تمهيد :
يعتبر التراث الثقافي على اختلاف أشكاله وأنواعه محل فخر واعتزاز للأمة فهو الدليل على العراقة والأصالة ويعبر عن هُوية الدول الثقافية باعتباره الصلة بين الحاضر والماضي ، وهو رصيد من التجارب والخبرات .كما يعد شاهداً لما كان يعيشه الأجداد والآباء ويجسد هوية الأمة التاريخية والحضارية باعتباره شاهداً مادياً على الحضارات القديمة والدليل على انجازات الانسان عبر التاريخ ، غير أن هناك قصور في تناول دراسة التراث الثقافي وربطه بالتاريخ ، فكثيرة ومتنوعة هي الدراسات التي تناولت التراث وما أكثر ما كتب عن التاريخ .لكن معظم ما كتب عن التراث كان بمنأى عن تاريخيته ، كما لم يحفل المؤرخون بدراسة التراث لذلك وجدت حلقة مفقوده بين الدراستين معاً تمثلت في عدم الربط بين معارف التاريخ ومعارف التراث ولعل أحد أسباب هذا القصور هو الخلاف حول تقويم التراث فهناك من يرى أن دراسة التراث تعتبر عائقاً امام الأخذ بالحداثة ، بينما يرى آخرون ضرورة الاهتمام به والعمل على تطويره باعتباره مستودعاً للأصالة(1) إن الحداثة والاصالة ليسا نقيضين فكل النهضات في تاريخ الامم والشعوب بدأت بحركة إحياء القديم والعمل على تطويره والنهوض به(2).
نتناول في هذه الورقة التراث الثقافي السوداني من منظور تاريخي قديم فالحضارة السودانية حضارة أصيلة ذات خصوصية نشأت نشأة محلية من خلال تجارب وممارسات وسلوك الانسان الذي انتجها والذى كان يسكن في الجزء الجنوبي من وادي النيل منذ عهود ضاربة في القدم فأنتج تراثاً ثقافياً متميزاً من أهم خصائصه الاستمرارية بحيث تطورت المورثات الثقافية السودانية عبر حقب تاريخية طويلة تبلورت فيها الثقافة المحلية بالعناصر الوافد اليها لتكون موروثاً حضارياًاً وثقافي سودانياً يمتاز بالتفرد.
يحتوي عنوان الورقة [ التراث الثقافي ] : الماضي والحاضر" على ثلاث مفردات اساسية لا بد ان نقوم بالتعريف عنها كل على حده تراث – ثقافة – السودان القديم – والتي من خلالها نستطيع أن ندرس ونتعرف على بعض المورثات الثقافية القديمة التي مازالت تمارس حتى وقتنا الحاضر.
التراث :-
للتراث عدة معاني إذ لا يوجد مصطلح موحد له شأنه شأن معظم العلوم الاجتماعية ، يعرف بأنه كل ما ورث من الأسلاف من اشياء ذات قيمة وسمات أصلية كذلك هو مجموعة من الارآء والعادات الحضارية المتلقية من جيل لآخر(3) وعرف دولياً بأنه كل شيء ملك للإنسانية ويحمل قيمة استثنائية.
أنواع التراث :-
ينقسم التراث الي قسمين :
1- تراث مادي .
2- تراث غير مادي.
وينضوي تحت هذين القسمين عدد من الفروع وهذا ما سنبينه فى الجدول آدناه (4) .
الثقافة :-
اختلف المفكرون حول تحديد مفهوم واحد ومحدد لكلمة ثقافية وظهرت عدة آراء حول ما تعنيه هذه المفردة (CULTURE) اقدم تعريف للثقافة وصفه ادور تايلور في كتابة الثقافة البدائية عام 1871 حيث عرفها بأنها :
"هي ذلك الكل المركب المشتمل على المعارف والمعتقدات والفن والقانون والاخلاق والتقاليد وأنماط السلوك وكل ما أنجزه الانسان من منجزات مادية وغير مادية"(5)وهذا التعريف يطابق تعريف يوسف فضل في كتابة عن الهوية(6) أما تعريف عبد الغفار محمد احمد للثقافة في ورقة قدمها في سمنار الهوية الثقافية بمعهد الدراسات الافريقية والآسيوية – جامعة الخرطوم – 1991م "هي مجمل اساليب حياة المجتمع فهي تركيب شامل يشمل:-
أ. القيم والرموز والاخلاق والمعتقدات والمفاهيم والمهارات التي يستعملها الانسان في تعامله مع بيئته.
ب. الإبداعات التعبيرية الفنية من أدب وموسيقاورقص وغيرها.
ج. الفكر من العلوم والفلسفة والمذاهب والعقائد(7).
يمكننا أن نجمل القول بأن الثقافة هي كل ما انجزه الانسان من فكر ومعرفة وعمل فهي النسيج الكلي والمعتقدات من الافكار والعادات والتقاليد والاتجاهات والقيم واساليب التفكير والعمل وانماط السلوك وكل مايأتي من الماضي وما يبنى عليه من تحديثات وابتكارات.
تتكون الثقافة من ثلاث مكونات رئيسة :-
1/ مكونات فكرية : مثل الفن ، اللغة ، العلم ، الدين….الخ
2/ مكونات مادية : مثل المأكل ، الملبس ، المشرب…الخ
3/ مكونات اجتماعية : مثل الافكار ، العادات ، التقاليد ، القانون ، الاعراف(8).
هناك بعض العناصر التي يتضمنها المكون الثقافي للشعوب بصورة عامة والسودان على وجه الخصوص.
كالبعد التاريخي ، والموقع الجغرافي ، التركيبة السكانية ، النشاطات الاقتصادية التقليدية والحديثة التكوين الاجتماعي ، الدين ، اللغة والانتماء.
السودان القديم :-
تمتد جذور تاريخ السودان وحضارته الى عصور موغلة في القدم، ولما كان السودان يقع غرب الأخدود الافريقي العظيم – مهد البشرية – فأنه أي السودان يشارك في تطور الانسان الاول ، فقد ابانت الحفريات التي تمت في اوائل القرن العشرين ان هناك حضارة مميزة قامت في الجزء الجنوبي من وادي النيل اي جنوب مصر وتمتد من الشلال الاول وحتى الشلال السادس ، غير ان هناك العديد من الاسماء والصفات التي اطلقت على هذا الجزء من السودان وقبائله ، والراجح أن معظم هذه الاسماء والصفات أطلقها المصريون القدماء على سكان البلاد التي تقع الي الجنوب منهم.
من أهم هذه الاسماء :
1/ تا- نحسي : يعتبر من اقدم الاسماء التي عرف بها سكان السودان القدماء وتعني في اللغة المصرية القديمة ارض السود وقد تكرر ذكر هذا الاسم في الوثائق المصرية القديمة (كحجر بالرمو) الذي يعود للملك سنفرو(9) وكذلك ورد في نقوش الملك خوفو(10).
أرض السود صفة لازمت سكان بلاد السودان للدلالة على لون بشرتهم فقد اطلق الاغريق والرومان على الأراضي جنوب مصر اسم – اثيوبيا – والتي تعني ذوي الوجوه السوداء(11) كذلك اطلق العرب على غرب افريقيا الممتدة من البحر الاحمر وحتى المحيط الهندي اسم السودان كناية على لون بشرة شعوب هذه المناطق اي بلاد السود(12) .
وقد أكدت الرسومات التي رسمها المصريون القدماء على هذه الصفة(13) بل أن السودانيين انفسهم قد حرصو على اظهار سمار لون بشرتهم عند تصويرهم لأنفسهم(14) بما يميزهم عن غيرهم من الشعوب.
2/ تا – سيتي من أشهر الاسماء التي عرف بها السودان وتعني ارض القوس وهي صفة لازمت سكان اهل السودان القدماء الذين اشتهروا بمهارة استخدام القوس مما دفع بالمصرين لتجنيدهم في الجيش المصري(15) كما أطلق عليهم العرب المسلمون رماة الحدق لشدة مهارتهم في اصابة الهدف بإستخدام القوس(16) .
وقد حرص الملوك الكوشيين والهتهم على حمل القوس والسهام عند تصويرهملأنفسهم.
3/ من اشهر واهم الاسماء التي عرف بها السودان القديم اسم كوش الذي يرجع ظهوره الي الدولة المصرية الوسطى (2050 – 1886 ق.م) عندما ظهر كمسمى لاحد الاقاليم في لوح فلورنسا(17) ارتبط هذا الاسم في البداية بمملكة كرمة (2500 – 1450 ق.م) التي تقع بالقرب من الشلال الثالث ، كذلك ورد هذا الاسم في وثائق محلية كوشية فقد جاء في لوح الملك اسبلتا وحرسيوتق(18) كما جاء في التوراة مرتبطاً بالملك تهارقا(19) ولوح الملك الاكسومي عيزانا(20) .
ان استمرارية استخدام هذا الاسم ولفترات طويلة في وثائق محلية واجنبية يدل على اهميته ورسوخه ، فربما كان الاسم مرتبطاً بإسم احد الاشخاص الذين لهم مكانه في تاريخ المنطقة "قائد أو زعيم" ومن ثم اعطى الاسم للقبيلة بنفس الطريقة التي تتكون بها اسماء القبائل في المجتمع السوداني الحالي(21).
4/ كذلك عرف السودان تحت مسمى بلادالنوبة وقد ظهر هذا الاسم عند المؤرخ اراتوسثينس حوالي القرن الثاني قبل الميلاد ارجعه البعض في معناه انه تحويل لكلمة نبو المصرية التي تعني الذهب نظراً لما كان لتلك البلاد من شهرة واسعة بهذا المعدن(22).
التراث الثقافي السوداني الماضي المتجدد:-
إن الحديث عن المكونات التراثية والثقافية للمجتمع السوداني هو حديث في غاية الصعوبة والتعقيد لوجود ابعاد حضارية وتاريخية اسهمت بشكل او باخر في تشكيل خارطة الثقافة السودانية المحلية على اختلاف بيئاتها الجغرافية المتنوعة.
فالبحث عن التكوين الثقافي لسودان وادي النيل في الفترات التاريخية القديمة بحث شيق وممتع لكنه صعب حيث تندر المراجع والبحوث التي تناولت هذا الجانب بشىء من التفصيل ، وهذا التكوين الثقافي ارتبط بالحضارات التي قامت في شمال سودان وادي النيل بدءاً بالمجموعات النوبية وحضارة كرمة ونبتة ثم الحضارة المروية والممالك المسيحية التي تلت سقوط مروي على يد احباش اكسوم(23).
نشأت في شمال السودان – النوبة السفلى – مجموعات حضارية عرفت بالمجموعات النوبية (أ ، ب ، ج ، س) وقد تميزت هذه المجموعات بسماتها الثقافية المحلية الخاصة بها كانت تعاصرها من منطقة النوبة العليا حول الشلال الثالث حضارة كرمة (كوش) 2500 – 1450ق.م التي تميزت بطابعها الثقافي الافريقي المحلي ظهر ذلك من خلال عادات دفنها وصناعاتها ، ثم انتقلتت الحضارة الي مركز جبل البركل عام 900ق.م لتنشأ حضارة نبتة التي امتد عمرها ألى 300 ق.م وكانت ثقافتها خليطاً بين الثقافة المحلية والمصرية وذلك نتيجة لتأثر مؤسسوها الاوائل (ملوك الاسرة25) بالحضارة المصرية وذلك بعد اكمال بعانخي غزو مصر ، غير ان الاثر الثقافي المصري في حقيقة الامر بدء يظهر في الثقافة السودانية قبل قيام هذه المملكة بوقت ليس بقصير وذلك ابان غزو ملوك الدولة المصرية الحديثة بلاد السودان 1500ق.م فلجأ ملوك هذه الدولة لما يعرف بسياسة التمصير – اي نشر الثقافة المصرية (دين – لغة - عادات) وسط سكان البلاد المحليون لضمان ولائهم لمصر (24).وعندما انتقلت الأسرة الحاكمة إلى الجنوب – مروي – عام 300 ق.م.غلبت الثقافة المحلية ذات الطابع الافريقي عليها غير ان الامر لا يخلو من بعض المؤشرات الاجنبية كالاثر الاغريقي مما جعل ديودر الصقلي يصف احد ملوك مروي عندما تخلى عن عادة القتل الطقسي ومحاربة كهنة آمون وعزى السبب في ذلك بأنه تلقى ثقافةً وتعليماَ اغريقياً (25)كذلك بدأت تطهر بعض التأثيرات الفنية الرومانية على فنون وعمارة المرويين.
هناك ثلاث مدارس ثقافية تناولت اصل الثقافة السودانية :-
1/ المدرسة الاولى : ترى أن ما يحدث في السودان الآن مرتبط ارتباطاً وثيقاً بما كان يحدث في الماضي ،من تطور ثقافي وتفاعلات حضارية وهي بذلك تنادي بالتعمق في الدراسات الآثارية والتاريخية والانثوعرافية والفلكلورية واللغوية لتنكشف أسرار الحضارة السودانية بغرض تفسير التراث الثقافي السوداني .
2/ المدرسة الثانية لا تتشدد في دراسة الماضي الحضاري السوداني البعيد كما هو الحال في المدرسة الاولى وترى ان ما يحدث في السودان هو عبارة عن تفاعلات ثقافية لا علاقة لها بالماضي البعيد وانما يجب التركيز على تاريخ السودان الحديث.
3/ أما المدرسة الثالثة فهي تختلف تماماً مع هاتين المدرستين وهي ترى عالمية الحضارة والثقافة وهي ترفض التفسيرات الوطنية المحدودة للثقافة السودانية(26).
إن معظم الدراسات التي تناولت المكونات الثقافية للمجتمع السوداني تجاهلت عن عمد أحد أهم هذه العوامل الأساسية لدراسة ثقافة المجتمع ، الا وهي العامل التاريخي او تاريخية الثقافات وتجاهلت هذه الدراسات الظروف الاجتماعية والتاريخية التي انتجتها ودراسة مدى استمراريتها لمعرفة الثابت منها والمتغيير حتى تستطيع معرفة القواسم المشتركة في ثقافة المجتمع السوداني ، فعند دراسة أي ظاهرة ثقافية لمجتمع ما لا بد من الاهتمام بتاريخ هذه الظاهرة من خلال دراسة المواقع الاثرية والادلة التاريخية وحياة الانسان في الماضي والحاضر وطرق معيشته وعاداته وتقاليده هذا بالاضافة الي المكتسبات الثقافية نفسها حتى نستطيع معرفة المتغيرات التي تحدث واسبابها لمعرفة الاستمرارية الثقافية لبعض الظواهر الاجتماعية .
إن اي دراسة للثقافة السودانية يجب أن تنطلق من فرضية تواصلها التاريخي وبالتالي لا يمكن عزلها من حركة التاريخ فالتراث الثقافي السوداني هو مزيج بين المورثات المحلية القديمة وما آل اليه من ثقافات أجنبية اخرى.
التعددية والاستمرارية في الثقافة السودانية :-
ولما كان السودان يتميز باتساع رقعته وتباين بيئاته مما جعله يتميز بتعدد اعراقه وأديانه ولغاته ، فهناك ما يزيد عن 100 لهجة بالسودان وحوالي 26 جماعة إثنيبة تنقسم الي 597 جماعة فرعية وقد اكدت الدراسات الاجتماعية بأن خمسة من الاجناس المعروفة عاشت في افريقيا وهم ( البشمن – المنقول – القوقاز – الزنوج – الاقزام ) وان اربعة منها سكنت السودان في مرحلة من المراحل.
إن التعددية هي أساس النسيج الثقافي السوداني فكل الكتابات التي تحدثت عن السودان في كل الفترات التاريخية تناولت ذلك ،فالنقوش المصرية القديمة قد ذكرت اسماء لقبائل ومشيخات سودانية وكذلك كتابات الاغريق والرومان غير ان كتابات المؤرخين الجغرافيين العرب بها معلومات وافية عن السودان وقبائله مما خلق تنوع ثقافي في السودان(27).
فكثيرة هي المورثات الثقافية السودانية التي تعود بجذورها التاريخية إلى الماضي قد لا يتسع المجال لذكرها في هذه الورقة وسنكتفي بايراد بعض النماذج التي نأمل من خلالها فتح الباب لكثير من الدراسات اللاحقة للظواهر الثقافية للمجتمع السوداني حتى نستطيع التوصل الي فهم علمي لثقافتنا السودانية بعيداً عن التكهنات والتوقيعات وذلك من خلال التعمق في الدراسات التاريخية والاثارية لمعرفة الجذور التاريخية لتراثنا الثقافي السوداني.
1/ العنقريب :-
من العادات التي ما زالت مستمرة في معظم ارجاء السودان حتى يومنا هذا وترجع جذورها الي ما يزيد عن أربع ألف سنة ، استخدام العنقريب لحمل الموتى ، اذ ترجع هذه العادة الي مملكة كرمة (2500 – 1450 ق.م)حيث كان الميت يدفن وهو على العنقريب بعد ان يلف على حصير او جلد ثور (28)
كما أنه يستخدم في مناسبات الزواج والولادة ، فهناك نقش على خاتم بخص الملكة اماني شخيتو يظهر فيه الملك والملكة وهم يجلسون على عنقريب في حالة احتفالية فسرت على أنها عرس مقدس(29)
غير ان المنظر ربما كان يمثل شكل الجرتق التي تقام بمناسبة ختان الصبية او الزواج حيث يظهر في النقش ما يؤيد هذا الاحتمال على النحو التالي ، العنقريب والبرش ويجلس الملك والملكة (العريس والعروس) وبينهما الامير المتوج (المجرتق)(30)و كيفما كان الحال فهى تشير الى استمرار هذا المورث يمارس طوال الفترات التاريخية المتعاقبة.
2/ الزينة :-
يتميز الزواج السوداني خاصة في شمالي ووسط السودان بعادات وطقوس تميزه عن كثير من البلدان الافريقية والعربية .فان ما يلبس في حفلات الزواج اشبه ما يرتديه ملوك وملكاتمملكة كوش (نبته - مروي) فالزينة التي ترتديها العروس اشبه بما كانت ترتديه الملكات المرويات. مثل :-
أ. الجدلة وهي اشبه ما تكون بتاج الملكات المرويات .
ب. عقد الحرز الكبير يعرف باسم (الفرجلات)هذا بالاضافة لعقد السوميت وسبحة اليسر وكانت ملكات مروي يرتدين مثل هذه العقود فعقد الفرجلات الذي كان ينتهي بتمثال ايزيس استبدل بفتيل من الذهب.
ج. سوار الثعبان الذي ارتدينه الملكات واحتفظ بشكله القديم في زينة العروس(31).
اما العريس فيرتدي عصابة يلتقي طرفاها عند مؤخرة الرأس وهي اشبه ما تكون بالطاقية الكوشية الملكية مع ملاحظة استبدال زوج ثعباني الكوبرا بالهلال.
الجرتق:-
ان ما يحدث في ليله الجرتق بإجلاس العريس والعروس على العنقريب المزين بجريد النخيل وحضور ام العروس والعريس لإكمال مراسم الجرتق نشاهده يحدث في مراسم تتويج الكوشية بحضور أم الملك وقد ذكر تهارقا انه ارسل لوالدته الملكة ابار لإكمال مراسم تتويجه(32) كذلك فعل الملك انلماني مع والدته الملكة نسالسا(33).
الشلوخ :-
من العادات التي كانت تمارس عند معظم أهل السودان – الشلوخ – وترجع هذه الممارسات لعهود قديمة اذ اظهرت الرسومات المصرية التي تعود للدولة المصرية الوسطى والحديثة بعض الشخصيات السودانية وعلى وجوههم (الجباه والخدود) بعض العلامات(34)
وقد استمرت هذه العادة تمارس في الفترة المروية إذ صورت بعض الشخصيات الملكية او الشخصيات العامة وعلى خدودهم انماط متعدده من العلامات – شلوخ –(35)
واستمرار هذه الممارسات حتى وقت قريب مما يشير الي تفرد الثقافة السودانية وتميزها بالاستمرارية والاصالة.
الطاقية أم قرينات:-
لم يلبس ملوك مصر تيجاناً عليها قرون الإله آمون ،غير ان ملوك كوش اعتادوا لبس طاقية محلية عليها قرون كبش – الإله آمون –(36)
كما انهم اعتادو على ارتداء تاج بريشتين او اربع ريشات وهي ترمز لتيجان الاله آمون استمر ارتداء الطاقية المقرونه من العهد المسيحي(37)واستخدامها ملوك الفونج والعبدلاب تحت مسمى الطاقية ام قرينات عند تتويجهم(38)
كذلك استخدمت في مراسم الطرق الصوفية عند الترقي في دروب الصوفية والانتقال إلى مقام الشيخ(39).
إن استعمال هذه الطاقية التي ارتبطت بعبادة الاله آمون والتي استمرت تستخدم في شكل مورث ثقافي قديم.
جريد النخيل :-
ظهر استخدام جريد النخيل في الحضارات السودانية القديمة منذ عهود مبكرة فقد عثر عليه في قبور أهل كرمة والمجموعة ج(40) كذلك وجد في بعض التمائم النبتية اما في فترة مروي فقد بدأ يظهر في النقوش والرسومات بصورة متواترة وكانت تحمله الشخصيات الملكية وقد تدلت منها علامات الحياة (41)
وقد استمر استخدام جريد النخيل في وادي النيل الشمالي والاوسط كرمز للحياة والفال اذ يستخدم في الزواج فيتم زفاف العريس بسيرة إلى البحر ويحمل المزفون اغصان جريد النخيل في ايديهم اشبه بما كان يحدث عندما يزف الملك إلى حياته الابدية في مناظر قبور البجراوية.
إن مثل هذه الممارسات التي نراها الان في استخدام جريد النخيل ما هي الا صدى ممارسات كانت تحدث في الماضي ويستخدم فيها ذات الجريد لذات الاغراض.
رقصة الرقبة :-
هناك رسم على كوب صغير من الفخار عثر عليه في مروي موجود الان بمتحف اللوفر في باريس يعود تاريخه للقرن الثاني قبل الميلاد(43) بصور مجموعة من الرجال في حلقة رقص بشعر اجعد ويرتدون تنورات يتدلى منها حزام طويل يحمل احدهم طبل (دلوكة) مع وجود جرة كبيرة (مريسة) ويمسكون بجريد نخيل ويمد أحدهم رقبته في شكل يوحي برقص.
ويتكرر هذا النوع من الرقيص في منظر آخر عند مجموعة من النساء في نقش على جدران هرم البجراوية N.II يخص الملكة شكندخيتو(44) حيث نشاهد احداهن وهي تمسك الطبل (دلوكة) ويمسك الاخريات بجريد النخيل وترقص احداهن برقبتها.
رقيص الرقبة يمارس في السودان في مناسبات الزواج ، الختان ، السماية ، ومعروف عند قبائل الجعليين برقص الرقبة عند النساء ولا نجده يمارس عند الرجال (45) غير ان قبائل شرق السودان الهدندوة والبجة يمارس رجالها الرقص بواسطة اعناقهم وهو اشبه ما يكون بما شاهدناه في ذلك الكوب.
التركين :-
عثر في كرمة على أواني فخارية تحتوى على بقايا عظام اسماك مملحة وكانت هذه الاواني مقلوبة داخل أواني فخارية آخرى وبعد دراسة اجريت لأنواع الاسماك وجد بأنها نفس الاسماك التي يستخدمها سكان كرمة الحاليين لصناعة وجبة التركين ومن خلال الدراسات التي اجريت على سكان المنطقة اتضح ان معظمهم لا يعرفون صناعة الفسيخ وانما يشترونه من اسر ذات اصل مصري ، اما التركين فيقومو بصناعته محلياً وذلك بعمل عجينة السمك ووضعها داخل هذه الجرار بعد تمليحها وتقلب داخل جرة اخرى ويحفظ لمدة تتراوح ما بين 6-12 شهر ويحصلون على هذه الوجبة بكسر مؤخرة الجرة(46).
هذه الوجبة التي يستخدمها سكان شمال السودان ماهي الا وجبة قديمة يبدو انها كانت تصنع بذات الطريقة التي تصنع بها الآن.
اكل الجراد:-
ذكر بليني في كتابه التاريخ الطبيعي عند وصفة الشعوب التي تعيش في اثيوبيا خاصة سكان غرب النيل بانهم يأكلون الجراد ويحافظون عليه صالحاً للأكل طوال السنة عن طريق تدخينه وتمليحه وعادة أكل الجراد موجودة عند بعض قبائل غرب السودان مثل البرتي والزغاوة وهم يحفظونه بنفس الطريقة الموصوفة في رواية بليني وفي حال أكله طازجاً يقومون بقليه في سطح مقلاة على النار(47).
البروش (السعفية):-
تعتبر الصناعات السعفية من اقدم الصناعات التي عرفها الانسان واقدم دليل اثري لصناعة البروش من السعف يعود لمواقع حضارة المجموعة أ حيث صنعت الحصير الذي يستخدم في الاثاث الجنائزي(48)
او تسقف بها المنازل كذلك اشتهرت حضاره كرمة بتعدد انواع هذه الصناعات من سلال وبروش بضفيرة من نفس نوع الضفيرة المستخدمة اليوم واستعملها المرويين لصناعة السلال والصنادل ، وفي التاريخ الحديث انتشرت وتنوعت صناعة البروش (49)
هناك البرش الابيض والذي يستخدم لحمل الميت على العنقريب والبرش الاحمر ويستخدم في الزواج والختان والميلاد والجرتق (50) .
الفخار :-
من الحرف التي ظهرت في السودان منذ عهود قديمة واستمرت تمارس كحرفة تقليدية الي يومنا هذا ، ظهر الفخار لأول مرة في السودان في العصر الجحري الوسيط ، تميز الفخار بأشكاله المتعددة وزخارفه المتنوعنه تطورت صناعة الفخار خلال عهد المجموعات النوبية في شمال السودان وتنوعت اشكاله عند اهل حضارة كرمة التي وصل فيها إلى درجة عالية من الجودة واستمر بهذه الجودة طوال فترة نبته ومروي والفترة المسيحية.
وقد صنع الفخار في اشكال عديدة من سلطانيات وجرار ومباخر يشبه - حد كبير- مانستخدمه الان(51).
الخاتمة :-
تعتبر دراسة التراث والثقافة من الموضوعات الشائكة الدروب والمسالك ، وذلك من المنطلقات التي يسير عليها الدارسين . لذا ركزت هذه الورقة على تناول مصطلحي الثقافة والتراث لبيان الوجهة التي تفضي اليها ، وقد حاولت الدراسة اخذ بعض النماذج من العادات التي اُتبعث فى تاريخنا القديم وما زالت موجودة بيننا ، ظل يمارسها مجتمعنا دون انقطاع ، ربما اصبغ عليها من روح العصر شيئا ، إلا انها حتفظت بذات القيمة التاريخية القديمة ، وان دل ذلك على شيء اما يدل على الاصالة والتفرد والتميز.
قدمت الورقة نماذج من هذه المورثات ، ليس حصرا لها وانما احببت ان تشكل مرتكزا ينطلق منه الباحثون لدراسات اوسع حتى نسلط الضوء علي تراث وثقافة المجتمع السوداني .
نخلص فى نهاية الامر الى الاتى:-
1/ ضرورة اعمال مبداء تكامل العلوم والاهتمام بدراسة تاريخية الموروثات الثقافية السودانية ، فهي المرتكز الأساسى لدراسة الظواهر الاجتماعية للمجتمع السوداني
2/ تشجيع الباحثين لدراسة موضوعات الثقافة و التراث وتسليط الضؤ عليها باعتبارها قاسم مشترك بين العلوم الاجتماعية بما يجعلها تشكل ممسكا من ممسكات الوحدة الوطنية
قائمة المراجع
-محمود اسماعيل ، التراث وقضايا العصر ، الهيئة العامة لقصور الثقافة ، القاهرة 2016م ص 6-7.
2- شوقي جلال ، التراث والتاريخ ، سينا للنشر ، القاهرة 1995م ، ص155.
3- ياسر هاشم عماد الهياجي ، "دور المنظمات الدولية وادارته وتعزيزه" مجله ادماتو ، العدد 34 السعودية ،2016م ص 88.
4- نفس المرجع ، ص 10.
5- Eb. Tylor, Primitire Culture, New Yourk, Brentano’s, 1924, P.L.
انظر ايضاً ت.س إليوت ، ملاحظات نحو تعريف الثقافة ، ترجمة محمد عياد ، التنوير للطباعة والنشر ، لبنان ، 2017 ، ص 5-6.
6- يوسف فضل حسن ، الهوية السودانية ملامح من جذورها ، ملاحظات حول تطورها ورؤى نحو مستقبلها ، الامانة العامة لمشروع سنار مطابع العملة المحدودة 2017 ، ص12.
7- عبد الغفار محمد احمد ، مدلول الثقافة وحوار الثقافات في السودان ، ورقة غير منشورة ، معهد الدراسات الافريقية والاسيوية ، 1991 ، ص1-2.
8- لزهر مساعديه ، في مفهوم الثقافة ومكوناتها مجله الذاكرة ، مجمع التراث اللغوي والادبي ، الجزائر ، العدد 29 ، 2017 ، ص 34-35.
9- محمد ابراهيم بكر ، تاريخ السودان القديم ، الدار القومية للثقافة والنضر ، القاهرة ، 1983 ص 34.
10- سليم حسن ، مصر القديمة ، تاريخ السودان المقارن حتى اوائل عهد بيعنخي، الجزء العاشر، شركة النهضة للطباعة والنشر ،القاهرة، 2000، ص. 177.
11- سامية بشير دفع الله ، السودان في كتب اليونان والرومان منشورات جامعة السودان المفتوحة ، السودان 2008 ، ص 5-8.
12- احمد الياس حسين ، السودان الوعي بالذات وتأصيل الهوية ، مطابع السودان للعملة ، 2008 ، ص 200.
13-سليم حسن، المرجع السابق ، ص. 199
14- علي احمد قسم السيد ، الاهمية الاثرية والتاريخية لجبانة الكرو ، ترجمة سارة حسن البيلي ، دار جامعة الخرطوم للنشر، 2017 ، ص 45
15- احمد عبد المنعم فرمان ، تاريخ وأثار النوبة منذ عصور ما قبل الاريخ وحتى العصر البطلمي ، مركز الاحلام ، كوم امبو ،2006 ، ص 12
16-
17- J. Vercoutter “New Eggptain Texts From Sudan” Kush, 4, 1956, P.1477-8
18- سامية بشير دفع الله ، تاريخ مملكة كوش (نبته ومروي) ، دار الاشقاء للطباعة والنشر ، الخرطوم ، 2005 ص 2-3.
19- الكتاب المقدس ، سفر الملوك الثاني ، 19،9 سفر اشعيا 37 ، 8 -9 ، سامية بشير دفع الله ، المرجع السابق ، ص3 .
20- Kirwan, “The Decline And Fall Of Meroe” Kush, 88, 1960, P P. 163-167.
21- سامية بشير دفع الله ، المرجع السابق ، ص 3.
22- أحمد عبد المنعم فرمان ، المرجع السابق ، ص 9-20 .
23- مهدي المأمون"التكوين الثقافي والحضاري لسودان وادي النيل قبل المهدية" مجلة الثقافة السودانية ، السنة السادسة ، العدد 20 ، 1983 ، ص 4-5.
24- ابراهيم الحردلو ، الرباط الثقافي بين مصر والسودان ، دار جامعة الخرطوم للنشر ، الخرطوم ، 1977 ، ص 1-3.
25- Diodorus Siculus, Book. 3, Trans, C.H. Oldfather, The Loed Classical Library, Harrard Linivers, Ty Press, London, 1935, P.111
26- علي عثمان محمد صالح ، الثقافة السودانية ، الماضي والحاضر ، في الثقافة السودانية "دراسات ومقالات" اللجنة الفنية للمطبوعات ، الخرطوم 1987 ، ص 34-35.
27- سيد حامد حريز ، عبقرية المكان والنسيج الثقافي السوداني ، اشكالية الوحدة والتنوع ، اوراق من منتدى مركز البحوث والدراسات الافريقية ، جامعة افريقيا العالمية ، 2004 ، ص 14-15.
28- احمد محمد علي الحاكم ، شارلس للنشر ، الهيئة القومية للأثار والمتاحف ، 1997 ، الخرطوم ، ص 189 ، يوسف حسن مدني "الاسس الاجتماعية والاقتصادية والتاريخية للتنغير الثقافي" دراسة حالة حرفة شعبية.
29- D.Wildung, Sudan Ancient Kingdom Of The Nile, Munich, 1997, P. 318.
30- مصطفى عبد الحميد كاب الرفيق ، الفنون التشكيلية في حضارات السودان القديم ،هيئة الخرطوم للصحافة والنشر ، الخرطوم ، 2013 ، ص 141.
31- دولت يوسف احمد ، المرأة في مملكة كوش 750 ق.م – 50 م "رسالة ماجستير غير منشورة" جامعة الخرطوم 1996 ، ص 99-105 ، مصطفى عبد الحميد كاب الرفيق المرجع اسايق ، ص 142.
36- عمر حاج الزاكي ، مملكة مروي التاريخ والحضارة ، وحدة تنفيذ السدود ، الخرطوم ، 2005 ، ص 570.
37- فانتيني ، ج. تاريخ الممالك المسيحية في الممالك النوبية القديمة ، الخرطوم ، 1978 ، ص105.
38- نعوم شقير ، تاريخ وجغرافيا السودان ، لتحقيق محمد ابراهيم ابو سليم ، دار الجبل ، بيروت ، 1981 ص 132-138.
39- نعمات عمر عبد الجبار ، مجتبى على ابراهيم ، "التيجان الملكية المقرونة والطاقية ام قرينات" مجلة كلية التربية ، جامعة الخرطوم ، 2007 ص
40-P.Shinne,M.ShinneDebire West : A Medieval Nubian Town ,Warminster,1978,p.47
41- امل سليمان بادي ، الرمزية في فن الحضارة المروية ، رسالة ماجستير "غير منشورة" جامعة الخرطوم ، 1999 ، ص 111-112.
42- A.A. Gasm El Seed, “The Signifi Cation Of The Palm Leaf On Meroitic Religions Scenses” Ninth International Conference For Nubian Studies, Boston, 1998, P.5.
43- T. Kendall, Op.Cit, Pp 34-37.
44- Chapman And D. Dunham, Royal Cemeteries Of Kush, Vol.3, Museum Of Fine Ares, Bosten, 1952, Pl.8.
45- T. Kendall, Op.C.T, Pp.39-40.
46- صلاح محمد احمد ، "التركين" هل هو وجبة نبتية؟" مجلة كوش ، الهيئة القومية للأثار والمتاحف ، العدد 17 ، 1997 ، ص 18-22.
47- سامية بشير دفع الله ، السودان في كتب اليونان والرومان ، جامعة السودان المفتوحة 2008، ص- 68.
48- سامية بشير دفع الله ، تاريخ الحضارات السودانية القديمة منذ اقدم العصور وحتى قيام مملكة نبتة ، الدار السودانية لكتب ، 2011 ، الخرطوم ، ص 96-97 .
49- حاجة عبدالرحيم الياس ، تطور الصناعات اليدوية في الحضارة المروية 300ق.م 350م ، رسالة ماجستير "غير منشورة" جامعة الخرطوم 2017 ، ص 79-80.
50- اسعد عبد الرحمن عوض الله "المفارش السعفية "البروش" في الموروث الثقافي السوداني بالمنطقة الشمالية "البرش الابيض والبرش الاحمر لموزجا" مجلة الثقافة الشعبية ، العدد 36 ، السنة العاشرة 2017 ، ص 152-153.
51- عبد الرحيم الخبير، "المنجزات الفكرية والتقنية للحضارة السودانية" مجلة جوبا للأداب والعلوم ، العدد الرابع ، 2005 ، ص 10-12.
شارك هذا الموضوع: