بعد التَّحولات السياسية الأخيرة في السودان التي أفضت إلى سقوط نظام البشير في أبريل 2019م،َّ أشارت المدعية العامة للمحكمة الجنائية الدولية في خطابها لمجلس الأمن الدَّوليِّ بتاريخ 19 يونيو 2019م، قائلةً « لا يمكن أن يعود السلام والاستقرار المستدامان إلى دارفور إ لا عند معالجة الأسباب الجذرية للنزاع ويشمل ذلك الإفلات من العقاب على الجرائم المزعوم ارتكابها في دارفور ، المنصوص عليها في نظام روما الأساسي، وضمان تحقيق المساءلة لصالح ضحايا هذه الجرائم الخطيرة».وأضافت،أنَّ على السلطات السودانية الإسراع في تسليم الرئيس السوداني المخلوع عمر البشير، للمحكمة في هولندا، أو محاكمته في العاصمة الخرطوم، على الجرائم التي ارتكبها في إقليم دارفور غربيّ البلاد. هذا الخطاب يشير إلى دور المحكمة واحترامه لمبدأ التكامل، والذي يتحقق بقيام القضاء الوطني بدوره كاملاً في المساءلة والمحاسبة على الجرائم الوحشية في دارفور وغيرها من الجرائم التي اُرْتُكِبتْ في النيل الأزرق وجبال النوبة. وهذا الأمر هو تذكير من مدعية المحكمة الجنائية للمسؤولين في حكومة السودان القادمة للقيام بواجبهم والتزامهم وفق ميثاق الأُمم المتحدة بإِنهاء حالة الإفلات من العقاب ،والعمل على محاكمة المتورطين في هذه الجرائم في المحاكم الوطنية السودانية، وهذا الخطاب يحمل في طياته تحذيراً بأنَّ المحكمة الجنائية الدولية ستتدخل وفق مبدأ التكامل في حال رأت عدم قدرة أو رغبة الحكومة السودانية في محاكمة المتورطين بشكل عادل وشفاف.
المسؤولية الأساسية عن المحاسبة والتحقيق في الجرائم المنصوص عليها في نظام روما الأساسي (النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية) ومقاضاة المتهمين بارتكابها ،إنَّما تقع «وَفْقاً لمبدأ التكامل»، على عاتق الدول . ومبدأ التكامل يعني أن دور المحكمة الجنائية الدولية هو دور مكمِّل «فقط» للقضاء الوطني للدول ولا يَحِلُّ مَحَلَّ القضاء الوطني إِلَّا في حالات محددة ، من ضمنها عدم قدرة هذا القضاء الوطني على محاكمة مرتكبي الجرائم. وعدم القدرة يشمل عدم استقلال المؤسسات العدلية متمثلةً في السلطة القضائية والنائب العام والجهات الأخرى المخول لها إِنفاذ القانون من شُرْطَةٍ وغيرِها . الحالة الأخرى لإِحلال القضاء الدولي محلَّ القضاء الوطني ، عدم رغبة هذه الدول في محاكمة الجناة . وعدم الرغبة يتمثل في انعدام الإِرادة السياسية لإِجراءِ هذه المحاكمات مُتمثِّلةً في التأخير غير المبرِّر في إِجراءات المحاكمات و حماية المتورطين في ارتكاب هذه الانتهاكات ومنحهم حصانات قضائية ودستورية . وفي هذا السياق، ما تم ارتكابه من جرائم ضد المتظاهرين السِّلميين في أَقاليم السودان المختلفة وتشمل فضَّ اعتصام القيادة العامة للجيشِ السُّوداني بالخرطوم في 3 يونيو 2019 وعدم تقديم المتورطين لمحاكمات شفافة ونزيهة أو إِضفاء أيِّ نوعٍ من الحماية لهؤلاء المتورطين يُمْكِنُ أن يُفسَّرَ من جانب المحكمة الجنائية على أنه انعدامٌ للإِرادة السياسة يبرِّر للمحكمة الجنائية الاستمرار في المحاكمات عن جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية المذكورة وفق نص المادة 19 من اتفاقية روما.
ومن المعلوم أن السودان ليس طرفاً في معاهدة روما المُنْشِئَةِ للمحكمة الجنائية الدَّولية ، لكنَّ السودان «بصفته عضواً في ميثاق الأمم المتحدة» مُلْزَمٌ بالقرارات التي يصدرها مجلس الأمن الدَّولي . وبموجب الفصل السابع من هذا الميثاق فإِنَّ مجلس الأمن هو الجهة المنوط بها حفظ السلام والأمن العالميين. لذلك، فإِنَّ المادة 13 من ميثاق روما قد خوَّلت للمحكمة الجنائية الدولية مباشرة الاختصاص حتى على الدول غير الأَعضاء، أي غير المنضمين لمعاهدة روما ،حيث أعطتها هذا الاختصاص في مباشرة القضايا التي تُحَوَّلُ إِلَيها من مجلس الأمن عملاً بالفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة. وتطبيقاً لهذه المادة،أصدر مجلس الأمن الدَّولي القرار رقم 1593 في يونيو 2005 بإِحالة ملف السودان إِلى المحكمة الجنائية الدولية لِتَتولَّى التحقيق والمحاكمة عن الانتهاكات التي وقعت في إِقليم دارفور. وهذا يعني أن السودان مثله مثل أي دولة طرف في ميثاق روما ملزم ومقيد بالقرارات التي تصدر من المحكمة الجنائية الدولية وملزم بالتعاون معها وفقاً للمادة 25 من ميثاق الأمم المتحدة.
تاريخياً تُعَدُّ تجربة القضاء السوداني في المحاسبة وإِجراء محاكماتٍ على انتهاكات حقوق الإِنسان أو ارتكاب جرائم الحرب، ضعيفةً أو على وجه الدقة معدومة، حيث اقتصرت «فقط» على المحاكمات التي تمَّت إِبانَ الفترة الانتقالية التي تلت فترة حكم الرئيس السابق المعزول جعفر نميري. تلك المحاكمات تمت لرموز نظام مايو وركَّزت على قضايا الفساد المالي ،و الإداري والاقتصادي وترحيل الفلاشا ، ولم يتم التركيز فيها «بشكلٍ مباشرٍ» على انتهاكات حقوق الإِنسان وانتهاكات القانون الدولي الإنساني على الجرائم التي وقعت إبانَ الحرب مع جيش الأنانيا ومن بعده الجيش الشعبي لتحرير السودان في الجنوب. وبالتالي يمكن اعتبارها تجربةً ضعيفةً جدّاً لا يمكن أن نركن إليها وحدها للقول بأنَّ القضاء السوداني له تجربة سابقة في إجراء هذا النوع من المحاكمات ، وهذا مرجعه ليس إلى عدم قدرة الجهاز القضائي السوداني «المشهود له بالكفاءة»، ولكنْ بشكل عام يرْجِعُ إلى انعدام الإرادة السياسية في إجراء المُحاسبةِ أو الخضوع لأيِّ نوعٍ منها. وهذا انعكس بوضوح في اتفاقيات السَّلام الموقعة بين الحكومات السودانية المختلفة والحركات المسلحة سواء في جنوب السودان أو غربه.
إِحالةُ ملف دارفور في العام 2005م، تزامن مع التوقيع على اتفاقية السلام الشامل بين حكومة السودان والجيش الشعبي لتحرير السودان ( اتفاقية نيفاشا عام 2005م)، والتي أنهت حرباً بين شمال السودان وجنوبه استمرت لفترة أربعة عقود تقريباً ، حيث بدأت فصول هذه الحرب قُبيْلَ استقلال السودان في 1955م. وعلى الرغم من الانتهاكات التي اُرْتُكبتْ من جانب حكومة السودان وبواسطة الجيش الشعبي لتحرير السودان ومن قبله حركة الأنانيا ، لم يتم الاتفاق «سواء ضمن اتفاقية نيفاشا أو من قبلها اتفاقية أديس أبابا في 1972 إبانَ عهد الرئيس الأَسْبق المخلوع جعفر نميري» علي أيِّ إجراءاتٍ لمحاسبة مرتكبي هذه الانتهاكات، ولم يتم الاتفاق بالتالي على أي إجراءاتٍ للعدالة الانتقالية ضمن اتفاقية نيفاشا. ليس هذا فحسب بل تم منح مرتكبي هذه الفظائع عفواً شاملاً غيرَ مشروطٍ بموجب قانون العفو 1972 ، وكذلك لم يُقدَّمْ أي أحد للمحاسبة بعد التوقيع على اتفاقية نيفاشا في 2005. وهذا ربما فتح الباب على مصراعيه لمزيد من الانتهاكات . وقد أثبتَتِ العديدُ من التجارب أن عدم المحاسبة في الغالب يَنْتُجُ عنه مزيدٌ من الانتهاكات والفظائع . وما يجري في دارفور وجبال النوبة والنيل الأزرق وما تلى انفصال جنوب السودان من أحداث وانتهاكات،لَهِيَ خيرُ أَدِلَّةٍ وأمثلةٍ حية على صدقِ هذه التجارب وصحَّتِها. فَفَوْرَ انفصال جنوب السودان ، وتكوين دولته، لم تسارع الدولة الوليدة في الدخول في إجراءات عدالة انتقالية وما يستتبعها من محاسبةٍ، وبناء وإِصلاح مؤسسات وقوانين وإجراء مصالحة وطنية شاملة ، مما شجَّع الجيش الشعبي لتحرير السودان (السُّلطةُ الحاكمةُ) على الاستمرار في الانتهاكات (طالما توجد حالة إفلات من العقاب فلا يوجد ما يخشاه) وتطورت هذه الانتهاكات إلى حربٍ قبلية وعِرْقيَّة (إثنية) أدخلت الدولة الوليدة في نفق مظلم نتج عنه إجهاض حلم الأشقَّاء في جنوب السودان بدولة القانون والمساواة والعدل.
تم التعامل مع اتفاقية نيفاشا باعتبارها شأناً شماليّاً جنوبيّاً صِرفاً، وبعبارة أخرى ، الاتفاق يتعلق «فقط» بمعالجة مشكلة جنوب السودان من قبل الحكومة السودانية (نظام الإنقاذ) والجيش الشعبي لتحرير السودان وكذلك الوسطاء ، وبالتالي لم تدرج مشكلة دارفور ضمن أجندة اتفاقية نيفاشا ،. حيثُ فضلت حكومة السودان إجراء مفاوضات سلام منفصلة لمعالجة مشكلة دارفور وفي عام 2006، وقد تم التوقيع على اتفاقية سلام دارفور في أبوجا بنيجيريا بين حكومة السودان وحركة تحرير السودان فصيل مني أركو ميناوي، في حين رفض الفصيل الآخر من الحركة بقيادة عبد الواحد محمد نور و حركة العدل والمساواة بقيادة د.خليل إبراهيم، التوقيع على هذا الاتفاق. وفي أثناء مفاوضات اتفاقية أبوجا أثيرت مسألة المحاسبة على الانتهاكات والعدالة خلال تلك المناقشات، إِلا أنَّ حكومة السودان اعترضت ورفضت وضع أي بند يتعلق بالعدالة الانتقالية استناداً على أنَّ ملف العدالة قد تمت إحالته إلى المحكمة الجنائية الدولية.
و كما هو متوقع ، لم يتحقق السلام المنشود في دارفور بعد التوقيع على تلك الاتفاقية وبالتالي لم تفشل الاتفاقية فحسب، بل ازدادت حدة المعارك وضراوتها بين الأطراف المتحاربة في دارفور، وبالتالي ازدادت كمية الانتهاكات الجسيمة التي وقعت من حرقٍ للقرى ، وتشريد ، وقتل للمدنيين واغتصابٍ وغيرها من جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية ، وكان مجلسُ الأمن الدَّوْلِيّ قد كوَّن لجنة دولية لتقصي الحقائق في إقليم دارفور انتهت برفع تقريرها لمجلس الأمن في 2005 بارتكاب حكومة السودان ومليشيات الجنجويد اِنتهاكاتٍ جسيمةً للقانون الدولي الإنساني. واستناداً على هذا التقرير، تم رفع الأمر إلى المحكمة الجنائية الدولية بموجب المادة 13 من ميثاق روما. و بعدَ التحريات اللازمة، أصدرت المحكمة الجنائية الدولية أمراً بإعلان مسؤولين اِثنينِ في الحكومة ،وألحقته بأوامر قبض على كلٍّ من أحمد هارون وعلي كوشيب في عام 2007م، حينها رفضت الحكومة التعاون مع المحكمة الجنائية الدولية وصرحت بأنها لن تقوم بتسليم أي شخص سوداني للمحكمة الجنائية الدولية،مُفضلةً المواجهةَ السياسية على التعاون وإيجاد حلٍّ قانوني. هذه المواجهة مع المحكمة الجنائية الدولية انتهت إلى إصدار أمر قبض على الرئيس «المعزول» عمر البشير في عام 2009م.
مَثَّلَ أمرُ القبض على البشير «في ذلك الوقت»، أوَّلَ أمرِ قبضٍ يصدر في حق رئيس لا زال يجلس على كرسي الحكم! وبلا شك ازدادت ردود فعل الحكومة شراسةً في مواجهة المحكمة الجنائية ، فبدأت بطرد منظمات الإغاثة والعون الإنساني العاملة في دارفور،واتهمتهم بأنهم جواسيس لصالح المحكمة الجنائية الدولية وكذلك تم إغلاق منظمات محلية، من ضمنها مركز الخرطوم لحقوق الإنسان. هذا بالإضافة إلى أنَّ الصحف السودانيةَ لم تستطيع الكتابة حول موضوع الجنائية بسبب الرقابة «القَبْلِيَّةِ» التي كانت تمارس من جانب الحكومة. وكما سبق أن أشرنا أعلاه ، فإنَّ قرار الإحالة من مجلس الأمن الدَّوْلي لم يستند على تقارير هذه المنظمات كما ادَّعتِ الحكومة، وإِنَّما استند على تقرير لجنة تقصي الحقائق الدولية التي وافقت عليها واستقبلتها الحكومة في عام 2005م، حيثُ أشارت اللجنة ضمن تقريرها إِلى وجود انتهاكات للقانون الدولي الإنساني، مع انعدام وجود إرادة سياسية من الدولة السودانية لمحاكمة الجناة ، هذا بالإضافة إلى الضعف الذي شاب الجهاز القضائي وتسبب في عدم قدرته أيضاً على إجراء المحاكمات بحيادية تامة ، وذلكَ نتيجةَ قيامِ حكومة الإنقاذ بإحالة معظم القضاة المؤهلين للصالح العام بناء على خلفياتهم السياسية، كما أشارت إلى أن القانون الجنائي السوداني لم يكن ينصُّ على هذه الجرائم ذات الطابع الدولي على الرغم من التزامات السودان وانضمامه لاتفاقيات جنيف الأربع والعهدين الدوليين وغيرها ، والتي تُجرِّم هذه الافعال.
استمرت الحكومة السودانية في توجيه حربها تجاه المحكمة الجنائية الدولية، وأخذت تبحث عن حلول محلية وأفريقية. فكان من ضمن أدوات هذه الحرب، إنشاء المحكمة الخاصة بجرائم دارفور في 7 يونيو عام 2005م ( بعد يوم واحد من إعلان المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية أنه سيبدأ التحري في قضية دارفور) ، بالإضافة إلى ذلك، تم تعيين مدعي عام لجرائم دارفور . كما بحثت الحكومة عن دعم إقليمي وحلول أخرى عبر الاتحاد الإفريقي، حيث قامت وكسابقتها (لجنة تقصي الحقائق الدولية) انتهى تقرير لجنة الحكماء إلى وجود انتهاكات جسيمة اُرْتُكِبَتْ في إقليم دارفور ، كما ذكرت اللجنة في تقريرها أنَّ القضاء السوداني على الرغم من قدرته على إجراء هذه المحاكمات،إلا أنَّ ضحايا هذه الانتهاكات ليست لديهم الثقة الكافية في القضاء السوداني للقيام بإجراء محاكمات نزيهة وعادلة ، لذلك وضعت اللجنة توصيتها بتشكيل محكمة مختلطة Hybrid Court يتم تشكيلُها من قضاةٍ سودانيين وقضاةٍ غير سودانيين، حيث أوصت «في سياق تقريرها» بتأسيس محاكم مختلطة لتنظر بوجهٍ خاص في الجرائم الخطرة المرتكبة في دارفور، وتتكون من قضاة سودانيين وغير سودانيين ومن فريقٍ مساعد عالي المستوى، وأن يقوم الاتحاد الإفريقي بتسمية المجموعتين الأخيرتين. وشملت توصيات التقرير الحديثَ عن العدالة الاقتصادية والاجتماعية التي تَمنح ضحايا هذه الانتهاكات في دارفور تعويضاتٍ فرديةً وجماعية، ووضع خطة شاملة لإعادة إعمار دارفور بما يعالج اختلال الموازنة التاريخية في حق الإقليم. وأوصى التقرير أن يرعى الاتحاد الإفريقي والأمم المتحدة الوساطة الدولية حول دارفور حتى تؤدي إلى إنجاح المفاوضات في إطارٍ زمنيٍّ محدد، وأن تُنشأ مفوضيةُ تنفيذٍ ومراقبةٍ بصلاحياتٍ واسعةٍ حتى تُشْرِفَ على تنفيذ الاتفاقية السياسية الشاملة.
أعقبَ ذلك التقريرَ قيامُ مجلس السلم والأمن الإفريقي بقيادة محادثات سلام بين الأطراف المتحاربة في دارفور في عاصمة دولةِ قطر (الدَّوْحَة) اِنتهت بالتوقيع على اتفاقية سلام دارفور ( أو اتفاقية الدوحة ) في عام 2011م بين حكومة السودان وحركة التحرير والعدالة ( دون الفصائل الأخرى المتحاربة). والملاحظُ، خلافاً لاتفاقيات السلام السابقة سواء كانت المتعلقة بالجنوب أو اتفاق أبوجا (المشار إليها آنفاً) ، فإن اتفاقية الدوحة قد حَوَتْ فصلاً كاملاً عن العدالة الانتقالية وآلياتها،والنَّصَّ على المحاسبة ومحاكمة المتورطين بانتهاكات القانون الدولي الإنساني ،وتكوين لجنة الحقيقة والمصالحة . هذا التَّحَوُّلُ عن النمط السابق في اتفاقيات السلام ،يُفهم في سياق بحث الحكومة المستمر عن مخرج من مأذق المحكمة الجنائية،والبحث عن حلول داخل القارة الإفريقية وإيجاد بديل للمحكمة الجنائية. ولعل اِستدعاء الرئيس الكيني اوهورو كينياتا وإعْلانَه بواسطة المحكمة الجنائية «لاحقاً» قد استفادت منه الحكومة في تحريك الاتحاد الإفريقي باتخاذ خطوات نحو استهداف المحكمة الجنائية للدول الإفريقية ورؤساء هذه الدول. وقد عبَّرَ الاتحاد الإفريقي عن قلقه بشأْنِ استهداف المحكمة الجنائية الدولية رؤساءَ إفريقيا وقادةَ دُولِها.
كذلك قامت الحكومة بتعديل القانون الجنائي وقانون قوات الشعب المسلحة ،وذلك بإضافة موادَّ تتعلق بانتهاك القانون الدولي الإنساني ، وتم إنشاء وحدة خاصة بالعنف الجنسي لدى وزارة العدل. وشملت التعديلات إلغاء التعامل بأورنيك 8 المثير للجدل في شأن جرائم الاغتصاب وذلك بقرار من وزير العدل. الجدير بالذكر أنَّ هذه التعديلات تمت بعد عامِ 2009م، ومعظمُ هذه الجرائم تم ارتكابها منذ عام 2003م، مما يَعْدِمُ فعالية هذه التعديلات وفقاً لنظرية عدم تطبيق القوانين الجنائية بأثر رجعي ويسري القانون «فقط» على الجرائم اللاحقة لتعديله ، إِلَّا إذا كان قانوناً أصلحَ للمُتَّهم. كذلك فإن هذا التعديل لم يشملِ النَّصَّ على مسؤولية القائد عن قواته (Command Responsibility ) وهذا النَّصُّ « في حالِ تَضْمِيْنِه» سَيُمَكِّنُ الاتهامَ من الوصول إلى قادة الجيش أو رؤسائِه ، ومن العوائق التي تعترض سير العدالة في السودان، الحصاناتُ الهائلة المنصوص عليها في القوانين المختلفة والتي «بلا شكٍّ» تُقَلِّلُ من فعالية النصوص التي تُجَرِّمُ هذه الانتهاكات الجسيمة،وتُضْعِفُ ثقة الضحايا والجهات العدلية الدولية في مصداقية الحكومة والقضاء الوطني ورغبتِهما في محاكمة المتورطين، وإنصاف الضحايا.واستناداً على قيامها بمحاكمات نزيهة وعادلة، كان من الممكن لحكومة السودان أن تحذو حذوَ دولةِ ليبيا بأن تطعن في عدم مقبولية الدعوى وتدفع بها إلى المحكمة الجنائية الدولية استناداً على نَصِّ المادة (19) من ميثاق روما كما فعلت الحكومة الليبية عندما أحال مجلس الأمن الدولي ملف ليبيا إلى المحكمة الجنائية على أساس أن قضيةعبد الله السنوسي( أحد رموز حكومة القذافي ) موضع تحقيقٍ وطني أمام السلطات الوطنية الليبية ، ولأن الحكومة الليبية راغبة في التحقيق وقادرة عليه، قررت الدائرة التمهيدية في المحكمة الجنائية ومن بعدها دائرة الاستئناف عدم مقبولية الدعوى. ولعله من الأهمية الإشارة إلى أن كل هذه الاصلاحات القانونية والمؤسسات والمحاكم التي أقامتها الحكومة السودانية كانت فقط واجهات لتحسين صورة الدولة لأنه لم يُقدم أي من الذين تورطوا في هذه الانتهاكات للمحاكمة والمساءلة من خلالها.
على الرغم من الشد والجذب بين المحكمة الجنائية الدولية وحكومة السودان، وتضييق الخناق على السودان ، إِلّا أنَّ التداعيات السياسية لتدخُّل المحكمة الجنائية كان أكبر من تلك القانونية ،حيث فشلت المحكمة في إلقاء القبض على أيٍ من الذين أصدرت في حقهم أوامر قبض ، وحتى الدول التي يتوجب عليها التعاون مع المحكمة وتسليم البشير إذا تخطَّى أراضيها أو قام بزيارتها ( مثال جنوب إفريقيا والأردن) باعتبارها أطراف في معاهدة روما ،لم تتعاون مع المحكمة الجنائية ، لذا، يمكن القول إنَّ تدخل المحكمة الجنائية في السودان يُعَدُّ شكلاً من الضغط السياسي من جانب الدول الغربية على نظام البشير، يضاف إلى جملة الضغوط الأخرى المفروضة على الحكومة، كالعقوبات الاقتصادية المفروضة من قِبَلِ الولايات المتحدة الأمريكية على السودان والتي تُعدُّ مِن أبرز هذه الضغوط. ولكي يتمكن السودان من إجراء هذه المحاكمات، يتوجَّبُ عَليْه بناء المؤسسات والأجهزة العدلية والتي هي واحدة أولويات الحكومة المدنية الانتقالية، وتشمل كذلك الجهاز القضائي ، والمحاماة والشرطة ،كما تتضمن مراجعة القوانين وإصلاحها ،لذلك فإن الإصلاح القانوني وإصلاح المؤسسات، مُقَدَّمٌ على المحاسبة، لأن كل هذه الإصلاحات هي التي تضمن المحاسبة سواء حالياً أو مستقبلاً، وهذه سانحة تاريخية لإصلاح المؤسسات العدلية وإجراء محاكماتٍ يُمكن أنْ تشكِّلَ إرثاً قانونيّاً للأجيال السودانية في المستقبل، وتُعزِّز تجربة القضاء السوداني في إجراء محاكماتٍ لهذا النوع من الانتهاكات .وفوق هذا وذاك ،تضمن إجراء محاكمات عادلة ونزيهة ومستقلة لمرتكبي هذه الانتهاكات.
تجدر الإِشارة هُنا إلى أنَّ المحكمة الجنائية ينعقد لها الاختصاص في الجرائم المتعلقة بانتهاكات القانون الدولي الإنساني وفق ماهو منصوص عليه في ميثاق روما، إلَّا أن هنالك انتهاكات ٍأخرى للقانون السوداني لا تختص بنظرها المحكمة الجنائية الدولية، مثل قضايا الفساد، والتعامل في النقد الأجنبي، وغسل الأموال، وقتل المتظاهرين العُزَّل وعمومِ انتهاكِ الحقوق المنصوص عليها في وثيقة الحقوق في الدستور الانتقالي لسنة 2005م . وهذه الحقوق تشمل الحقوقَ التي فصلَّها
الدستور ونصَّ عليها تحديداً، واعتبر الدستور كل الحقوق والحريات المضمنة في الاتفاقيات والعهود والمواثيق الدولية لحقوق الإنسان والمصادق عليها من قِبَلِ جمهورية
السودان جزءاً لا يتجزأ من هذه الوثيقة ( المادة 27 (3) ) من الدستور. والدستور الانتقالي أجاز اتهام رئيس الجمهورية والنائب الأول أمام المحكمة الدستورية حال انتهاك الدستور. لذلك فإن المحكمة الدستورية ينعقد لها الاختصاص الجنائي في مواجهة الرئيس ونائبه وفق نصوص قانون المحكمة الدستورية لعام 2005م، ويجوز لها ممارسة السلطات الإجرائية للمحكمة الجنائية ورد الحق للمتظلم وتعويضه عن الضرر.
وطالما أنَّ هناك مؤسساتٍ ونظاماً قضائيّاً سودانيّاً (ومهما كان الخراب الذي لَحِقَ بِهِ طوال الثلاثين سنة الماضية ) ، فلا يزال الأمر متاحاً للإصلاح. وطالما يوجد عدد لا يستهان به من الخبرات السودانية في كافة المجالات القانونية ، فإنَّ من الأفضل أنْ تَتِمَّ هذه المحاكمات في السودان، فهي فرصة «تاريخية» للقضاء السوداني لاستعادة عافيته، وإثبات ذاته، ومراجعة القرارات التي تمت بشأن إحالة القضاة «المؤهلين» للصالح العام إِبَّانَ نظام الإنقاذ . و بشكل عام، فإنَّ المحاكمات في السودان مهمة للضحايا، فــــــــ (العَدَالَةُ يَجِبُ أنْ تُنْجَزَ، وتُرَى بأنَّها تُنْجَزُ) Justice must be done and seen to be done . ولكي تتولي الدولة السودانية الولاية القضائية على هذه الجرائم، يجب أن تثبت للمجتمع
الدولي أنها راغبة في إجراء هذه المحاكمات، وهذه الرغبة تتمثل في، إثبات مباشرة الإجراءات المتعلقة بالمسئولية الجنائية عن الجرائم الداخلة في اختصاص المحكمة الجنائية الدولية، والابتعاد عن أي تأخير للإجراءات أو تأخير عن تقديم الشخص المعني للعدالة
دون مبرر ، والحرص على مباشرة الإجراءات بشكل مستقل أو نزيه يتفق مع نية تقديم الشخص المعني للعدالة وإثبات الوجود الفاعل لمؤسسات القضاء الوطني وعدم انهيارها بشكل كلي أو جوهري. كذلك يجب أن تؤكد الدولة السوداني وتثبت أنها قادرة على إجراء هذه المحاكمات ويكون ذلك من خلال إثبات قدرة مؤسسات القضاء الوطني على إحضار المتهم والحصول على الأدلة والشهادات الضرورية والاضطلاع بإجراءات هذه المحاكمات وهذا يتم بشكل عملي خلاف الـتأكيدات النظرية التي درجت عليها الحكومة السابقة دون أي فعل حقيقي في أرض الواقع.
ويتعين الاستفادة من تجارب الدول الأخرى في المحاكمات الدولية والمحلية مثل دولة رواند عندما قام مجلس الأمن الدّولي بتأسيس المحكمة الجنائية الدولية لرواندا ومقرها في أروشا بدولة تنزانيا لتحاكم المتورطين في أحداث الإبادة الجماعية في رواندا عام 1994م، حيث تمت إبادة ثمانمائة ألفٍ (800,000) من التُّوتسي على أيدي الهوتو ، وذلك خلال مائة يوم ، استمرت فيها أحداث القتل دون أن يحرك المجتمع الدولي ساكناً. ومقارنةً بالتكلفة المالية الضخمة والزمن الذي استغرقه تأسيس هذه المحكمة، إِلَّا أنَّها حاكمت عدداً قليلاً جداً من المتهمين ، في حين أنَّ المحاكم المحلية «أو ما يُعرف بمحاكم القجاجا» قد قامت بمحاكمة الآلاف من المتهمين وكانت هذه المحاكمات أقرب إلى لجان الحقيقة والمصالحة وبالتالي تمكنت روندا عبر الاعتماد على هذه الترتيبات المحلية لتحقيق العدالة والمصالحة الوطنية، من عبور تلك الأحداث المؤسفة وهي أكثر تماسكاً وثقةً في مؤسساتها الوطنية. وهذا الأمر أيضاً ينطبق على المحكمة الجنائية الدولية لدولة يوغوسلافيا السابقة ، وعلى الرغم من أنَّ هذه المحكمة كانت مدعومةً بشكل خاصٍّ من الاتحاد الأوروبي إلا أنَّ تكلفتها «المالية» العالية مقارنةً بجملة الإنجازات والمحاكمات وطول أمَدِها يجعلنا ننتهي إلى نتيجةٍ مفادُها أنَّ المحاسبة «من الأفضل» أن تكون عبر القضاء السوداني والابتعاد عن المحاكمات الدولية والتي غالباً ما تكون مطعَّمةً بالمصالح السياسية. وتَوَلِّي القضاءِ السوداني لهذه المحاكماتِ فيه تأكيد أيضاً لسيادة الدولة وإبعاد شبح التدخُّلات والضعوط الخارجية بدعوى تطبيق العدالة ، لا سيما وأن إقامة العدل هي من أبرز مظاهر ممارسة هذه السيادة.
وعلى الرغم من قناعتي الشخصية بقدرة القضاء السوداني الوطني على إجراء المحاسبة على تلك الانتهاكات ، لكنْ و للعديد من الأسباب (بعضها مذكور أعلاه )، تصبح قناعةُ ضحايا هذه الانتهاكات وثِقَتُهُم بإجراءات المحاكمات وعدَالَتِها ، هي الأهم. ولَعَلَّ بناءَ هذه الثقة يحتاج «الآنَ» إلى مجموعةٍ من التدابير حتى يستعيد القضاء الوطني السوداني قدرته وأهليته الكاملة والمستقلة والتي لا يجب أن تكون مُؤخِّراً للعدالة، لذلك أجد مقترح المحكمة المختلطة الذي أوصت به لجنة حكماء أفريقيا جديراً بالاهتمام والدراسة وقابلاً للتطبيق مع الوضع في الاعتبار أن هذه المحكمة المختلطة يمكن أنْ تُعَدَّ واحدةً من آليات العدالة الانتقالية في المرحلة المقبلة. والمحاكم المختلطة تنشأ بموجب اتفاقيات خاصة مع الدول المعنية تحدد فيها كل الأمور المتعلقة بإنشاء المحكمة والقوانين التي تلجأ إليها ، إضافة الى قواعد الإجراءات والتنفيذ وكذلك قواعد الإثبات ونظام حمايةٍ للشهود . يمكن الاحتذاء بالسوابق المتعلقة بتجارب هذه المحاكم المختلطة والتي من ضمنها ، المحكمة المختلطة في كمبوديا والتي تمت باتفاق بين حكومة كمبوديا والأُمم المتحدة وكان القضاة خليطاً من المحليين والدوليين ، كما كانت هيئة الاتهام أيضاً مختلطةً ، وكانت الإجراءات تتم وفق قانون العقوبات الكمبودي مع اتباع معايير المحاكمات الدولية كعدم الأخذ بأيِّ حصانة قضائية أو أيِّ عفوٍ عامٍّ أو خاص. كذلك تجربة تيمور الشرقية بأندونيسيا عام 1999م، وكانت تيمور الشرقية قد وضعت تحت إدارة انتقالية تابعة للأمم المتحدة، فتم تشكيل محكمة مختلطة من قضاة وطنيين ومن ممثلين متخصصين من الأمم المتحدة. وكذلك تجربة سيراليون عام 2000م، وتجربة المحكمة الخاصة في لبنان.
شارك هذا الموضوع: