الجسيمة،وتُضْعِفُ‭ ‬ثقة‭ ‬الضحايا‭ ‬والجهات‭ ‬العدلية‭ ‬الدولية‭ ‬في‭ ‬مصداقية‭ ‬الحكومة‭ ‬والقضاء‭ ‬الوطني‭ ‬ورغبتِهما‭ ‬في‭ ‬محاكمة‭ ‬المتورطين،‭ ‬وإنصاف‭ ‬الضحايا‭.‬واستناداً‭ ‬على‭ ‬قيامها‭ ‬بمحاكمات‭ ‬نزيهة‭ ‬وعادلة،‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬الممكن‭ ‬لحكومة‭ ‬السودان‭ ‬أن‭ ‬تحذو‭ ‬حذوَ‭ ‬دولةِ‭ ‬ليبيا‭ ‬بأن‭ ‬تطعن‭ ‬في‭ ‬عدم‭ ‬مقبولية‭ ‬الدعوى‭ ‬وتدفع‭ ‬بها‭ ‬إلى‭ ‬المحكمة‭ ‬الجنائية‭ ‬الدولية‭ ‬استناداً‭ ‬على‭ ‬نَصِّ‭ ‬المادة‭ (‬19‭) ‬من‭ ‬ميثاق‭ ‬روما‭ ‬كما‭ ‬فعلت‭ ‬الحكومة‭ ‬الليبية‭ ‬عندما‭ ‬أحال‭ ‬مجلس‭ ‬الأمن‭ ‬الدولي‭ ‬ملف‭ ‬ليبيا‭ ‬إلى‭ ‬المحكمة‭ ‬الجنائية‭ ‬على‭ ‬أساس‭ ‬أن‭ ‬قضيةعبد‭ ‬الله‭ ‬السنوسي‭( ‬أحد‭ ‬رموز‭ ‬حكومة‭ ‬القذافي‭ ) ‬موضع‭ ‬تحقيقٍ‭ ‬وطني‭ ‬أمام‭ ‬السلطات‭ ‬الوطنية‭ ‬الليبية‭ ‬،‭ ‬ولأن‭ ‬الحكومة‭ ‬الليبية‭ ‬راغبة‭ ‬في‭ ‬التحقيق‭ ‬وقادرة‭ ‬عليه،‭ ‬قررت‭ ‬الدائرة‭ ‬التمهيدية‭ ‬في‭ ‬المحكمة‭ ‬الجنائية‭ ‬ومن‭ ‬بعدها‭ ‬دائرة‭ ‬الاستئناف‭ ‬عدم‭ ‬مقبولية‭ ‬الدعوى‭. ‬ولعله‭ ‬من‭ ‬الأهمية‭ ‬الإشارة‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬كل‭ ‬هذه‭ ‬الاصلاحات‭ ‬القانونية‭ ‬والمؤسسات‭ ‬والمحاكم‭ ‬التي‭ ‬أقامتها‭ ‬الحكومة‭ ‬السودانية‭ ‬كانت‭ ‬فقط‭ ‬واجهات‭ ‬لتحسين‭ ‬صورة‭ ‬الدولة‭ ‬لأنه‭ ‬لم‭ ‬يُقدم‭ ‬أي‭ ‬من‭ ‬الذين‭ ‬تورطوا‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الانتهاكات‭ ‬للمحاكمة‭ ‬والمساءلة‭ ‬من‭ ‬خلالها‭.‬

على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬الشد‭ ‬والجذب‭ ‬بين‭ ‬المحكمة‭ ‬الجنائية‭ ‬الدولية‭ ‬وحكومة‭ ‬السودان،‭ ‬وتضييق‭ ‬الخناق‭ ‬على‭ ‬السودان‭ ‬،‭ ‬إِلّا‭ ‬أنَّ‭ ‬التداعيات‭ ‬السياسية‭ ‬لتدخُّل‭ ‬المحكمة‭ ‬الجنائية‭ ‬كان‭ ‬أكبر‭ ‬من‭ ‬تلك‭ ‬القانونية‭ ‬،حيث‭ ‬فشلت‭ ‬المحكمة‭ ‬في‭ ‬إلقاء‭ ‬القبض‭ ‬على‭ ‬أيٍ‭ ‬من‭ ‬الذين‭ ‬أصدرت‭ ‬في‭ ‬حقهم‭ ‬أوامر‭ ‬قبض‭ ‬،‭ ‬وحتى‭ ‬الدول‭ ‬التي‭ ‬يتوجب‭ ‬عليها‭ ‬التعاون‭ ‬مع‭ ‬المحكمة‭ ‬وتسليم‭ ‬البشير‭ ‬إذا‭ ‬تخطَّى‭ ‬أراضيها‭ ‬أو‭ ‬قام‭ ‬بزيارتها‭ ( ‬مثال‭ ‬جنوب‭ ‬إفريقيا‭ ‬والأردن‭) ‬باعتبارها‭ ‬أطراف‭ ‬في‭ ‬معاهدة‭ ‬روما‭ ‬،لم‭ ‬تتعاون‭ ‬مع‭ ‬المحكمة‭ ‬الجنائية‭ ‬،‭ ‬لذا،‭ ‬يمكن‭ ‬القول‭ ‬إنَّ‭ ‬تدخل‭ ‬المحكمة‭ ‬الجنائية‭ ‬في‭ ‬السودان‭ ‬يُعَدُّ‭ ‬شكلاً‭ ‬من‭ ‬الضغط‭ ‬السياسي‭ ‬من‭ ‬جانب‭ ‬الدول‭ ‬الغربية‭ ‬على‭ ‬نظام‭ ‬البشير،‭ ‬يضاف‭ ‬إلى‭ ‬جملة‭ ‬الضغوط‭ ‬الأخرى‭ ‬المفروضة‭ ‬على‭ ‬الحكومة،‭ ‬كالعقوبات‭ ‬الاقتصادية‭ ‬المفروضة‭ ‬من‭ ‬قِبَلِ‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬الأمريكية‭ ‬على‭ ‬السودان‭ ‬والتي‭ ‬تُعدُّ‭ ‬مِن‭ ‬أبرز‭ ‬هذه‭ ‬الضغوط‭. ‬ولكي‭ ‬يتمكن‭ ‬السودان‭ ‬من‭ ‬إجراء‭ ‬هذه‭ ‬المحاكمات،‭ ‬يتوجَّبُ‭ ‬عَليْه‭ ‬بناء‭ ‬المؤسسات‭ ‬والأجهزة‭ ‬العدلية‭ ‬والتي‭ ‬هي‭ ‬واحدة‭ ‬أولويات‭ ‬الحكومة‭ ‬المدنية‭ ‬الانتقالية،‭ ‬وتشمل‭ ‬كذلك‭ ‬الجهاز‭ ‬القضائي‭ ‬،‭ ‬والمحاماة‭ ‬والشرطة‭ ‬،كما‭ ‬تتضمن‭ ‬مراجعة‭ ‬القوانين‭ ‬وإصلاحها‭ ‬،لذلك‭ ‬فإن‭ ‬الإصلاح‭ ‬القانوني‭ ‬وإصلاح‭ ‬المؤسسات،‭ ‬مُقَدَّمٌ‭ ‬على‭ ‬المحاسبة،‭ ‬لأن‭ ‬كل‭ ‬هذه‭ ‬الإصلاحات‭ ‬هي‭ ‬التي‭ ‬تضمن‭ ‬المحاسبة‭ ‬سواء‭ ‬حالياً‭ ‬أو‭ ‬مستقبلاً،‭ ‬وهذه‭ ‬سانحة‭ ‬تاريخية‭ ‬لإصلاح‭ ‬المؤسسات‭ ‬العدلية‭ ‬وإجراء‭ ‬محاكماتٍ‭ ‬يُمكن‭ ‬أنْ‭ ‬تشكِّلَ‭ ‬إرثاً‭ ‬قانونيّاً‭ ‬للأجيال‭ ‬السودانية‭ ‬في‭ ‬المستقبل،‭ ‬وتُعزِّز‭ ‬تجربة‭ ‬القضاء‭ ‬السوداني‭ ‬في‭ ‬إجراء‭ ‬محاكماتٍ‭ ‬لهذا‭ ‬النوع‭ ‬من‭ ‬الانتهاكات‭ .‬وفوق‭ ‬هذا‭ ‬وذاك‭ ‬،تضمن‭ ‬إجراء‭ ‬محاكمات‭ ‬عادلة‭ ‬ونزيهة‭ ‬ومستقلة‭ ‬لمرتكبي‭ ‬هذه‭ ‬الانتهاكات‭.‬

تجدر‭ ‬الإِشارة‭ ‬هُنا‭ ‬إلى‭ ‬أنَّ‭ ‬المحكمة‭ ‬الجنائية‭ ‬ينعقد‭ ‬لها‭ ‬الاختصاص‭ ‬في‭ ‬الجرائم‭ ‬المتعلقة‭ ‬بانتهاكات‭ ‬القانون‭ ‬الدولي‭ ‬الإنساني‭ ‬وفق‭ ‬ماهو‭ ‬منصوص‭ ‬عليه‭ ‬في‭ ‬ميثاق‭ ‬روما،‭ ‬إلَّا‭ ‬أن‭ ‬هنالك‭ ‬انتهاكات‭ ‬ٍأخرى‭ ‬للقانون‭ ‬السوداني‭ ‬لا‭ ‬تختص‭ ‬بنظرها‭ ‬المحكمة‭ ‬الجنائية‭ ‬الدولية،‭ ‬مثل‭ ‬قضايا‭ ‬الفساد،‭ ‬والتعامل‭ ‬في‭ ‬النقد‭ ‬الأجنبي،‭ ‬وغسل‭ ‬الأموال،‭ ‬وقتل‭ ‬المتظاهرين‭ ‬العُزَّل‭ ‬وعمومِ‭ ‬انتهاكِ‭ ‬الحقوق‭ ‬المنصوص‭ ‬عليها‭ ‬في‭ ‬وثيقة‭ ‬الحقوق‭ ‬في‭ ‬الدستور‭ ‬الانتقالي‭ ‬لسنة‭ ‬2005م‭ . ‬وهذه‭ ‬الحقوق‭ ‬تشمل‭ ‬الحقوقَ‭ ‬التي‭ ‬فصلَّها‭ ‬

الدستور‭ ‬ونصَّ‭ ‬عليها‭ ‬تحديداً،‭ ‬واعتبر‭ ‬الدستور‭ ‬كل‭ ‬الحقوق‭ ‬والحريات‭ ‬المضمنة‭ ‬في‭ ‬الاتفاقيات‭ ‬والعهود‭ ‬والمواثيق‭ ‬الدولية‭ ‬لحقوق‭ ‬الإنسان‭ ‬والمصادق‭ ‬عليها‭ ‬من‭ ‬قِبَلِ‭ ‬جمهورية‭ ‬

السودان‭ ‬جزءاً‭ ‬لا‭ ‬يتجزأ‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬الوثيقة‭ ( ‬المادة‭ ‬27‭ (‬3‭) ) ‬من‭ ‬الدستور‭. ‬والدستور‭ ‬الانتقالي‭ ‬أجاز‭ ‬اتهام‭ ‬رئيس‭ ‬الجمهورية‭ ‬والنائب‭ ‬الأول‭ ‬أمام‭ ‬المحكمة‭ ‬الدستورية‭ ‬حال‭ ‬انتهاك‭ ‬الدستور‭. ‬لذلك‭ ‬فإن‭ ‬المحكمة‭ ‬الدستورية‭ ‬ينعقد‭ ‬لها‭ ‬الاختصاص‭ ‬الجنائي‭ ‬في‭ ‬مواجهة‭ ‬الرئيس‭ ‬ونائبه‭ ‬وفق‭ ‬نصوص‭ ‬قانون‭ ‬المحكمة‭ ‬الدستورية‭ ‬لعام‭ ‬2005م،‭ ‬ويجوز‭ ‬لها‭ ‬ممارسة‭ ‬السلطات‭ ‬الإجرائية‭ ‬للمحكمة‭ ‬الجنائية‭ ‬ورد‭ ‬الحق‭ ‬للمتظلم‭ ‬وتعويضه‭ ‬عن‭ ‬الضرر‭.‬

‭ ‬وطالما‭ ‬أنَّ‭ ‬هناك‭ ‬مؤسساتٍ‭ ‬ونظاماً‭ ‬قضائيّاً‭ ‬سودانيّاً‭ (‬ومهما‭ ‬كان‭ ‬الخراب‭ ‬الذي‭ ‬لَحِقَ‭ ‬بِهِ‭ ‬طوال‭ ‬الثلاثين‭ ‬سنة‭ ‬الماضية‭ ) ‬،‭ ‬فلا‭ ‬يزال‭ ‬الأمر‭ ‬متاحاً‭ ‬للإصلاح‭. ‬وطالما‭ ‬يوجد‭ ‬عدد‭ ‬لا‭ ‬يستهان‭ ‬به‭ ‬من‭ ‬الخبرات‭ ‬السودانية‭ ‬في‭ ‬كافة‭ ‬المجالات‭ ‬القانونية‭ ‬،‭ ‬فإنَّ‭ ‬من‭ ‬الأفضل‭ ‬أنْ‭ ‬تَتِمَّ‭ ‬هذه‭ ‬المحاكمات‭ ‬في‭ ‬السودان،‭ ‬فهي‭ ‬فرصة‭ ‬‮«‬تاريخية‮»‬‭ ‬للقضاء‭ ‬السوداني‭ ‬لاستعادة‭ ‬عافيته،‭ ‬وإثبات‭ ‬ذاته،‭ ‬ومراجعة‭ ‬القرارات‭ ‬التي‭ ‬تمت‭ ‬بشأن‭ ‬إحالة‭ ‬القضاة‭ ‬‮«‬المؤهلين‮»‬‭ ‬للصالح‭ ‬العام‭ ‬إِبَّانَ‭ ‬نظام‭ ‬الإنقاذ‭ . ‬و‭ ‬بشكل‭ ‬عام،‭ ‬فإنَّ‭ ‬المحاكمات‭ ‬في‭ ‬السودان‭ ‬مهمة‭ ‬للضحايا،‭ ‬فــــــــ‭ (‬العَدَالَةُ‭ ‬يَجِبُ‭ ‬أنْ‭ ‬تُنْجَزَ،‭ ‬وتُرَى‭ ‬بأنَّها‭ ‬تُنْجَزُ‭) ‬Justice must be done and seen to be done‭ . ‬ولكي‭ ‬تتولي‭ ‬الدولة‭ ‬السودانية‭ ‬الولاية‭ ‬القضائية‭ ‬على‭ ‬هذه‭ ‬الجرائم،‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬تثبت‭ ‬للمجتمع

‭ ‬الدولي‭ ‬أنها‭ ‬راغبة‭ ‬في‭ ‬إجراء‭ ‬هذه‭ ‬المحاكمات،‭ ‬وهذه‭ ‬الرغبة‭ ‬تتمثل‭ ‬في،‭ ‬إثبات‭ ‬مباشرة‭ ‬الإجراءات‭ ‬المتعلقة‭ ‬بالمسئولية‭ ‬الجنائية‭ ‬عن‭ ‬الجرائم‭ ‬الداخلة‭ ‬في‭ ‬اختصاص‭ ‬المحكمة‭ ‬الجنائية‭ ‬الدولية،‭ ‬والابتعاد‭ ‬عن‭ ‬أي‭ ‬تأخير‭ ‬للإجراءات‭ ‬أو‭ ‬تأخير‭ ‬عن‭ ‬تقديم‭ ‬الشخص‭ ‬المعني‭ ‬للعدالة

‭ ‬دون‭ ‬مبرر‭ ‬،‭ ‬والحرص‭ ‬على‭ ‬مباشرة‭ ‬الإجراءات‭ ‬بشكل‭ ‬مستقل‭ ‬أو‭ ‬نزيه‭ ‬يتفق‭ ‬مع‭ ‬نية‭ ‬تقديم‭ ‬الشخص‭ ‬المعني‭ ‬للعدالة‭ ‬وإثبات‭ ‬الوجود‭ ‬الفاعل‭ ‬لمؤسسات‭ ‬القضاء‭ ‬الوطني‭ ‬وعدم‭ ‬انهيارها‭ ‬بشكل‭ ‬كلي‭ ‬أو‭ ‬جوهري‭. ‬كذلك‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬تؤكد‭ ‬الدولة‭ ‬السوداني‭ ‬وتثبت‭ ‬أنها‭ ‬قادرة‭ ‬على‭ ‬إجراء‭ ‬هذه‭ ‬المحاكمات‭ ‬ويكون‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬إثبات‭ ‬قدرة‭ ‬مؤسسات‭ ‬القضاء‭ ‬الوطني‭ ‬على‭ ‬إحضار‭ ‬المتهم‭ ‬والحصول‭ ‬على‭ ‬الأدلة‭ ‬والشهادات‭ ‬الضرورية‭ ‬والاضطلاع‭ ‬بإجراءات‭ ‬هذه‭ ‬المحاكمات‭ ‬وهذا‭ ‬يتم‭ ‬بشكل‭ ‬عملي‭ ‬خلاف‭ ‬الـتأكيدات‭ ‬النظرية‭ ‬التي‭ ‬درجت‭ ‬عليها‭ ‬الحكومة‭ ‬السابقة‭ ‬دون‭ ‬أي‭ ‬فعل‭ ‬حقيقي‭ ‬في‭ ‬أرض‭ ‬الواقع‭.‬

ويتعين‭ ‬الاستفادة‭ ‬من‭ ‬تجارب‭ ‬الدول‭ ‬الأخرى‭ ‬في‭ ‬المحاكمات‭ ‬الدولية‭ ‬والمحلية‭ ‬مثل‭ ‬دولة‭ ‬رواند‭ ‬عندما‭ ‬قام‭ ‬مجلس‭ ‬الأمن‭ ‬الدّولي‭ ‬بتأسيس‭ ‬المحكمة‭ ‬الجنائية‭ ‬الدولية‭ ‬لرواندا‭ ‬ومقرها‭ ‬في‭ ‬أروشا‭ ‬بدولة‭ ‬تنزانيا‭ ‬لتحاكم‭ ‬المتورطين‭ ‬في‭ ‬أحداث‭ ‬الإبادة‭ ‬الجماعية‭ ‬في‭ ‬رواندا‭ ‬عام‭ ‬1994م،‭ ‬حيث‭ ‬تمت‭ ‬إبادة‭ ‬ثمانمائة‭ ‬ألفٍ‭ (‬800,000‭) ‬من‭ ‬التُّوتسي‭ ‬على‭ ‬أيدي‭ ‬الهوتو‭ ‬،‭ ‬وذلك‭ ‬خلال‭ ‬مائة‭ ‬يوم‭ ‬،‭ ‬استمرت‭ ‬فيها‭ ‬أحداث‭ ‬القتل‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يحرك‭ ‬المجتمع‭ ‬الدولي‭ ‬ساكناً‭. ‬ومقارنةً‭ ‬بالتكلفة‭ ‬المالية‭ ‬الضخمة‭ ‬والزمن‭ ‬الذي‭ ‬استغرقه‭ ‬تأسيس‭ ‬هذه‭ ‬المحكمة،‭ ‬إِلَّا‭ ‬أنَّها‭ ‬حاكمت‭ ‬عدداً‭ ‬قليلاً‭ ‬جداً‭ ‬من‭ ‬المتهمين‭ ‬،‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬أنَّ‭ ‬المحاكم‭ ‬المحلية‭ ‬‮«‬أو‭ ‬ما‭ ‬يُعرف‭ ‬بمحاكم‭ ‬القجاجا‮»‬‭ ‬قد‭ ‬قامت‭ ‬بمحاكمة‭ ‬الآلاف‭ ‬من‭ ‬المتهمين‭ ‬وكانت‭ ‬هذه‭ ‬المحاكمات‭ ‬أقرب‭ ‬إلى‭ ‬لجان‭ ‬الحقيقة‭ ‬والمصالحة‭ ‬وبالتالي‭ ‬تمكنت‭ ‬روندا‭ ‬عبر‭ ‬الاعتماد‭ ‬على‭ ‬هذه‭ ‬الترتيبات‭ ‬المحلية‭ ‬لتحقيق‭ ‬العدالة‭ ‬والمصالحة‭ ‬الوطنية،‭ ‬من‭ ‬عبور‭ ‬تلك‭ ‬الأحداث‭ ‬المؤسفة‭ ‬وهي‭ ‬أكثر‭ ‬تماسكاً‭ ‬وثقةً‭ ‬في‭ ‬مؤسساتها‭ ‬الوطنية‭. ‬وهذا‭ ‬الأمر‭ ‬أيضاً‭ ‬ينطبق‭ ‬على‭ ‬المحكمة‭ ‬الجنائية‭ ‬الدولية‭ ‬لدولة‭ ‬يوغوسلافيا‭ ‬السابقة‭ ‬،‭ ‬وعلى‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬أنَّ‭ ‬هذه‭ ‬المحكمة‭ ‬كانت‭ ‬مدعومةً‭ ‬بشكل‭ ‬خاصٍّ‭ ‬من‭ ‬الاتحاد‭ ‬الأوروبي‭ ‬إلا‭ ‬أنَّ‭ ‬تكلفتها‭ ‬‮«‬المالية‮»‬‭ ‬العالية‭ ‬مقارنةً‭ ‬بجملة‭ ‬الإنجازات‭ ‬والمحاكمات‭ ‬وطول‭ ‬أمَدِها‭ ‬يجعلنا‭ ‬ننتهي‭ ‬إلى‭ ‬نتيجةٍ‭ ‬مفادُها‭ ‬أنَّ‭ ‬المحاسبة‭ ‬‮«‬من‭ ‬الأفضل‮»‬‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬عبر‭ ‬القضاء‭ ‬السوداني‭ ‬والابتعاد‭ ‬عن‭ ‬المحاكمات‭ ‬الدولية‭ ‬والتي‭ ‬غالباً‭ ‬ما‭ ‬تكون‭ ‬مطعَّمةً‭ ‬بالمصالح‭ ‬السياسية‭. ‬وتَوَلِّي‭ ‬القضاءِ‭ ‬السوداني‭ ‬لهذه‭ ‬المحاكماتِ‭ ‬فيه‭ ‬تأكيد‭ ‬أيضاً‭ ‬لسيادة‭ ‬الدولة‭ ‬وإبعاد‭ ‬شبح‭ ‬التدخُّلات‭ ‬والضعوط‭ ‬الخارجية‭ ‬بدعوى‭ ‬تطبيق‭ ‬العدالة‭ ‬،‭ ‬لا‭ ‬سيما‭ ‬وأن‭ ‬إقامة‭ ‬العدل‭ ‬هي‭ ‬من‭ ‬أبرز‭ ‬مظاهر‭ ‬ممارسة‭ ‬هذه‭ ‬السيادة‭.‬

وعلى‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬قناعتي‭ ‬الشخصية‭ ‬بقدرة‭ ‬القضاء‭ ‬السوداني‭ ‬الوطني‭ ‬على‭ ‬إجراء‭ ‬المحاسبة‭ ‬على‭ ‬تلك‭ ‬الانتهاكات‭ ‬،‭ ‬لكنْ‭ ‬و‭ ‬للعديد‭ ‬من‭ ‬الأسباب‭ (‬بعضها‭ ‬مذكور‭ ‬أعلاه‭ )‬،‭ ‬تصبح‭ ‬قناعةُ‭ ‬ضحايا‭ ‬هذه‭ ‬الانتهاكات‭ ‬وثِقَتُهُم‭ ‬بإجراءات‭ ‬المحاكمات‭ ‬وعدَالَتِها‭ ‬،‭ ‬هي‭ ‬الأهم‭. ‬ولَعَلَّ‭ ‬بناءَ‭ ‬هذه‭ ‬الثقة‭ ‬يحتاج‭ ‬‮«‬الآنَ‮»‬‭ ‬إلى‭ ‬مجموعةٍ‭ ‬من‭ ‬التدابير‭ ‬حتى‭ ‬يستعيد‭ ‬القضاء‭ ‬الوطني‭ ‬السوداني‭ ‬قدرته‭ ‬وأهليته‭ ‬الكاملة‭ ‬والمستقلة‭ ‬والتي‭ ‬لا‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬مُؤخِّراً‭ ‬للعدالة،‭ ‬لذلك‭ ‬أجد‭ ‬مقترح‭ ‬المحكمة‭ ‬المختلطة‭ ‬الذي‭ ‬أوصت‭ ‬به‭ ‬لجنة‭ ‬حكماء‭ ‬أفريقيا‭ ‬جديراً‭ ‬بالاهتمام‭ ‬والدراسة‭ ‬وقابلاً‭ ‬للتطبيق‭ ‬مع‭ ‬الوضع‭ ‬في‭ ‬الاعتبار‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬المحكمة‭ ‬المختلطة‭ ‬يمكن‭ ‬أنْ‭ ‬تُعَدَّ‭ ‬واحدةً‭ ‬من‭ ‬آليات‭ ‬العدالة‭ ‬الانتقالية‭ ‬في‭ ‬المرحلة‭ ‬المقبلة‭. ‬والمحاكم‭ ‬المختلطة‭ ‬تنشأ‭ ‬بموجب‭ ‬اتفاقيات‭ ‬خاصة‭ ‬مع‭ ‬الدول‭ ‬المعنية‭ ‬تحدد‭ ‬فيها‭ ‬كل‭ ‬الأمور‭ ‬المتعلقة‭ ‬بإنشاء‭ ‬المحكمة‭ ‬والقوانين‭ ‬التي‭ ‬تلجأ‭ ‬إليها‭ ‬،‭ ‬إضافة‭ ‬الى‭ ‬قواعد‭ ‬الإجراءات‭ ‬والتنفيذ‭ ‬وكذلك‭ ‬قواعد‭ ‬الإثبات‭ ‬ونظام‭ ‬حمايةٍ‭ ‬للشهود‭ . ‬يمكن‭ ‬الاحتذاء‭ ‬بالسوابق‭ ‬المتعلقة‭ ‬بتجارب‭ ‬هذه‭ ‬المحاكم‭ ‬المختلطة‭ ‬والتي‭ ‬من‭ ‬ضمنها‭ ‬،‭ ‬المحكمة‭ ‬المختلطة‭ ‬في‭ ‬كمبوديا‭ ‬والتي‭ ‬تمت‭ ‬باتفاق‭ ‬بين‭ ‬حكومة‭ ‬كمبوديا‭ ‬والأُمم‭ ‬المتحدة‭ ‬وكان‭ ‬القضاة‭ ‬خليطاً‭ ‬من‭ ‬المحليين‭ ‬والدوليين‭ ‬،‭ ‬كما‭ ‬كانت‭ ‬هيئة‭ ‬الاتهام‭ ‬أيضاً‭ ‬مختلطةً‭ ‬،‭ ‬وكانت‭ ‬الإجراءات‭ ‬تتم‭ ‬وفق‭ ‬قانون‭ ‬العقوبات‭ ‬الكمبودي‭ ‬مع‭ ‬اتباع‭ ‬معايير‭ ‬المحاكمات‭ ‬الدولية‭ ‬كعدم‭ ‬الأخذ‭ ‬بأيِّ‭ ‬حصانة‭ ‬قضائية‭ ‬أو‭ ‬أيِّ‭ ‬عفوٍ‭ ‬عامٍّ‭ ‬أو‭ ‬خاص‭. ‬كذلك‭ ‬تجربة‭ ‬تيمور‭ ‬الشرقية‭ ‬بأندونيسيا‭ ‬عام‭ ‬1999م،‭ ‬وكانت‭ ‬تيمور‭ ‬الشرقية‭ ‬قد‭ ‬وضعت‭ ‬تحت‭ ‬إدارة‭ ‬انتقالية‭ ‬تابعة‭ ‬للأمم‭ ‬المتحدة،‭ ‬فتم‭ ‬تشكيل‭ ‬محكمة‭ ‬مختلطة‭ ‬من‭ ‬قضاة‭ ‬وطنيين‭ ‬ومن‭ ‬ممثلين‭ ‬متخصصين‭ ‬من‭ ‬الأمم‭ ‬المتحدة‭. ‬وكذلك‭ ‬تجربة‭ ‬سيراليون‭ ‬عام‭ ‬2000م،‭ ‬وتجربة‭ ‬المحكمة‭ ‬الخاصة‭ ‬في‭ ‬لبنان‭.‬