قد يبدو عنوان هذا المقال كلاسيكياً في شطره الثاني، ولكنه واقعياً على أية حال. فالمتابعون للشأن السوداني اعتادوا أن يروا شقه الآخر القائل: من يَحكم السودان؟ وهو التساؤل الذي كثُر تحديداً إبان الديكتاتورية البائدة، نسبةً لتعدد أجنحتها المتسترة بالدين والمتفانية في تأسيس دولة الظلم والفساد والاستبداد. وتحت هذه المظلة لم تترك من الموبقات شاردة ولا واردة إلا وأنزلتها على الأرض. وبالتالي صار ذلك التساؤل دليلاً على عمق الأزمة، والتي كانت تزداد غوراً كلما تقادمت السنين. وبعد اندلاع ثورة ديسمبر المجيدة ونجاحها في اقصاء الطغمة الفاسدة من السلطة، كان من الطبيعي أن تكون الثورة قد وجدت ترياقاً للسؤال المذكور، باعتبار أنها اندلعت لاسترداد قيم مفقودة لطالما تاق لها السودانيون وجسدتها شعارات الثورة. وبالطبع لم تكن الإجابة شخوصاً يحكمون من وراء الكواليس وإنما برنامجٌ ثوري يتضمن نصوصاً من تلك القيم. وطالما أن ذلك كذلك، لعل السؤال الذي يطرح نفسه: لماذا هذا التعسُّر؟
(2)
السؤال ليس عصياً لمن ظلَّ مثابراً على متابعة حراك وسكنات الواقع السوداني بكل تضاريسه المعروفة. لكن المتابعة من غير إرادة قوية تضع الأصبع على الجرح النازف وتجد له العلاج اللازم، ستكون محض هروب ومضيعة للوقت. بهذا المنظور يمكن القول مباشرة إن أس الأزمة يكمن في الهوس الديني الذي أفسد على أهل السودان حياتهم، وما دون ذلك هي فروع للأصل. ولعل الأدهى وأمرْ، أنه على الرغم من فساد الحكم وتشويه العقيدة في تلك الحقبة البائدة، إلا أنه ما يزال هناك من يعمل لإعادتها بحسبها الدولة الإسلامية الأنموذج. أي الضرب على الوتر القديم بغية استمالة عواطف الرجرجة والدهماء، وصولاً لتكريس الوعي الزائف. وهم يعلمون أن صراع أهل السودان كان وما يزال على الدنيا وليس على الدين، الذي هو موضع تقديس في نفوس الذين جُبلوا عليه بالفطرة.
(3)
يحدثنا التاريخ دوماً بلسان العظة والاعتبار. فمن المعلوم أن حقبة القرون الوسطى كانت قد وضعت الشعوب الأوروبية بين سندان الكنيسة ومطرقة الساسة الفاسدين، حيث نشأ بينهما تحالف انتهازي بغيض، غدت فيه الكنيسة جزءاً من منظومة الحكم، الأمر الذي أتاح لها التحكم في مصائر الناس في إطار دولة ثيوقراطية خانقة. وتبعاً لذلك صارت تبرر للنخب الحاكمة ممارسات القمع والفساد والاستبداد، بل وتمنح بكرم فائق صكوك الغفران لمن يرغب. وهو الواقع الذي تصادم مع أفكار فلاسفة أفذاذ من التنويريين الذين شغلوا أنفسهم بنشر الوعي والمعرفة والاستنارة، أمثال جان جاك روسو وكانط وفولتير وربسبيير ونيتشه وديكارت ونيوتن، وكان جاليليو أكثرهم مصادمة مع الكنيسة، وفي سبيل ذلك استمات في تمسكه بنظرية كروية الأرض (لم تتم تبرؤته من المحاكمة الجائرة التي أدانته، إلا في أوائل الثمانيات من القرن الماضي)!
(4)
لكأنما التاريخ يعيد نفسه مع اختلاف الوقائع. فما عاد تفاني أصحاب الهوس الديني يدهش أحداً في زماننا هذا. فحتى بعد أن حلب الدهر أشطره – كما تقول الأعراب - ما يزال الوهابيون وسلالاتهم المتناسلة والتي اتَّخذت مسميات شتى، يعتبرون نظرية جاليليو العلمية رجساً من عمل الشيطان. ومثلما أن القارة العجوز لم تنفك من براثن الجهل والتخلف ولم تخرج من كهوف الظلام، إلا بعد أن انتفضت شعوبها وانفجرت ثوراتها، بدءاً بالثورة الفرنسية التي رفعت شعارات أعادتها ثورة ديسمبر السودانية للذاكرة الإنسانية الجمعية، وتفوقت عليها بسلميتها، مع أنه كان بمقدور ثورة ديسمبر (شنق آخر فاسد بإمعاء آخر كوز) وما يزال لها في منهج (الشرعية الثورية) نصيب، وفيه متسع لمن شاء أن يتخذه هادياً منيراً!
(5)
لقد استغل الأبالسة سماحة الثورة وسلميتها، وخلا لهم الجو في ممارسة الفساد الذي يحبون، وفي خلق الفتن واصطناع الأزمات التي يعشقون. وكلها أدوات برعوا فيها براعة كل مناع للخير معتدٍ أثيم. لكن التسامح لا ينبغي أن يكون مع من لم يُقدِّر قيمته. والسلمية دون تقوية أركان العدالة لحمياتها تُصبح تشجيعاً للمستهتر للتمادي في غيِّه. فالدولة مطالبة بحماية المجتمع من شرور
الهوس الديني بنصوص الدستور والقوانين الصارمة وتقوية منظمات المجتمع المدني وفي المصادقة على كل القوانين والمعاهدات الدولية، فلسنا في جزيرة معزولة عن العالم. فالظلاميون يريدون أن يسري الخوف فينا، ويسود النفاق بيننا، فيضفي المظلوم على الظالم آيات التبجيل والتوقير والاحترام. إذ ألقى التحية وسعوا له في المجالس وهبوا له مرحبين، وإذ تحدث أرهفوا السمع وهم صامتون، وكلما تراكمت السنين تراكمت المصيبة نفسها، وذلك غاية ما يهدف إليه تجار الدين!
(6)
واهم من يظن أن الحرية فوضى، ومخطئ من يتوهم أن الديمقراطية نزهة، يمكن أن تصمد بلا مخالب وأنياب تحميها من تغول المعتدين كما حدث من قبل في العام 1965م (طرد نواب الحزب الشيوعي من البرلمان) ولم نستبن النُصح إلا بعد أن رأيناها تتهاوى أمام ناظرينا في العام 1969م (انقلاب مايو) ثمَّ العام 1989م (انقلاب يونيو). فالديمقراطية سلاحها تقوية الأجهزة العدلية ومؤسساتها التشريعية والتنفيذية والقضائية، لكي تنعكس أمناً وأماناً واستقراراً على حيوات الناس، والحرية إذا لم تنتج سلاماً كانت باباً يلج منه المخربون لزعزعة الاستقرار وخلق الفتن. ولهذا ينبغي أن نركز أنظارنا على البرنامج وليس شخوص الحاكمين، فهم كما قال الأستاذ المفكر محمود محمد طه: (موضع حبنا.. لكن أفعالهم موضع حربنا!).
(7)
الثورة تعسرت بأسباب واضحة للعيان، فلا يمكن أن تزرع أرضاً دون تنظيفها وتهيئتها وإعدادها ومن ثم رعايتها. فما أكثر المتربصين حين تعدهم، فكُهْنات العقيدة (والكُهْنة – بضم الكاف - هو الشيء البالي) يريدونها أفيوناً يعطل الحواس ويسلب العقول ويسري خدراً في الجسوم. يتمنونها جسراً لتثبيت الأوهام وترسيخ المزاعم التي تدعي أنهم ظل الله في الأرض. يبغونها عِوجاً ليمارسوا الفساد والاستبداد والقتل والسحل والتنكيل والتعذيب بدعوى حماية الدين من تربص العلمانيين. يهدفون إلى تحطيم إرادة المجتمع حتى يصبح كأعجاز نخل خاوية. تلك مهمة تقتضي تحنيط الدين الإسلامي كما رغبوا، وانتزاع النصوص التي تخدم نواياهم وتتوافق مع أهوائهم للاستمرار في خداع البشر. نراهم وقد استلوا خناجرهم وشحذوها ليوم عبوس قمطريرا، قاتلهم الله أنى يُؤفكُون!
آخر الكلام: لابد من المحاسبة والديمقراطية وإن طال السفر!!
فتحي الضَّو
faldaw@hotmail.com
شارك هذا الموضوع: