نشر بتاريخ: 07 أغسطس 2015
تنطلق فرضيتي من القول: كانت اتفاقية الحكم الثنائي 1899هي التدشين الفعلي لحركة الاسلام السياسي الحالية في السودان، كما مثله "الإخوان المسلمون" حتي "الجبهة الإسلامية القومية" وموضة "الحركة الإسلامية" هذه الأيام، مرورا بـ"جبهة الميثاق الإسلامي". كل هذه تنويعات علي لحن واحد وضعه (كرومر) و (كتشنر) و (ونجت) مبكرا خلال العقد الأول من القرن الماضى. وكان اللحن الأصلي يقضي برعاية إسلام محافظ، مُدجن، إنصرافي، وشكلاني يقوم بمهمة ترياق مضاد لكل أشكال الإسلام الثوري، المعادي للاستعمار، المتقشف، الزاهد الذي مثلته المهدية. فالمهدية، رغم سلبياتها ونواقصها في قضايا الحريات، والانتاج والتعمير، وحقوق الإنسان؛ فهي حركة وطنية جهادية معادية للاستعمار، والهيمنة الأجنبية. من الواضح أن الاستعمار البريطاني لم يحاول محاربة الإسلام كدين لمعرفتهم بعمق العقيدة وانتشارها بين السودانيين. فالقضية بالنسبة للإدارة البريطانية لم تكن دينية أو عقدية، ولكنها أمنية وسياسية. لذلك عملت علي تشجيع إسلام محافظ، مدجن، ومتعاون مع النظام الجديد، وفي نفس الوقت منع انتشار أي أفكار رافضة للوضع الجديد بادعاء أشكال جديدة للمهدوية أو العيسوية (عودة عيسى أو المسيح المنتظر) . يكتب (جعفر بخيت) بأن المشكلة التي واجهت البريطانيين كحكام مسيحيين في إدارة السودان باعتباره بلدا مستعمرا يعتنق أغلبية سكانه الإسلام، هي العثور علي أشخاص من أهالي البلاد يدينون بالولاء والاخلاص لنظام الادارة الجديدة ويُعترف بهم في نظام الحكم. (1972: 30) ولم يجد المستعمر صعوبة في ذلك، فقد خلقت المهدية في أواخر أيامها كثيرا من الأعداء. ويضيف الكاتب نقلا عن (هولت) : -" لم يكن أفراد الفئة المستنيرة من سكان المدن والمناطق النيلية آسفين علي التحرر من ربقة البقارة وتعاليم التقشف التي حرّمت عليهم المتع والمباهج الحضارية التي كانوا يمارسونها من قبل". (ص31) وأيضا: " كان زعماء الطوائف والقبائل سعداء بالتحرر من قبضة المهدية". ويقول: " وكان لشيوخ الطرق، الذي تعارضت طرقهم السنية مع دعاوى المهدية. والعلماء الذين استرشدوا بالفقه والأحكام الدقيقة، أسباب دينية سليمة للابتهاج بسقوط الخليفة. واستبشر كثير من الناس بحلول السلام والنظام بعد سنين طويلة من الحروب المدمرة". (نفس المصدر السابق) . وقد مثلت هذه المجموعات رصيدا ممكنا للتعاون مع البريطانيين، وهم من جانبهم لجأوا للحصول علي تأييد الزعماء الدينيين التقليديين المعادين للمهدية. ويكتب (باشري) أنه بعد الغزو: " اطمأن السودانيون، فحياتهم قد صفت، وانتهت النزاعات القبلية، وعين خريجو المدارس في وظائف الحكومة، ولكن كل شئ كان بميزان، لا حرية، لا اعتراض، لا تمرد. اصطفى الانجليز علماء الشريعة القضاة، واحتضنوا زعماء العشائر وشيوخ القبائل. ولم يبرز خريجو كلية غردون من السودانيين حتى العقد الثاني من القرن العشرين، فهم قلة أغلبهم من القضاة الشرعيين ومعلمي اللغة العربية والدين الإسلامي. (محجوب عمر باشري: معالم الحركة الوطنية في السودان. بيروت، المكتبة الثقافية، 1995: ص24) . يقدم الانثربولوجي (آي أم لويس) (I. M. Lewis) المتخصص في إفريقيا والإسلام، نظرية متكاملة عن محاولات الاستعمار البريطاني التكيف مع بعض المجتمعات المسلمة المستعمرة. فهو يقول بأن شمال نيجريا والشمال السوداني ربما يقدمان لنا أفضل مثالين علي مناطق لاقي فيها الإسلام تعاطفا ودعما من الإدارات البريطانية. ويظهر ذلك اندماج كثير من عناصر التنظيمات الإسلامية السياسية التقليدية في النظام الاداري (البريطاني) الجديد ذلك النظام القائم علي الحكم غير المباشر، قد أدى – وهذا طبيعي- إلي تقوية وضع الاسلام وشجع علي انتشاره. و من الواضح أن السلطات الاستعمارية الجديدة لم تسع لاستئصال الإسلام عندما تجده راسخا. وتعددت أشكال الإبقاء عليه، فقد يكون من خلال الإبقاء علي الحكام المسلمين التقليديين كما في الإدارة الإهلية أو الحكم غير المباشر. (الاسلام في إفريقيا الاستوائية، ترجمة عبدالرحمن عبدالله الشيخ، القاهرة، 2010: 173) . وقد كانت الإدارة البريطانية مدركة تماما لدور الدين في السياسة، وهي التي حكمت السودان بعد ثورة شعبية دينية كلفتها رأس الجنرال (غردون) نفسه. لذلك كانت حذرة، وفي نفس الوقت حاولت توظيف الدين بطريقة لا تستفز المواطنين. وقد أذاع (كتشنر) الحاكم العام، منشورا يذكرنا بوعد (نابليون) في مصر عام 1798، حين قال أنه أتي ليخفف أوجاع المسلمين، وليشيد دولة إسلامية تقوم علي العدل والحق ولكي يشيد الجوامع ويساعد علي نشر الاعتقاد الصحيح (نعوم شقير، تاريخ السودان، ص581) . ووعد (كرومر) الشيوخ والاعيان عام 1899 بحترام الدين الإسلامي واتباع الشريعة الغراء. واهتمت بالطرق الصوفية ومُنح السيد (علي الميرغني) لقبا رسميا . (بخيت، 32) . دار جدل في السنوات الأولي حول استمرار الخلاوي أو المدارس الدينية ليس بغرض محاربة الإسلام ولكن لأسباب مالية وإدارية وإصلاحية. فقد رفض الحكام العسكريون في السنوات الأولي تحت قيادة (ونجت) باشا، إعانة الخلاوى ماليا أو تطويرها. ولكن الوضع تغير مع انحسار نفوذ الحكام العسكريين ومتعيين إداريين مدنيين. وشرعت الإدارة البريطانية بدءً من عام 1910 في النظر إلي الخلاوى " كنظام مفيد لحياة الناس وكجزء ضروري من نظام التعليم، ولم تعد الخلوة جزءا من الكتّاب بل أصبحت نظاما مستقلا لأداء رسالة خاصة في الحياة الاجتماعية في القرية أوالقبيلة واعترفت بها الحكومة كمدرسة تهدف إلي خدمة المجتمع في الريف وتزود المواطنين بقدر بسيط من القراءة والكتابة ومبادئ الحساب". (محمد عمر بشير، تطور التعليم. .، ص125) . ونتيجة لذلك، خصصت مصلحة المعارف قسما خاصا لتفتيش الخلاوى، وحددت مرتبات للشيوخ كما تم اعداد مركز لتدريب فقهاء الخلاوى في عواصم المديريات. هذا وقد ارتفع عدد الخلاوى المعانة من 6 عام 1918 إلي 400 عام 1927 إلي 489 عام 1928 إلي 768 عام 1930. وجاء في تقرير لجنة (ونتر) بتاريخ 7 مارس 1935 أنه يوجد 1500 خلوة ومدرسة قرآن يؤمها 60 ألف تلميذا. من ناحية أخرى، كان قيام المعهد العلمي نتيجة مبادرة من الحاكم العام. فقد عين عام1901 لجنة من عشرة علماء ورئيس للاشراف علي هذا المعهد وتقديم التوصية للحكومة فيما يتعلق بتعيين العلماء بالجامع وتدريس الشريعة. وفي عام 1912 عُين الشيخ (أبوالقاسم هاشم) شيخا للمعهد بعد وفاة شيخه السابق (محمد البدوى) . وأعيد تنظيم التعليم فيه بمقتضى (لوائح تعليم المعرفة الإسلامية في معهد المشيخة العالمية بامدرمان والخرطوم والجوامع في المديريات والمراكز)، والتي صدرت بموافقة الحاكم العام. في نفس تلك الفترة المبكرة، افتتحت كلية غردون عام 1902 بدأت بمدرّسي اللغة العربية والشريعة الإسلامية لتخرج قضاة شرعيين ومدرسين. ولم يكن ونجت ميالا لنشر الثقافة الغربية الحديثة، لأن الاستعمار البريطاني أكتوى من المثقفين الهنود والمثقفين المصريين. ومن ناحية أخرى، انتجت كلية غردون فئة جديدة من المتعلمين السودانيين رغم المناهج المحددة إلا أن التراث العربي الإسلامي، والنهضة الفكرية التي نشأت في العالم العربي منذ القرن التاسع عشر، وشملت كل بلدان المنطقة، نبهت الاذهان لاوضاع العالم الاسلامي والشرق العربي. ظهور جمال الدين الافغاني ومحمد عبده وعبدالرحمن الكواكبي وشكيب أرسلان وفرح أنطوان وشبلي شميل وأحمد لطفي السيد وغيرهم. (باشري، ص172و225) شهدت السنوات الأولى للاستعمار، بروز التيار العروبي المسلم والذي كان شعراؤه هم الذين يملأون ليالي المولد بالقصائد المادحة. ولكن الكثير منهم كان يقوم بمهمة تمجيد الاستعمار والمستعمرين أيضا. وهذا هو الشاعر (عبدالمجيد وصفى) يمدح الملك (جورج) الخامس حين مر ب (بورتسودان) في 17 يناير 1917 وكانت حكومة السودان قد انتدبته لهذا الغرض، يقول: - رب الجلالة "جورج" من تعنو لهكل الملوك بذلة وصغار هو شبل "أدوارد" العلي وحفيد منبين الأنام لها عظيم فخار "فكتوريا" ذات المآثر والتىشهد الوجود بفضلها المدرار وافيت للسودان سعدا طالعا فغدا بزورتكم رفيع منار أوليته نعما غزارا قبل أن تأتي وقد أردفتها بغزار وله انتخبت من الرجال أخايرا بالعدل شادوا دارس الآثار عرفوا الدواء لكل الداء إذ هم حكماء فينا ثاقبو الأفكار من أهم مظاهرتدجين الإسلام المحافظ، أنه مع اندلاع الحرب العالمية الاولى1914، تقدم رجال الدين بوثيقة ولاء وقع عليها: مفتى السودان الشيخ الطيب هاشم، وشيخ علماء السودان الشيخ أبوالقاسم أحمد هاشم، والشريف يوسف الهندي، والسيد عبدالرحمن المهدي، والشيخ الباقر الولي اسماعيل من شيوخ الطريقة الاسماعيلية، بالاضافة لتسعة علماء كبار. وقد كان السيد علي الميرغني خارج الخرطوم فارسل برقية مؤيدة من كسلا بتاريخ12 نوفمبر1914. وبالاضافة للوثيقة جاءت رسائل تأييد لبريطانيا من رجال دين وزعماء قبائل وأعيان. وقد جمعت كل الرسائل في كتاب عرف ب" سفر الولاء". وهذه مقتطفات من الكتاب: " حكومتنا العادلة التي لم ير الإسلام والمسلمون منها إلا كل خير ديني ودنيوى، جميعنا في استياء من قيام تركيا في هذه الحرب التي نتبرأ منها، فإنه لا مصلحة فيها للمسلمين بوجه من الوجوه". " إننا شاهدنا عيانا ما كان جرى فيما سلف، مدة الأتراك من الجور والفجور والاستبداد في الأحكام، بدوام الظلم والتنكيل والتمثيل والقلاقل والإهلاك والإهانة. . . ". " تركيا التي حاربنا ظلمها من قبل، وتقلبت علينا أدوار كثيرة، وحكمنا الأتراك والدروايش وغيرهم، فلم نجد عدلا مثل ولاة أمورنا الإنجليز الحاضرين الوفيين العاملين". (شبيكة عبر القرون 473) . كذلك دشنت نهاية الحرب العالمية الاولي عام1919م رسميا، حلف القوى التقليدية مع الإدارة البريطانية، حين سافر ما عرف بوفد: " سفر الولاء" للندن بقصد تهنئة الملك (جورج) بالنصر علي الحلفاء. وقد تبارى السيدان والوفد في تأكيد الولاء، وتمجيد بريطانيا والملك. فقد ألقى السيد (علي الميرغني) خطابا ضافيا ودودا نيابة عن الوفد و"جميع أهل االسودان"، معبرا عن التهنئة القلبية" علي الانتصار المجيد الذي أحرزه جنودكم". وأضاف مخاطبا الملك (جورج) الخامس: " ولقد تحققوا أن هذه الحرب تختلف عما سبقها من حروب لأنه فصل في هذا الحرب في مصير الشعوب الضعيفة التي كانت حربا بين الحق والباطل، فغلب الحق، وزهق الباطل، وادحضت المدنية الهمجية". و"جعلتم العدل أساس ملككم الواسع، فكنا نتروح العدالة والسلام اللذينامتدا في أنحاء البلاد، وأظهرت حكومة جلالتكم من الاهتمام بشئون السودان، والتضحية التي بذلت في سبيل تقدمها واسعادها ماديا وأدبيا، وحسب أهل السودان في المستقبل يتوقف علي ارنباط البلاد بامبراطورية جلالتكم، ولذا نضرع إلي الله القدير ان يمنح جلالتكم العمر الطويل المقرون بالسعادة، وأن يحفظ بريطانيا الغظمى، رافعة لواء الحرية والمدنية في العالم، ولتحفظ الراية البريطانية طويلا علي السودان، ناشرة السلام والسكينة". (محجوب باشري:399) . أما منافسه الزعيم الديني (عبدالرحمن المهدي) فقد أراد المزايدة عليه، فقدم سيف والده (محمد أحمد المهدي) هدية للملك (جورج) الخامس، والذي قام برده له، وخاطبه: " ياحضرة السيد عبدالرحمن: إني أقبل هذا السيف، وأقدر عاطفة الولاء التي دعتكم إلي تقديمه لي كبرهان علي إخلاصكم وعواطفكم نحوي، إني سأقبله منكم، وأعيده إليكم، ولورثتكم من بعدكم للدفاع عن عرشي وامبراطوريتي بصفته برهانا علي قبولي شعائر خضوعكم وخضوع اتباعكم". (نفس المصدر السابق، ص401) . كان من أهم آليات الإدارة البريطانية في تدجين الإسلام المحافظ، هي تحويل المهدية من إيديولوجية وحركة ثورية إلي طائفة دينية محافظة تستخدم الدين كوسيلة لاستقرار الحكم القائم، وكترياق مضاد لأي تحديث أو تغيير جذري قد يطال البلاد. وفي فترة قصيرة صارت المهدية مع الختمية والهندية من أهم ركائز الإسلام المحافظ والمدجن والمتعاون مع الاستعمار بدون تردد. وكانت خطة الإدارة البريطانية هي شغل السيد (عبدالرحمن المهدي) في الأعمال التجارية والاستثمارات، علي الأقل في السنوات الأولي حتى ثلاثينيات القرن الماضى. ففي عام1906 طلب من الحكومة أرضا في (الجزيرة أبا) لزراعتها ولم تعترض الحكومة التي قامت باعطائه أرضا واسعة مليئة بالاشجار" ليقوم بنظافتها وزراعتها لمدة خمس سنوات لكي تصبح ملكا له بموجب قانون التعمير الذي كان معمولا به آنذاك". (عادل شرفي في كتاب: الإمام عبدالرحمن المهدي. مداولات الندوة العلمية للاحتفال المئوي، القاهرة، مكتبة مدبولي، 2002: 211) . وفي عام 1909 طلب سلفية من الحكومة لتمويل أعماله الزراعية. وعند رحيله للإقامة في (أبا) مُنح سلفية مبان له ولاسرته في العام الملي1909/1910. واضيفت له مساحات أخرى واسعة من أراضي (الجزيرة أبا) وغاباتها، حسب قانون تعمير الأراضي الذي كان سائدا مقابل " خدماته في فترة الحرب". وفي عام 1930 كان يزرع مساحة تبلغ خمسة عشر فدان. وتعددت مصادر دخل (المهدي)، بعضها من الحكومة بشكل مباشر أي مرتب، أو بشكل غير مباشر (عطاء تعهد أخشاب الحكومة)، أو من (زكوات وهدايا) القبائل التي ما زالت تدين بالولاء للمهدية (عرب سليم، الحوازمة، الرزيقات. . . الخ) . وفي وثيقة رسمية صدرت عام1924 تبين أن ايرادات بدون المشاريع الزراعية بلغت أربعة آلاف ومائة وثمانين جنيها . وفي عام1925 بدأ نشاط دائرة المهدي والتي نظمت النشاط الاقتصادي المتوسع بطريقة حديثة. (نفس المصدر السابق، ص213) . واشتملت الدائرة علي الشركة العقارية، وقد قدرت قيمة الأملاك باسعار عام1924 بحوالي عشرة آلاف جنية. وضمت الدائرة (القسم التجاري) المختص في تكوين الشركات. ويلاحظ أن أحد عقود الشركات ينص علي تحكيم (جناب مدير المخابرات) في جميع الامور التي يختلف حولها الأعضاء. ويعلق الباحث (شرفي) بأن ذلك يمثل " حلقة سلسلة إجراءات مصلحة المخابرات لإحكام سيطرتها ورقابتها علي السيد عبدالرحمن إمام الأنصار وتحويل اهتمامه وحصر نشاطه في المجال الزراعي والاقتصادي، وجره بعيدا عن توجه والده في الجهاد الحربي، والانتفاضات المهدوية والعيسوية التي كانت تندلع من حين لآخر. كما توافق هذا التوجه مع أسلوب ومنهج السيد عبدالرحمن في تحقيق أهدافه عن طريق الجهاد المدني". (ص220) . وقد ظهر هذا في استقطابه لكثير من أعضاء مؤتمر الخريجين، خاصة وقد عُرف الرجل بكرمه وجوده "الواهب المال لا منّا يكدره"- كما وصفه (المحجوب) . ولأن الشعراء يتبعهم الغاوون فعلا، فقد مدحه الشاعر (أحمد محمد صالح) عند عودته، قائلا: حباك مليك القوم نيشان رفعةوأنت نيشان الجلال مكلل هنيئا لهذا القطر أن رد سيفهإليه وتنماه أحد وأصقل **** وكان الموقف السوداني من تركيا المسلمة في الحرب، غريبا. ولكنه أكد موقف القوى التقليدية (الدينية) المنحاز للواقع الجديد وتكريسه. ومنذ ذلك الوقت، تم اعتماد النظام القبلي والطريقة الصوفية التي تحولت إلي نسق الطائفية يعد إنشغال زعمائها بالسياسة وتكوين الاحزاب. واستطاعت الأحزاب الطائفية، بالذات الحزب الوطني الاتحادي (طائفة الختمية)، وحزب الأمة (أنصار المهدي) توظيف الدين سياسيا. وهذا الأمر الواقع، عطّل قيام أي حركة إسلامية مستقلة عنهما أو لا تحوز علي مباركتهما. أبدي رجال الدين التقليديين تجاوبهم مع الاستراتيجية التي تحالفت معهم بقصد منع ظهور حركات معادية في الأرياف قد تقودها عناصر متعصبة من (الفقرا) أو رجال الصوفية وليس الفقهاء. ويمثل البيان التالي، بوضوح قاطع، موقف رجال الدين المؤيد للإدارة الاستعمارية. فقد نُشر في صحيفة (حضارة السودان) بتاريخ 26 اكتوبر1921 ردا علي مقالة نشرها احد السودانيين في (الأهرام) وجاء فيه: ". . . فان جميع الامة السودانية قد ارتبطت بالحكومةالحاضرةالرشيدة ارتباطا حقيقيا بالقلب والقالب، بصداقة واخلاص، ونقدرها قدرها بحيث لا نبغي بها بدلا، لما هو شاهد بعين اليقين، من جلب المنافع ودفع المضار، وتعمير البلاد، وتامين الطرق وعمارة المساجد، وبث العلوم الدينية، ونشر المعارف بترتيب العلاماء ومساعدتهم بالمرتبات التي اراحتهم، وتشييد الجوامع والمدارس في عموم البلاد حتي أن ابناء الوطن صاروا في تقدم باهر، ونجاح ظاهر، مع اعطاء الحرية التامة لرجال المحاكم الشرعية في المحاكم والاحكام أجزائها تكذيبا تاما". ووقع عليها كبار العلماء ومشائخ الدين من بينهم مفتي السودان، ومفتش المحاكم، وشيخ علماء السودان، وغيرهم. ***** استمرت عملية التدجين والاحتواء بهذه الوسائل، حتي نهاية الاربعينيات التي شهدت صعود حركة التحرر الوطني، وتطور الوعي السياسي مع ازدياد أعداد المتعلمين. ومع التغيرات الإجتماعية والثقافية والاقتصادية، وصارت البلاد ساحة لصراع الأفكار والايديولوجيات. ويهمنا في هذا المقام، بدايات الحركة الإسلاموية. فقد تكاثرت اعداد المقتنعيين بين المتعلمين، بفكرة الإسلام الشامل، وقيام تنظيم أو كيان مؤسسي يعمل علي تجميعهم للعمل معا حسب اهداف مشتركة أو متقاربة مثل الحكم بالاسلام ومواجهة الحركة الشيوعية. ولكن التصور كان مشوشا عند الكثيرين خاصة وقد تبنوا في البداية إسم (حركة التحرير الإسلامي) والذي يعكس أجواء الحركة الوطنية، والبعد نسبيا عن التدجين. ولكن لم يكن الإسلامويون قد حددوا أهداف للحركة غير معاداة الشيوعية، و حتي فكرة الدستور الإسلامي كانت غائبة أو لم تكتشف بعد ليشغلوا بها الناس كما حدث لاحقا. ويكتب أحد الرواد: " القضية الاساسية كانت هي تأصيل إنتمائية هذه الحركة الاسلامية التي إنبثقت في هذا البلد والتي أصبحت في ظن كل الحادبين علي الدين هي طوق النجاة وهي السلاح الذي يدفع عن هذه الأمة تغول التيار اليساري الكاسح يومذاك وجهالات الطائفية. " (أزرق، ص10) في الحقيقة، جاءت الحركة الإسلاموية كمولود طبيعي لعملية تدجين الإسلام المحافظ. ومع انحسار الاستعمار وقرب جلائه، كان علي الإسلامويين السودانيين أن يفتتحوا مرحلة جديدة في تخليف السودان (أي استمرار تخلفه) تحت قناع جديد هو محاربة " التغول اليساري" أو" التمدد الشيوعي". ولكن في الجوهر، وقف أي "تمدد" أو" تغول" للتحديث والتجديد والتغير الاجتماعي. وتحددت مهمة اسلامويي السودان منذ نهاية اربعينيات القرن الماضي وحتي اليوم، في القيام بدور مصدات للتقدم والنهضة.
شارك هذا الموضوع: