نشر بتاريخ: 17 مايو 2011
يسير النظام السوداني هذه الأيام وفق استراتيجية يمكن أن نطلق عليها اسم: الانتفاضة الاستباقية. فقد فتح النظام من خلال مؤسساته العديدة والمتشعبة، عدداً من الملفات التي تحتوي على قضايا مستشكلة، ويمكن أن تفجر أزمات في الشارع أو بين فئات معينة. وهدف الخطة النهائي هو احتواء الأزمة، وحرفها عن مسارها الصحيح الذي يؤدي إلى الحل، وتعمل من خلال تعتيم أسباب وأصول الأزمة، ثم تعتيم الحلول والمخارج والمآلات. فمن البداية يركز المناقشون على أسباب ثانوية وهامشية، باعتبارها أس الأزمة. فعلى سبيل المثال، عقدة الأزمة المحورية في الصحافة هي الحريات والمناخ الديمقراطي، أما خلل التوزيع والإعلان والتدريب… الخ، فهي في حقيقتها نتائج لغياب الحريات وضمور الديمقراطية. وضمن هذه السياسة الاستباقية، فتح المجلس القومي للصحافة والمطبوعات الأسبوع الماضي، من خلال ندوة تحت عنوان «الصحافة السودانية: مستقبل مفتوح على احتمالات شتى»، ملف الصحافة. وقدم ورقة العمل الاستاذ عادل الباز، وكانت ضافية وذات طبيعة فنية ومهنية، ولكنها تجنبت السياسي والأخلاقي في الأزمة الصحفية.
تجاهل الجميع أزمة الصحافة إلى أن وصلت الآن حافة الوجود نفسه: البقاء أو الفناء، إذ يعيش حوالي 5 آلاف صحفي عامل خطر التشرد، فقد خرجت عشر صحف من السوق، وتنتظر خمس في صالة المغادرة، حسب إفادة عادل الباز. وفي نفس الوقت يعاني التوزيع من تعقيدات نزلت به إلى القاع، في الانتشار والوصول إلى القراء. فقد انخفض التوزيع من 200 ألف عام 2008، إلى النصف (100 ألف) في الربع الحالي للعام 2011. وهذا وضع كارثي في بلد تعداده أكثر من 40 مليون نسمة، وفيه نحو خمسين جامعة ومعهداً عالياً، ما يضاعف أعداد الخريجين. فهل هذه أيضاً أزمة في نوعية التعليم؟ وهناك صحف تطبع 5 آلاف نسخة فقط، ولكنها تعتمد على الإعلانات. وهذه صورة للفساد والمحسوبية في توزيع الإعلانات، إذ يفترض أن تحظى بالإعلانات الصحف ذات التوزيع الواسع، لضمان الترويج. وتوزع صحيفة الحكومة والحزب 10 آلاف نسخة، بينما تعمل فيها أعداد هائلة بمرتبات وامتيازات عالية.
تعتبر أزمة الصحافة جزءاً أصيلاً لا يتجزأ من الأزمة السودانية الشاملة، التي طالت كل جوانب الحياة العامة في البلاد منذ أكثر من عقدين. فقد درجنا على إطلاق صفة «السلطة الرابعة» على الصحافة، باعتبار مبدأ فصل السلطات الثلاث: التشريعية والقضائية والتنفيذية. وبقصد إعلاء قيمة ودور الصحافة، اعتبرت وكأنها لا تقل عن السلطات الأخرى. ولكن في النظم الدكتاتورية تضيع سلطة السلطات الحقيقية، فما بالك حين يتعلق الأمر بسلطة مجازية مثل الصحافة! فالحكم المطلق لا يحترم فصل السلطات، فهو كل السلطات بما فيها السلطة الرابعة. ويستهل الحكم العسكري عهده بوقف الصحف لحين إصدار قانون ينظم صدورها المستمر، وذلك باعتبار الفترة السابقة له «عهداً بائداً يتسم بالفوضى». ومن البداية تتوتر العلاقة بين الصحافة والنظام، ويعتبرها ـ كما قال بعض المتحدثين في الندوة سابقة الذكر ـ العدو الأول.
وهذا الوضع الشاذ سببه محاربة الدكتاتورية لحرية التعبير والرأي الحر. لذلك، أزمة الصحافة سياسية وأخلاقية في الصعيد الأول، ثم تأتي المشكلات الفنية. والسؤال: هل يتحمل النظام الحالي وجود صحافة حرة ناقدة وشجاعة، أم يبحث عن الصحافة المادحة المتملقة التابعة؟ فالنظام لا يقدم المساعدات والتسهيلات لصحافة تكشف عيوبه ولا تطبل، بل يتفنن في البحث عن المضايقات والمحبطات. وقد غادر البلاد كثير من الصحفيين المدربين والمؤهلين، بعد أن أغلقت صحفهم وفصل بعضهم. شرّع النظام الحالي سياسة أمننة الحياة العامة، ولذلك أخضع الصحافة لهيمنة جهاز الأمن بوسائل وآليات عديدة، أهمها وأخطرها الاختراق، إذ يعمل عدد من كوادر الأمن كصحفيين وكتّاب ومحللين وإداريين.
ومن المفارقات أن بعضهم يمثل الصحفيين في مؤتمرات عن حرية الصحافة والتعبير. وقد خضعت الصحف للرقابة القبلية التي يقوم بها رجال الأمن داخل الصحف، قبل إرسال المادة إلى المطبعة، وبعضهم يريد زيادة الخسارة فيصادر العدد بعد الطباعة. وبعد احتجاجات وضغوط توقفت الرقابة القبْلية، ولكن ما زال جهاز الأمن هو الذي يقوم بوقف الصحف واعتقال الصحافيين، دون الرجوع إلى أي جهة. وهذه السيطرة الأمنية على الصحافة تركت تأثيراتها النفسية، وهي أقوى من الوجود المادي لرجال الأمن في مباني الصحيفة. فقد تأسست رقابة ذاتية لدى الصحافي، أي يراقب نفسه أو يسكّن في داخله رقيباً يمنعه من ممارسة حرية التعبير! كما توجد الآن نيابة خاصة للصحافة، تنظر قضايا ضد الصحافيين والصحف فقط. دخلت الرأسمالية الطفيلية البازغة إلى ميدان الصحافة والنشر، وفي بالها الربح السريع والسهل، ودون أن تكون لها أي علاقة بالكتابة والنشر والفكر. وقد صنّف الاستاذ عادل الباز، الناشرين إلى ثلاثة أصناف: مستثمرون، مغفلون، ومغامرون. والغلبة للصنف الأول، ويرى أن علاقة هؤلاء بالأزمة الصحفية تأتي في أسفل الأولويات، فهم يهتمون بالإيجار والجمارك وقطع غيار المطبعة والنفايات. وقد شهدت الساحة الصحفية مؤخرا صفقة مؤسفة أبعد فيها تجار طفيليون، صحفيا متميزا في حجم الاستاذ محجوب عروة من جريدته التي سكب فيها جهده وروحه. ويتعامل هؤلاء التجار عندما يهيمنون على الصحف، بعقلية السوق العربي القديم، حيث تسير الأموال في اتجاه واحد: إلى الخزينة أو الجيب. فهم يماطلون في دفع مرتبات المحررين ومكافآت المتعاونين، ويتعاملون معهم أقل من خدم المنازل، ولا يهمهم غضب أو استقالة هؤلاء، بسبب إمكانية الإحلال.
وهناك سلبيات خاصة بنوعية الصحفيين والتراث الذي ينهلون منه، والتربية التي سادت في التاريخ الحديث. فقد عرف السودان لغة صحفية سوقية وهابطة، خلال فترة الديمقراطية الثالثة 1986-1989. ومن المفارقة أن المبادرين في نشر هذه اللغة، كانوا صحافييّ الحركة الإسلامية، ففي محاولتهم إفحام الخصوم لجأوا إلى السب المجاني والعدائية واللغة العنيفة. وللأسف تربى كثير من الصحافيين الحاليين في مدرسة المشاغبين، لم يتربوا في مدرسة محجوب محمد صالح ولا بشير محمد سعيد. ومن ناحية أخرى قلّ الاهتمام بالتدريب، إذ لا يخصص إلا 3% للتدريب عموماً، كما أن الصحافيين أصبحوا يجهلون اللغات الأجنبية، أما كليات الإعلام فلم تسهم في تطوير قدرات الشباب. وكان من الطبيعي في هذه الأجواء، أن تنجح الصحف الفضائحية والتي تسمي تدليساً «الصحافة الاجتماعية». فهي، مع الصحف الرياضية، الأعلى توزيعاً على الإطلاق.
في النهاية، لا تجدي هذه النظرة التجزئية في فهم أزمة الصحافة السودانية، ولا بد أن تحل ضمن مؤتمر قومي لمعالجة جذور الأزمة، يخرج البلاد من دوامة الانهيارات والخيبات متعددة الوجوه.
شارك هذا الموضوع: