طرحنا سؤالاً مشروعاً في الحلقة الماضية، فحواه عن الكيفية التي تمَّ بها اختيار وزير الإعلام، وقلنا إنها لا تتسق مع معاييرها، إلى جانب اعتبارات أخرى لا داعٍ لتكرار ذكرها. وهدفنا يتعدى شخصه ليفتح الباب أمام تساؤلات تبحث في أسباب الضعف الذي لازم وزراء الحكومة الانتقالية، لدرجة أصبح ظاهرة كادت ألا تستثني أحداً. ذلك على الرُغم من أن بعضهم يحملون من المؤهلات ما يسد عين الشمس. مع ذلك فالحكومة الأولى مُنيت بفشل ذريع بعد فترة قصيرة من تكوينها، الأمر الذي أدى لإحلال حكومة ثانية مكانها. ومن قبل أن نفيق من النشوى نكتشف أن (شهاب الدين أضرط من أخيه) كما يقول المثل العربي الدارج. فقد تشاطرت الحكومتان ذات الضعف المتأصل. بيد أن القاسم المشترك بين الضعفين يعود بالدرجة الأساسية لبدعة سُودانية سُميت (المحاصصة الحزبية) وهي محض احتيال سياسي يتنافى تماماً مع روح حكومة ثورة!
ثمَّ زاد الأمر ضِغْثاً على إِبالة، إذ تشظَّت البدعة وأفرزت بدعة أخرى سميناها (المحاصصة الشخصية) وقد يتراءى لناظرها كأنها جديدة، لكن واقع الأمر تعدُّ من مخلفات الأنظمة الديكتاتورية. ما يهمنا هنا أن وزير الإعلام الحالي تقلد منصبه بموجبها، وهو المنصب الذي يفرض على شاغله صفات ويحتم عليه مواصفات بعينها، وقد بدر لنا بقرائن الأحوال أن الوزير يعوزها. والحقيقة لم يكن وحده من جاء متوكئاً على عصا (المحاصصة الشخصية) فقد شاركه آخرون ممن يتسنمون الهيئات التابعة لوزارة الثقافة والإعلام مما أوسع الفتق على الراتق وجعل ظهر الوزارة عارياً فانكشفت عورتها. وقد بات عصياً في ظل هذا الضعف التعويل عليها لإنجاز العملية الثورية كما ينبغي!
المفارقة أن الأستاذين فيصل محمد صالح الوزير السابق والرشيد سعيد الوكيل الحالي، كانا استثناءين فيما ذكرنا. ذلك لأنهما جاءا من ميدان الاعتصام إلى سُدة الوزارة. أي أنهما مشحونان بطاقة ثورية،
علاوة على ماضٍ أبليا فيه بلاءً حسناً في مناهضة النظام الديكتاتوري. ولعل هذا وذاك ما حدا بالجماهير الثائرة أن تضع على كاهليهما مسؤوليات ضخمة، جاء على رأسها تصفية دولة النظام البائد بالحسم الثوري. لكن على عكس ذلك تماماً فقد اتضح أن لهما رؤية تصادمت مع ذلك المفهوم، الأمر الذي أثار حفيظة كثير من الناس ممن لم يتفقوا معهما في هذا السبيل.
هذا التعاكس عرضهما لانتقادات جارحة فاقت حدود اللياقة أحياناً. فلا غرو من أنهما تأذيا منها وأصابهما عنت شديد، ومع ذلك تمسكا بوجهة نظرهما غير عابئين بما يقال. واقع الأمر بينما لاذَ الأستاذ الرشيد سعيد بالصمت كعلامة على الرضا، أفصح الأستاذ فيصل محمد صالح عن مكنون رؤيته بصورة لم يخش فيها لومة لائم، وقال أكثر من مرة: (إنه لم يأت للوزارة لفصل فلان أو علان، وهي ليست مهمته ولا مناط به تنفيذها، ومن أرادها فليذهب لجهاز الأمن فهو كفيل بذلك) وبعد أن تداعت الأمور اتَّضح أن وقع ذلك على الذين كانوا يتأملون العكس مُحبطاً، فلم يشفع له تاريخه النضالي التليد في صد الهجوم، وبدا أن ذلك عصي في تسويق تلك الرؤية في ظل حكومة ثورة، أي ليست حكومة منتخبة وإنما حكومة جاءت وفق ظروف معينة لإنجاز برنامجٍ ثوريٍ في صدارته (كنس آثار النظام البائد) فوراً، وهو أمر لن يتأتى إلا وفق الانحياز التام للشرعية الثورية مهما كان مردودها باهظاً، وضربنا في ذلك مثلاً بتحريم الترويج للنازية في ألمانيا وأقطارٍ أخرى.
غير أن للعملة وجهاً آخر يقول: على الرغم من أن الأستاذ فيصل هو من أفصح عن سياسته، لكن من ينبغي أن يتفق أو يختلف معه الناس حولها هو عبد الله حمدوك رئيس الوزراء. وذلك لسببين، الأول: يفترض بحسب مجريات العمل الوظيفي أن يكون الأستاذ فيصل محمد صالح قد ناقش رؤيته تلك مع رئيس الوزراء قبل طرحها في حال كانت من بنات أفكاره. وذلك يعني بالضرورة أنها وجدت هوى في نفس رئيس الوزراء وأبدى موافقته عليها، وبالتالي يُعد هو المسؤول عنها بالدرجة. الأولى، أي هو من يتحمل تبعاتها سلباً كانت أم ايجاباً.
ثانياً: ربما كانت تلك السياسة توجيهاً من وراء الكواليس أدلى به رئيس الوزراء لطاقمه الوزاري. ولعل ما يعضد هذا الرأي هو أن الحكومة الانتقالية الأولى وكذا الثانية هذه تهاونتا أو فلنقل تقاعستا في تصفية دولة النظام البائد، مما يؤكد أنها سياسة حكومة وليست لوزيرٍ واحدٍ. لكن إن كان ذلك كذلك كان ينبغي على فيصل توضيحه حتى يستبين الناس ليلهم من ضحاهم!
سواءٌ هذا أو ذاك ما الذي حدث بعدئذٍ؟ الذي حدث أن الذين أمنوا العقوبة أساءوا الأدب. إذ خرجت الثعالب من أوكارها مستغلة (سماحة) الثورة التي ما كانت لتلقاها حتى في ظل نظامهم القميء. وبكل وقاحة اتخذوا من الإعلام ووزارته منصة لإطلاق النيران الكثيفة على الثورة وصانعيها. يحيكون المكائد فتتناسل كل يوم، ويختلقون الأزمات فتتفاقم كل حين، ويصنعون الدهشة فتتضخم الصفعات تلو الصفعات. أصبحوا يزايدون على الناس في ثورتهم، وعندما طفق الناس يبحثون عنها في وسائل إعلامها بلا جدوى، شرعوا في الهروب لوسائل الإعلام الخارجية طمعاً في (شوفةً ترد الروح). تلفتوا حولهم فرأوا ذات الوجوه التي اعتقدوا أنها ذهبت مع الريح ما تزال شاخصة أبصارها. كروا البصر مرتين فرأوا ذات الصحف الصفراء التي سودت عليهم حياتهم تقف بالمرصاد. كان المشهد درامياً عبَّر عن كوابيسه وليم شكسبير في مسرحيته الخالدة (حلم ليلة صيف) إذ كان ذلك وأداً للحريات لا إحيائها!
أنظر يا رعاك الله عن ماذا نصَّ القرار رقم 104 لسنة 2021م الذي حدد مسؤولية كل وزير وخصَّ وزير الثقافة الإعلام والسياحة (هذه هي التسمية الرسمية) بإشرافه على التالي: وكالة السودان للأنباء/ الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون/ أكاديمية السودان لعلوم الاتصال والتدريب الإعلامي/ الهيئة العامة للبث الإذاعي والتلفزيوني/ مجلس التنسيق الإعلامي/ المكتبة الوطنية/ مجلس المصنفات الأدبية والفنية/ معهد حضارة السودان/ المجلس القومي لرعاية الثقافة والفنون/ الصندوق القومي لرعاية المبدعين/ مجلس تطوير وترقية اللغات القومية/ الهيئة العامة للأثار والمتاحف/ الإدارة العامة لحماية الحياة البرية/ الشركة العالمية للسياحة/ المجلس القومي للصحافة والمطبوعات/ مجلس المهن الموسيقية والتمثيلية. تأمل يا أيها المأزوم.. هل تجد لأيٍ من هذه الوحدات أثراً في حياتك؟ بل هل تجد الوزير نفسه بين السطور؟ أم تجده على أرض الواقع.. فأين الوزير؟
لكن بما أن الشيء بالشيء يذكر يكون رئيس الوزراء هو المسائل عن الملاحظات التي أبديناها حول الوزير الأستاذ حمزة بلول أسوة بمسؤوليته عن سياسة سلفه كما ذكرنا. فمن المفترض أنه وقف على إمكاناته الخاصة وملكاته الشخصية ورأى فيها على غير ما رأينا، لا سيَّما أن الفترة الانتقالية ما تزال طفلاً يحبو، وتحاصرها مهامٌ جسام يشيب لها الولدان.. أم يا تُرى: سبق السيف العذل؟!
آخر الكلام: لابد من المحاسبة والديمقراطية وإن طال السفر!!
فتحي الضَّو
faldaw@hotmail.com
عن الديمقراطي
شارك هذا الموضوع: