الانفصال بين المسؤولية واللوم المتبادل

حيدر ابراهيم علي - 11-01-2011

نشر بتاريخ: 11 يناير 2011

أخيراً ختمت النخبتان ـ الشمالية والجنوبية ـ في السودان، دورة فشلهما المتوقع والمستحق بالانفصال. ولكنهما افتقدتا شجاعة الاعتراف بالمسؤولية، وأقبلتا على بعضهما البعض تتلاومان.

ومن المفترض أن يقوم كل طرف بنقد ذاتي، وهنا تدخل الأحزاب المعارضة أيضاً. وليس في هذا الموقف تبرئة للإنقاذ، بل إقرار بالتفريط في السلطة الديمقراطية، وفي عدم مبادرة الحكومات المنتخبة بتقديم مبادرات للسلام. وللمفارقة، حدثت اتفاقيات السلام الأساسية تحت رعاية نظم عسكرية. وفي عام ‬1965 فشلت الحكومة المنتخبة في عقد مؤتمر المائدة المستديرة، ثم في عام ‬1988 تشاكس الحزبان الكبيران حول تمرير اتفاقية الميرغني ـ قرنق، وأضاعا وقتا غاليا سمح للجبهة الإسلامية بهندسة انقلابها.

لذلك، عندما أقول الشمال والجنوب، فالمقصود الكتلة الثقافية والسياسية والجغرافية، الممثلة بنخبها والموجودة في كل إقليم. وهنا يمكن التحدث عن عقل سياسي سوداني واحد، لم يتأثر كثيراً باختلاف الجغرافيا والتاريخ في الإقليمين. فقد فشل الجنوبيون والشماليون في استيعاب فكرة الدولة الوطنية الحديثة، بسبب الماضوية التي هيمنت على طريقة تفكيرهما في التعامل مع التاريخ. فقد وقف الشمال عند دولة المدينة، والجنوب عند الزبير باشا. هناك بالطبع اختلاف نسبي بسيط لا يؤثر في مجمل طريقة التفكير والسلوك، فقد كانت النخبتان نتاجاً مباشراً للنظام التعليمي البريطاني، حيث تخرجت غالبية النخبة التي حكمت في الجنوب، من مدرسة رومبيك الثانوية أو التحقت بمدارس ثانوية شمالية، ثم بعد ذلك التحق المتفوقون، معاً، بجامعة الخرطوم.

وقد تميزت فلسفة الاستعمار البريطاني بالعملية ـ النفعية (البراغماتية)، ولذلك اهتم البريطانيون بتخريج موظفين يساعدون على خفض كلفة الاستعمار، ويجنبونهم الاحتكاك المباشر بالسكان المحليين، على عكس الاستعمار الفرنسي الذي يهتم بتذويب المستعمرات ثقافياً، لذلك أنتج مفكرين وشعراء من طراز سنغور، ولم يظهر في السودان عقب الاستقلال مفكرون ومنظرون يخططون لدولة ما بعد. فقد ظهر إداريون ومفاوضون جيدون، وهم عمليون وتنفيذيون فقط. ولم تقدم النخبتان رؤى سياسية واضحة تجيب عن سؤال: كيف يمكن أن يحكم السودان متعدد الثقافات؟ وكان من الطبيعي أن تتميز البرلمانات المتعاقبة بالبهلوانية السياسية والانتهازية. وهنا خضعت النخبة السياسية الجنوبية لعملية تنشئة سياسية جديدة، من قبل الأحزاب الشمالية، تتمثل في بيع وشراء النواب البرلمانيين. وهذا ما سماه «المحجوب» بلغته المنتقاة: «سوق النخاسة»، ولكن لم يوقفها على مستوى الممارسة الساسية. وتكرس منذ وقت مبكر، نمط السياسي الجنوبي الانتهازي والسياسي الشمالي المفسد. وثبت في أذهان الشماليين أن الجنوبي قابل للشراء والإغراء مادياً، ومن هنا غابت المبدئية في علاقات الشماليين والجنوبيين. وهذا ما حدا بالسياسي الجنوبي «أبيل ألير» أن يعنون كتابه: «جنوب السودان.. نقض العهود والمواثيق».

أعطت اتفاقية أديس أبابا ‬1972 للنخبتين فرصة ذهبية لتحقيق السلام والتنمية في كل السودان، وبناء السودان الجديد منذ ذلك الوقت، دون انتظار الحركة الشعبية حتى نهاية القرن. ومن خلال إقرار الحكم الذاتي، مكنت الاتفاقية الجنوبيين من حكم الجنوب كاملاً وشاملاً، تحت رعاية حكم عسكري في الشمال يقوم بمهمة الضبط ورعاية وضمان التنفيذ. وهذا يعني إطلاق يد الجنوبيين في إقليمهم، وبالتالي تعاظم إمكانية تنميته وتطويره. ولكن ماذا فعلت النخبة الحنوبية التي رباها البريطانيون تعليمياً والشماليون سياسياً؟ شرعت في «بناء وتكوين نفسها»، حسب لغة الأفندية أو البورجوازية الصغيرة عموما. وكانت النتيجة ظهور بورجوازية جنوبية، قوامها السياسيون وكبار الموظفين، وللمفارقة في تحالف مع التجار الشماليين أو «الجلابة»، الذين يشبعهم الجنوبيون سبا وإدانة، ولكنهم أصحاب خبرة في السوق، وهذا ما يجمع النقائض.

وأهملت البورجوازية بناء وطنها، وغرقت في فساد النميري حتى ‬1983 حين فاجأها بضربتين قاتلتين: تقسيم الجنوب إلى ثلاثة أقاليم، وتطبيق قوانين سبتمبر «الإسلامية». وهرع الجنوبيون إلى الغابة والحرب مرة أخرى، لأنهم فشلوا في صنع السلام. فهل يعني هذا أن النخبة قادرة أكثر على صناعة الموت، مما يهدد دولة ما بعد الاستفتاء؟ نعم، لقد نقض النميري عهده، وهذا متوقع، ولكن يبقى السؤال: ما هي التغييرات والتحولات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي أحدثها «ألير» والنخبة الجنوبية الحاكمة، طوال أحد عشر عاماً كانوا خلالها أصحاب سلطة مطلقة؟

بعد سقوط حكم النميري، جاءت حكومة منتخبة بعد انتفاضة شعبية رائعة في إبريل ‬1985، وكان من أهم شعارات المرحلة والتي تبنتها كل الأحزاب: إزالة آثار مايو! وفي رأيي أن قوانين سبتمبر وتوابعها: الحرب الأهلية، هي من أسوأ آثار مايو على الإطلاق. وكان الصادق المهدي من أكثر المهاجمين لهذه القوانين، وهو القائل إنها لا تساوي الورق الذي كتبت عليه! وتم انتخابه حسب هذا البرنامج والوعد الذي قطعه بإلغاء قوانين سبتمبر، وكانت هذه شفرة وقف الحرب. ولكن المهدي وقع تحت ابتزاز ممنهج من قبل الجبهة الإسلامية، استطاعت من خلاله شله تماما وتعطيله عن اتخاذ أي قرارات حاسمة، حتى قيام الانقلاب غير المفاجئ. وكان المهدي يطبق برنامج الجبهة الإسلامية ـ بوعي أو لا وعي ـ حين عجز عن وقف الحرب في الجنوب، وظل شديد الحذر في التعامل مع الحركة الشعبية وقرنق، بسبب توجهاتهم اليسارية التي تثير باستمرار حساسية المهدي.

تسبب عجز وتفريط حكومة الديمقراطية الثالثة في كارثة الانقلاب، إذ رغم إعلان الانقلابيين رغبتهم في الحوار، ارتكبوا الخطيئة الكبرى التي أوصلت الأمور إلى حد الانفصال. ورغم القول بجماعية المسؤولية، إلا أن السبب المباشر جاء نتيجة تديين الحرب، وتحويل الصراع السياسي إلى آخر ديني مقدس، وإطلاق صفة «الجهاد» على نزاع بين مواطنين في وطن واحد.

يتحمل الشريكان مسؤولية إضاعة الفرصة الأخيرة: اتفاقية السلام الشامل. فقد كان في إمكان الحركة الشعبية وضع أسس السودان الجديد من خلال نصوص الاتفاقية، لو آمنت بضرورة التحول الديمقراطي وقاتلت من أجله، بالإضافة للايمان بضرورة التنمية والإصلاح الاقتصادي، وعملت على فرضه. ومن ناحية المؤتمر الوطني، كان من الممكن لو كان جادا وصادق النية، أن يصل بالاتفاقية إلى الوحدة، ولكنه استدعى مبكرا فولكلور الجنوبي القابل للإفساد، وقد تخوفت منذ أن بدأ حشد العائدين في فندق «الغرين فيليج»، وقلت في نفسي ستبدأ عملية نقل عدوى الفساد للقادمين الجدد. وتحول أنصار الحركة في السلطة إلى أجراء لا شركاء ـ كما يقول شعار الجماهيرية ـ وبدا واضحا أنهم شاركوا في الثروة، قليلا، ولكن لم يسمح لهم بالمشاركة في السلطة مطلقا. ولا لوم على «الإنقاذ»، لأنها في صراع سياسي، وليس حب رومانسي.



الكاتب: حيدر ابراهيم علي

حيدر إبراهيم علي مفكر وكاتب وعالم اجتماع سوداني تخصص في علم الاجتماع الديني وأفرد جزءاً كبيراً من مشروعه الفكري لنقد الإسلام السياسي. اشتغل كذلك على فكرة التنوير والتحرير. ولد في 11/5/1943 بالقرير. في عام 1992 اسس دكتور حيدر إبراهيم على مركز الدراسات السودانية بالقاهرة. كتب دكتور حيدر إبراهيم على العديد من الكتب و المقالات و منعت السلطات السودانية معظم مقالاته الناقدة لهم كما منعت بعض من كتبه من التداول في السودان كان ما ابرزها: أزمنة الريح و القلق والحرية، سيرة ذاتية، سقوط المشروع الحضاري، أزمة الإسلام السياسي، الجبهة القومية في السودان نموذجاً، الامنوقراطية وتجدد الإستبداد في السودان، كتاب مراجعات الإسلاميين السودانيين كسب السلطة وخسارة الدين...