ابو الدقيق

سلمى الشيخ سلامة - 17-07-2022

مشهد اول

العام 1989كان عاما مثيرا ، علي الصعيد الشخصي ، وعلي صعيد الوطن من ناحية اخري ، فهو العام الذي ( كان ) سيشهد انعقاد المؤتمر الدستوري في شهر سبتمبر منه ، ذاك الانعقاد الذي حملناه امالنا ولشواقنا لحل ازماتنا باجمعنا وكل ما تعلق بها لكن ذلك لم يحدث وهو آخر ما حدثني عنه الراحل عبد العزيز العميري وازعم ان ذلك الحدث ( انقلاب يونيو) هو الذي عجل برحيل العميري ، فلقد قال :
-الانقلاب دا حق الجبهة الاسلامية ، وما في زول عندو مصلحة في عدم انعقاد المؤتمر الدستوري ، ولا البلد دي تمشي لي قدام ، وترجع لي ورا ( الا الناس ديل ) عشان كده انا ذاتي ماشي خالي ليهم البلد ذاتا ورحل بعد ثلاثة ايام من الانقلاب في الرابع من يوليو 89، تاركا ايانا يتاماه الي الآن ، مواعين حياتنا فارغة فارغة نحاول ملؤها المر الذي ازعم استحالته ، هذا فيما يتعلق بالجانب الشخصي قبل ذلك في رمضان ، من نفس العام ، لم يكن رمضانا ككل (الرمضانات )السابقة التي عشتها ، فلقد تميز بامر أعجز عن وصفه ، كان علي ان اكون ضمن من اسماهم الاستاذ صلاح الدين الفاضل ( تيم نمرة واحد ) رفقة الزملاء : صلاح التوم ، اسامة جمعة ، حسن دوكة ، طارق كبلو ، طلال عثمان ، التجانبي حاج موسي ، سكينة عثمان ، اسراء زين العابدين ، عبدالوهاب هلاوي ، رجاء حسن حامد ، سهام الكندي ن محمد خفاجة ، بقيادة المايسترو صلاح الدين الفاضل ، وغيرهم من المعدين والمخرجين ، والفنيين ، والمذيعين ، والمذيعات ، والضيوف .
شهر كان له في نفوسنا وقع طيب ، وطعم حلو المذاق ، حلاوة الديمقراطية التي ما كنا تدرك سرعة انهزامها وتراجعها الي الصفر ، او ما دون ذلك ؟ كان اليوم الاول من رمضان قد حل بيننا ، ولم نكن ندرك حلوله لانشغالنا في التحضير لبرامج رمضان ، الا في وقت متاخر ، وكان يصادف اليوم الاول لرمضان من ذاك العام ، الاحتفالات بالسادس من ابريل ، دخل علينا الاستديو الاستاذ صلاح الفاضل ، بالاوراق التي كنا قد سجلناها لبنامج ( صباح الخير يا وطني ) قائلا :
ـ يا اولاد ن سلمي الشيخ ، اسامة جمعة ، بكره حيكون اول يوم في رمضان ، عارفكم سجلتو البرنامج ، لكين عاوزين الحلقة تكون نص ساعة لانه في رمضان ما بتتذاع زي المعتاد خمسة واربعين دقيقة ، يلا ، خليل فرح ، فاضي .حينها كانت اشارة ضبط الوقت قد اشارت لما بعد منصف الليل لم نكن نملك سوي حق التنفيذ لما اشار به الشيخ المبجل صلاح ، واستغرق الامر منا ما يزيد علي الساعة لاداء المونتاج ، لكننا لم نحس بانصرام الوقت ، بل كنا في حالة صحو جميل ، عززه صديقنا الراحل هاشم الريح ، الفني الفذ، جاءنا بعشاء وسحور لا ينسي .
خرجنا في بواكير ذلك الصبباح في فجر ران علي الحياة بقدوم يوم جديد ، لم تكن بنا اعراض اعياء او فتر ، ولم نمل وجودنا ، بل عدنا الي العمل عند العاشرة من اليوم نفسه ، ملؤنا الحماس ، وجدت ان اسمي فيخريطة البرنامج مكرر في ما يزيد علي الخمسةعشر برنامجا ، اذكر ان الاستاذ والصديق دير الاذاعة صالح محمد صالح ناداني الي مكتبه ضحك في وجهي لحظةرآني وقال :
بالطريقة دي لو الواحد فتح ما سورة الاذاعة حتطلع ليهو سلمي الشيخ ، الله معاك كنا جماعة التفت في حب حول العمل الاذاعي الذي كان دائما وراءه صلاح الفاضل ، وهو بدوره من اعانني علي حفر اسمي في اخاديد الاذاعة رغم قصر الفترة التي امضيتها في العمل الاذاعي ، لتبقي اجمل الفترات في حياتي ابدا .
اتاحت لي الحوارات التي اجريتها مع العديد من الرموز في البلاد من التعرف اليهم ، وكان لي شرف ان احاور السادة (محمدابراهيم نقد،صادق عبد الله عبد الماجد ، د.الجزولي دفع الله ، محمد المكي ابراهيم ، فراج الطيب ، مصطفي سيد احمد ، علي المك )وغيرهم ممن سقطت سهوا اسماؤهم عن الذاكرة .
في ذلك الرمضان كان العميري له كل الرحمة ، وردة تحط علي كل غصن البرامج ، فانت واجده في ( كلام في كلام ، مغنيا ، مع الفنان شاويش ، وفي حكاية من حلتنا ، مع سعد الدين ابراهيم ومعتصم فضل ، وكاتبا لبرنامج كاريكاتير ، الذي اخرجه البزعي ، وضمن البرنامج الدرامي الكوميدي ناس معية خطاب حسن احمد ، وفي برنامج من اعداد واخراج عفاف الصادق حمد النيل ، مكتوب باللهجة المحلية لاهل دار فور ، اخراج كمال عبادي ، وهنا لابد من الوقوف عند هذه النقطة ، فالزميل عبادي كان لا يحتمل مجرد ان تعبر الاستديو ، ناهيك عن الكلام ، كان اذا عبرت ( نملة ) فانه لا محالة (بقلب الهوبة ) داخل الاستديو في حركة انذار ( مبكر ) ويظل يتمرغ بالارض حيت سكت الجميع ، لكني في تلك الامسية وجدته مستندا الي حافة باب الاستديو ، وداخل الاستديو كان عبد العزيز العميري ( فاعل ما سائل ) قائدا عاما علي حملة من الضحك ، بمشاركة تماضر شيخ الدين ، رجاء حسن حامد ، عفاف الصادق ، مريم محمد الطيب ، حسن دوكة ، وصخب من الضحك بلا اول ولا آخر ، من جانبه الفني كان يجلس الي كرسيه بانتظار ان تنتهي موجة الضحك ، شدتني عاصفة الضحك فدلفت باتجاه الاستديو ، وجدتهم في غيببوبة منها ، ضحكت معهم وخرجت ، سالت كمال عبادي عن السر الذي جعله صابرا علي كل ذلك الضحك فهز كتفيه ونظر الي ساعته ، كانت الساعة تشير الي ما بعد منتصف الليل !
حين عاد معزيا في العميري بعد ما يقل عن الشهرين من ذلك اليوم ، جاءني باكيا :
ـ تتذكري يا بت الشيخ اليوم داك ، لحدي هسي ما عارف المسكني شنو من الهوبة ، ولا ما قادر اعرف السبب الخلاني عملت كده ، حاجة غريبة مش؟ وبكينا معا تمنيت ان لو كان البكاء يعيده ، رحمة الله علي العميري.مشهد ثاني

العميري ، كان غرسة نخل رائعة ذلك الرمضان ، كنا وما زلنا نتمناها بيننا ، ليتها تظل لتقينا هجير الحياة الاستديو كان عاجا بالناس الضاحكين ، من الذين يقدمون برنامج كاريكاتير الذي كتبه العميري ، كنا نقرأ في الحلقات التي سنسجلها ، صحبة المخرج اباهيم البزعي ، تماضر كانت تجلس الي ارض الاستديو ، (تحل ) كلماتها المتقاطعة ،من احد الصحف اليومية ، فجأة اثناء البروفة قاطع العميري :
ـ البزعي تماضر ما شغالة في المسلسل دا؟
ـ لا ما شغالة
ـ ما شغاله ؟ اديني ورقي ، يلا
جمع منا الاوراق كما اتفق ، وخرج بها من الاستديو ، خرجنا خلفه جميعنا ، اعدناه ، بدا وكأنه لم يكن ذلك الشخص الذي قذف بحذائه الي اعلي الستديو مسببا كل ذلك النزول لقطع السقف ، كأنه لم يثر ابدا ، كأن ما حدث من غضب كان كذبة ، او فورة خارج النص ، عدنا للضحك ولتسجيل حلقات برنامج كاريكاتير

مشهد ثالث

شيخنا صلاح الفاضل ، كان يسميني ابو الدقيق ، لحماقتي ، وسرعة انفعالي ، وهذا ما وددت التخلص ممنه طوال حياتي ، وكثيرا ، حتي ان شقيقي الكبير كان يقول لي دائما
ـ سلمي اختي ، الدنيا دي فيها الوان كتيرة غير الاسود والابيض ، في الوان تانية
لكني لا اراها ، غالبا ، لحظة انفعالي ، علي اية حال ، استدعاني صلاح الفاضل ذات صباح ، المكتب كان مكتظا بالحضور ، ضمنهم كان فراج الطيب ، والذي كان تقدم بشكوي ضدي لصلاح الفاضل ، مفادها انني اغفلت امر مسلبقة ما كان المجلس القومي للثقافة والفنون بصددها ، حين احسست بالسخرية في طريقة الكلام الصادرة عن صلاح الفاضل امام الحاضرين ، غضبت وخرجت لا الوي علي شئ سوي المغدرة الكلية للاذاعة ، دخلت الي المكتب هناك وقفت امام دولاب الاشرطة مفرغة كل المحتويات ،
من اشرطة كانت تخص البرامج التي كنت اقوم باخراجها ، منها ما خص الاستاذ علم الدين حامد وبرنامجيه (صالة العرض ، وحروف ) لابراهيم البزعي ( كاريكاتير ) لصلح الفاضل نفسه المسلسل اليومي الذي كنت اؤدي بطولته ، برنامجي صباح الخير ومساء الخير ، المفكرة ، وغيرها من البرامج التي تصل الي خمسة عشر برنامجا ، وكنت اذ ذاك اهم بالخروج ، فاذا بخطاب والعميري في مواجهتي ، وهما يلوحان لي :
ـ بت الشيخ شوفي تمرقي حنمرق معاك ، دي مسئولية كبيرة ، وانتي في اول السكة ، صلاح الفاضل حنخليهو يعتذر ليك ، اها ، تاني شنو ؟
اخذني العميري الي (ركن ) من اركان المكتب ، حدثني عن ضغوط العمل ، ورمضان ،
ـ ياخي زول زيك بشتغل ليهو كم برنامج من الصباح لحدي بالليل ، انتي مجنونة ؟ ولا شنو ؟ قيتي اشهر مننا ، بعرفك يا بت الشيخ سلامه ، يا بلال عليا ، آي ياخي اضحكي كده ، ( هيع ) عليك الله في احلي من الضحك دا؟ (ايا) هسي اخونا حيقوم يلقط الشرايط (والدبابير ) كلها ، و… اتجه بي الي مكتب صلاح الفاضل وضحكنا مما اسماه صلاح ابو الدقيق وكان يعنيني ، قال لي صلاح لحظتها :
تعرف يا ابو الدقيق ، العمل الاذاعي عمل جماعي ، ولا ما كده يا عميري ؟ وانه الجماعة ما زي الزول براه ، صحي الزول وسط الجماعة ما بكون ظاهر ، لكين انت يا ابو الدقيق ، زول بحب شغلو ، يلا امشي شوفي شغلك . مشهد رابع

اقف الآن علي عتبات منتصف العمر الجميل ، دعوني استعير اسم هذا الكتاب لامر في نفسي ، وهو كتاب لكاتبة امريكية ، توفرت علي ترجمته بابهة من نابهات مصر ، كنت قد كتبت عن هذا الكتاب ذات مرة ، وكانت اول مرة ينتبه فيها الي ما اكتب الدكتولر حيدر ابراهيم ، ولاول مرة يعنيه امر كتبت عنه ؟ ويبدو انني لم انجح في استمالته الا شفاهة لان قال ما قال عما كتبت شفاهة رغم ادعائه الاهتمام بالكتب والكتابة ، وتحريضه الناس علي ذلك الفعل ، لايهم ، فلقد سبقه الي ذلك اللاهتمام الاستاذ بدر الدين عثمان ، الذي توفر علي مطابع ودر نشر (الميدلايت ) كنت قد حملت اليه كتابي الاول (مطر علي جسد الرحيل ) اول مجموعة قصصية خاصتي ، المهم انه قال لي مبررا رفض النشر لتلك المجموعة :
حقيقة ما عندك جمهور ، يعني لو كنتي زي اقبال بركة كنت حانشر ليك
قلت له :يعني الزول لو داير ينشر يجيب صف الجمهولار عشان الناشر يشوفو وبعدين ينشر للكاتب ؟
وحملت كتابي وغادرته ، لم التق به الا في مدينة ايوا ، ولم التق به بالفعل ، لان في نفسي كانت مقولته ، وحتي ذلك الحين اصدرت لي الشركة العالمية الاصدارة الثانية .وبعون الصديق الرائع هاشم ودراوى اصدرت اكثر من عمل ، لا املك الآن منها سوي نسخة من كل كتاب ، ( سرحت )لكني لم اعرف اين اقول ما قلته الآن ، عفوا ، كنت اتحدث عن صلاح الدين الفاضل والعميري ،( حاف ) لاني احبهما بصدق ، وهنا ساتحدث عن الاستاذ صلاح الفاضل ، الذي اصفه دائما بانه ( دهب الاذاعة المجمر ) ، قد نتفق ، وقد نختلف حول شخصيته ، لكني اكن له تقديرا خاصا بي ، فلقد علمني ان الحب هو اول ابجديات العمل الاذاعي ، وهوالمدخل الحقيقي للاذاعة ، علينا ان نحبها ، وننذر انفسنا لها ، ( قدر ما تديها بتديك ) هكذا كان يقول لي محرضا ،ةلذلك كان صلاح ، وسيظل لدي احد القامات التي لاتنحني في العمل الاذاعي .
حين بدأت العمل الاذاعي ، 87كان صلاح في ذلك الحين ، رئيسا لقسم المنوعات ، ولم اكن اعرف اين اضع قدمي ، جاءني ذات مساء ، وكنت اذ ذاك اعمل مع الزميل شاذلي عبد القادر كمساعد مخرج لبرنامج صباح الخير يا وطني ، وامتب مجلة المساء ن التي يخرجها الزميل سيد احمد ابراهيم ، كنت انتظر التيم الذي اشتغل معه في المتب ، وهل صلاح ، وضع امامي اوراقا متنوعة من التي لم اكن اعرف كيف تدار وقال :
ـ نايلة حتجيك الساعة سته
ـ نايلة العمرابي ؟
ـ في غيرا ؟
ـ عشان؟
ـ عشان حتشتغلو المفكرة ، سلام عليكم
ـ لكين يا
ـ انتي قريتي خياطة؟ مش اتخرجتي في معهد الموسيقي والمسرح ؟وبتعرفي يعني شنو اذاعة ؟
ـ ما حصل اشتغلت المفكرة
ـ خلاص الليلة حيحصل
الساعة كانت تشير الي الثالثة بعد الظهر ، هالني الموقف ، لكن لا مفر ، نزلت باتجاه الاستديو ، كنت لحظتهااتساءل ( برنامج يومي يعني اعداد ، اخراج ، ، قلت في نفسي ، ما بطال ، برضو فكرة ) دخلت الاستديو
ادرت الشريط ، المسجل عليه المفكرة ، ادركت ماذا اريد ، وماذا علي ان افعل ، عدت لمكتب التنسيق ، طلبت من عم خفاجة ( روزنامة ) للتاريخ الهجري والميلادي ، ومواقيت الصلاة ، عدت للمكتب ، بدأت اكتب المفكرة ارتب المواد حسبما هو مطلوب ، وفقا للاهمية ، نظرت في ساعة يدي ، كانت نايلة امامي تماما ، نزلنا الاستديو ، خوف يطويني الي جانبه ، رعشة سرت فيّ رفت لها كل اعضائي ، اعانني الفني علي تخطي العقبة الاولي ، سجلت اولي الحلقات ، من برنامج كنت اعده للمرة الاولي ، استيقظت صباح اليوم التالي باكرا ، ادرت مؤشرالراديو بانتظار اول برامجي ، لم أفرح بما قدمت ، لكني ثابرت في لاحق الايام حتي جعلت لها مذاقي الخاص وايقاعي الخاص ، وعاد برنامجا له مستمعيه الذين ينتظرون طلعته .مشهد خامس

فبراير من العام 1989 مذكرة الجيش الشهيرة ، غبار امشير العالق يخيط الجو بغلالة كثيفة تنسحب علي السياسة والحياة بكاملها ، كنت في نفسي موقعي في المكتب انتظر حضور نايلة العمرابي ، يقف امامي الآن الاستاذ صالح محمد صالح مدير الاذاعة :
ـ الاولاد ديل وين ؟
ـ منو ديل ؟
ـ شاذلي وصلاح التوم ؟
ـ مشوا البيت
وانتي ما عندك بيت ؟
ما عندي مواصلات ، بعدين عندي شغل مع ناية وسيداحمد ابراهيم
يعني بتعرفي تقري وتكتبي ؟
ضحكت من سخرية السؤال ، واجبت بارتباك
بعرف طبعا
خلاص دي مذكرة الجيش ، عارفاها ؟
قريتا الصباح في الجرايد
خلاص بكرة الصباح عاوز برنامج صباح الخير عنها
وخرج المدير
مضت اللحظات ثقيلة ، فلقد كان علي ان اسجل المفكرة مع نايلة ، وان اكتب واخرج برنامج صباح الخير يا وطني ، لاول مرة منفردة ، وهذا يعني الطوفان .
قلت لنفسي : الليلة ووب يا بت الشيخ ، كان الحلقة طلعت كعبة سجمك ، وغنيت ( طلعت الحلقة ) ضحكت مني ، كنت ما ازال في حالة من الانبهام ، وواصلت الحديث معي : يا بت الشيخ ،ة يا حليلك يا المكتوية بقلم الرصاص ، بمسحوك ، وتمت وختمت ، وعمك صالح كسر قلمك ، حتي القلم آيل للكسر ، ان لم ….
السادسة مساء ، لم اكن قد تحركت من مكاني ذاك الا بالقدر الذي يسعني لطلب كباية شاي من عم قطبي ، الذي جاءني دون ان اسعي اليه ، يدخل الآن الثنائي الرائع حسن محمد دوكة ورجاء حسن حامد ، تعقبهم نايلة ميرغني العمرابي ، نزلنا الاستديو ، وجدنا اسامة جمعة وطلال عثمان ، اكتمل التيم ، فهما من اكثر الفنيين قربا الي نفسي ، قلت لهما :

سعيدة جدا لانكم الليلة هنا ، خايفة
من شنو ؟
صالح اداني مهمة صعبة الليلة
شنو ؟
صباح الخير يا وطني
يا حاجة قولي بسم الله ، معاك حسن ورجاء ، ما بتجيك عوجة ، ونحنا معاك
اكلنا التسجيل اودعنا الحلقة الي الاستديو المباشر ومعه شريط المفكلرة ، في الصباح صحوت من نوم لم يكن الا كوابيس وهلاويس ،انهيت كتابة برنامج مجلة المساء عند السادسة صباحا ، الراديو كان قد بدأ بث النشرة اليومية الصباحية ، بدأت بعد ذلك المفكرة ، تلاها برنامجي الذي كنت انتظره ، البيت باجمعه كان يؤازرني ذلك الصباح ، كلما مرت الدقائق كنت احس خوفي يتراكم ، وضربات قلبي ترتفع وتيرتها ، ( امتحان شهادة ) انتهت الحلقة ، لا اعرف ماذا فعلت ولا ماذا كان شعوري بالضبط ؟ خوف ، رهبة ، ابتسمت لي في سري ، ومنحت نفسي درجات ضئيلة حتي لا ( انشرح ) كما قلت لي سرا ، جاءني صوت امي مهنئا ، رفعت قليلا اسهمي ، والدي لاول مرة يخرج عن صمته فهو قليل ما ينفعل بما افعل علي الاقل هذا ما كنت احسه ، هنأني بدوره ، خرجت باكرا باتجاه الاذاعة علي غير العادة ، لا اعرف كم استغرقت الرحلة الي الاذاعة من ميدان الوسته ؟
مشوار كنت اقطعه ( كداري ) لكني كنت بطيئة الخطوات ، واحسست المشوار قد طال اكثر مما يجب ، وجدتني داخلة الي الباب الرئيسي ( وما قادرة امشي خطوة ) حين وصلت الي الباب المفضي الي السلالم المؤدية الي مكاتبنا داهممني صوت المراسلة الزي كان واقفا الي نفس مكان دخولي
استاذ صالح عاوزك رددتي مقولتي الشهيرة ( الليلة ووب ) الرماد كال حماد
مضيت باتجاه المكتب ، ( اقدم رجل واؤخر التانية )طرقت الباب ، امرني الاستاذ صالح بالدخول ، وجدته صحبة الاستاذ الخاتم عبد الله يونس ، جالسا الي كرسي بعيد عن مكتب صالح ، سلما علي بحرارة ، قالا بصوت واحد :
-حلقة ممتازة. دمعة جرت علي خدي ، مسحتها ، وابتسامة من الاستاذ صالح ردتني الي الواقع مدخلة الامن الي قلبي الواجف ، هربت خوفا ، فاجأني صوت الاستاذة ليلي المغربي:

  • تعالي حلقة جميلة ، قلت تلك هي ليلي واريحيتها المعتادة ، مردفة : ولله ما عشان انتي هنا ، لكين بالجد حلقة جميلة .
    قلت لنفسي : دايرين يطيبوا خاطري ساكت
    عبرت باتجاه المكتب ، سمعت صوت صلاح الفاضل يناديني ، قلت في نفسي ، هسي صلاح دا مالو كمان ؟ عارفة حيقول لي دا شنو دا ؟ وهو ذاتو الجابو شنو الليلة ؟ ما قال مسافر ؟

ناداني مرة اخري
ـ يا بت ، يا سلمي الشيخ تعالي هنا
دخلت المكتب ، ، هب واقفا، اخذني الي حضنه معلنا فرحته ، رايت بريقا في عينيه ، مد الي ّ بورقة طلب مني ان اوصلها الي مكتب السكرتارية ، لم اقراها ، اوصلتها وعدت اليمكتبنا ، ناداني قبل ان اصل ، خرجت الي مكتبه وفي نفسي انقباض ما، لحظة دخولي مد الي بورقة مكتوبة علي الآلة الكاتبة مختومة وموقعة بامضائه نسخة للمكتب ، وخري باسمي ، نسخة للملف ، لغة لا افهمها ، قال بلهجة آمرة :
اقريها
قرأتها كانت تحوي اول شهادة لي ، شهادة تقدير ، عن برنامج اعده للمرة الاولي ، واخرجه ، وقف صلاح مهنئا
فانفرجت اساريري
تهاني يا بت الشيخ
استرخت الورقة الزي كانت مرتعشة ، رميت بنفسي الي اول كرسي صادفني ، قلت ما قاله صلاح الفاضل :
المعركة الحقيقية بدت
بعدها لم يتوقف صلاح الفاضل عن كتابة مثل تلك الشهادات ، فبعد ان كنت مساعد مخرج لشاذلي عبد القادر صارت لي حلقاتي الخاصة ، واصبح لي حلقة في الاسبوع اقف علي اخراجها ، ثم عدد من الحلقات اسبوعيا ، وبت اخرج واعد برامج عدة ( اصداء 89 ) ( البيت الكبير ) و( مساء الخير يا وطني )بدلا عن ( مجلة المساء ) وكنت اكتبه واخرجه
بحلول رمضان من العام 89كنا قد بدأنا ما اسماه صلاح الفاضل ايضا : المعركة الكبيرة ، معركة رمضان ، كنا ندخل الاستديو عند التاسعة صباحا ونخرج عند الرابعة والنصف ، لنعود في السابعة ونخرج فجر اليوم التالي ، ، كان يجئصلاح الفاضل عند العاشرة مساء بعض الاحيان راجيا مني تسجيل حلقة من صباح الخير يا وطني ، لان المخرج لم يأت ، زكنت افعل صحبة التيم المحبوب امضيت اجمل سنوات حياتي العملية في السودان في الاذاعة ، يوم ان جاء من سيعين الخريجين الي الاذاعة كنت من بين الذين تقدموا لتلك الوظيفة ، سالني المسئول من لجنة الاختيار عن اسمي حين اجبته قال لي (هو انتي لسة ما عندك وظيفة ؟ كيف يعني ؟ قومي امشي ، ما اظنك محتاجة لينا ) وكنت في ذلك الحين قد امضيت ما يقارب السنة منذ ان بدأت العمل ، وكان اسمي معروفا ، ولم يكن ليغدو بذلك الحجم لولا عون كل من عملت معهم ( صلاح الفاضل ، صلاح التوم ، طارق كبلو ، اسراء زين العابدين ، حسن دوكة ، محمد خفاجة ، ابوبكر الهادي ، سوسن تاور ، اسامة جمعة ، عمر عوض ، سهام الكندي ، عبد العزيز الطاهر ، طلال عثمان ، شاذلي عبد القادر ، مبارك احمد المبارك ، اقبال محمد احمد ، ايمان محمد الحسن ، رجاء حسن حامد ، نايلة ميرغني العمرابي ، عثمان عمر ، احمد النيل ، فوزي عبد السلام ، عبود سيف الدين ،وكثيرون من الذين ساهموا معي في افساح مكانا لي بين اهل الاذاعة ) شكرا لهم علي حبهم وصبرهم علي مناكفتي لهم ، وشكرا لصلاح الفاضل الذي قدم لي المعرفة الاذاعية في يسر وفتح لي مغاليق ما كان لها ان تفتح لولا وجوده حولي ، فهو احد الذين تركوا بصمة في ذلك الجهاز الاعلامي لن تنمحي ابدا ، فله الحب ولي فخر انني عملت الي جانبه .

ايوا مايو 2004