التشريعي.. مُغامرة أم مُؤامرة أم وعد عُرقوب؟!

فتحي الضو - 03-04-2021

ثمة مثل شائع يقال له (وعد عُرقوب) ضُرب في رجل بذات الاسم وكان كذوباً كثير الوعود ونقضها. قصده شقيقه ذات يوم وطلب منه مالاً، وحينها كان عُرقوب يمسك بفسيلة نخل يريد زراعتها فقال لأخيه: عندما تثمر هذه النخلة سأعطيك طَلعها. وعاد إليه الأخ بعد أن أثمرت فقال له عرقوب: دعها تبلح. ورجع إليه مرة ثالثة بعد أن أبلحت، فقال له: دعها حتى تصير زهواً، فـانصرف الشقيق وعاد بعد أن زهت النخلة يسأله وعده، فقال له: دعها تصير رطباً. ذهب شقيقه وعاد بعد أن أرطبت وذكَّره بوعده. فقال له عرقوب الذي استمرأ الكذب: لا تتعجل في أمرك دع النخلة حتى تصير تمراً. فمضى الشقيق وما يزال يمني نفسه بالمال. ولكن لمَّا أتمرت النخلة صعد إليها عرقوب ليلاً فجمع ما طرحته. وعندما جاء شقيقه لم يجد شيئاً، وعندئذٍ صار ذلك مثلاً. قال عنه الشاعر كعب بن زهير (مادح النبي): صارت مواعيد عرقوب لها مثلاً/ وما مواعيدها إلا الأباطيل/ فليس تنجز ميعاداً إذا وعدت/ إلا كما يمسك الماء الغرابيل.

(2)

طبقاً لعنوان المقال، دعونا نطرح عدة تساؤلات نبتدرها بالسؤال المِفتاحي التالي: هل ما يحدث بخصوص المجلس التشريعي يماثل (وعد عرقوب) في كثرة الوعود وعدم الإيفاء بها لدرجة الكذب؟ الإجابة ببساطة: نعم والأدلة على ذلك كثيرة. وهل يليق ذلك بثورة نتباهى بها كثورة ديسمبر المجيدة؟ الإجابة: لا، بل إن ما حدث يعد خيانة لقيمها النبيلة. ولماذا حدث ما حدث؟ لأن المتورطين في هذه الخيانة باتوا ينظرون للثورة بمنظور المُحاصصات لا الكفاءات، وغلبت الأهواء الشخصية على النزعات الثورية. ومن المسؤول؟ كل الحكومة الانتقالية بدرجات متفاوتة، فمن لم يشارك تواطأ بالصمت. ولكن من يتحمل الوزر الأكبر تحديداً؟ يتحمله (الشريك الخفي) أو عجز القادرين على التمام، الذين لم يكتفوا بالصمت على خطيئة إحلال المجلسين (السيادي والتنفيذي) مكان المجلس اليتيم (التشريعي) بل انحنوا

فيما بعد لبدعة سُميت (مجلس الشركاء) كفاحاً. وما هو الحل بعدئذٍ؟ الحل ببساطة: في وقوف القاتل والمقتول أمام محكمة الشعب، صاحب الثورة والسلطة الحقيقية!

(3)

إن حيثيات ما ذكرنا لا تحتاج لذاكرة فولاذية، فالوقائع المُثبتة تقول: كان من المنتظر تشكيل المجلس التشريعي في 17/11/2019م طبقاً للوثيقة الدستورية التي نصت على مباشرته أعماله بعد ثلاثة أشهر من توقيعها في 17/8/2019م ودونما اعتبار للوقت المُهدر قبلها، بدأت رحلة الوعود الكاذبة، بالمماحكات والتسويف والتشاكس حول المقاعد الثلاثمائة المقترحة لعضوية المجلس. وقد وجد المصابون بالكسل العقلي ضالتهم في مبررات - ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب – بحجة الوصول إلى اتفاق سلام مع الحركات المسلحة التي تتفاوض في جوبا. والمفارقة أنه حتى بعد أن تطاول أمد التفاوض لعام كامل، جاء معطوباً كثير الذنوب. ولم يجد المرابون حرجاً في تكرار ماضي النخاسة اللئيم، فمهروه بتوقيعهم وما تخفي الصدور يوم 3/10/2020م مما حتَّم تعديل الوثيقة الدستورية جهراً في فبراير الماضي 2021م بعد أن اُنتهكت سراً - مراراً وتكراراً - حتى أصابها الإعياء والفتور. أما أرقام اقتسام السلطة فقد تراوحت - علواً وهبوطاً – واستقرت مؤقتاً في منح الحركات (المُشلَّحة) 25% من عددية مجلس الوزراء (7 وزراء) وذات النسبة من المجلس التشريعي (75 عضو) علاوة على (3) أعضاء في مجلس رأس الدولة لتصل عضويته إلى 14 سيادياً، يسدون باحة القصر وعين الشمس معاً!

(4)

جاء الاعتراض الأول على الأرقام المُقترحة من (تجمع المهنيين) المُكون الرئيس لقوى الحرية والتغيير، والذي أعلن في فبراير الماضي عن رفضه لها جملة وتفصيلاً. غير أن هذه الخطوة جاءت في توقيت صارت فيه قوى الحرية والتغيير نفسها تبحث عن مغيث (كالمعيدي تسمع به خير من أن تراه) كم يقال في الأمثال. إذ تفرَّقت عضويتها شذراً مذراً بين طلاب سلطة وطلاب ثورة، ولم يعد مجلسها المركزي ذاك الكيان الذي يؤمر فيُطاع في الساعة الواحدة ظهراً بتوقيت الثورة. وعوضاً عن ذلك انفتح مزاد الخلافات وما يزال، والتي لا سبيل لرتقها إلا بالعودة لمنصة التأسيس، تلك التي جعلت للثورة لساناً وشفتين. لكن لكي يحدث ذلك ويصبح أمراً ناطقاً ينبغي استكمال مؤسسات الفترة الانتقالية بأعجل

ما تيسر. ويأتي على رأسها المجلس التشريعي والمحكمة الدستورية والمفوضيات وتعيين الولاة (مع مقتنا لهذه الكلمة) فذلك من شأنه أن يلجم أفواهاً أدمنت خِدع الحواة وصنائع الأباليس!

(5)

إن التلكؤ والتواطؤ والكذب المستمر في استكمال تلك المؤسسات يعد المهدد الحقيقي لمسيرة الثورة الناهضة. ولا يجد المرء في نفسه حرجاً بتسمية الأمور بمسمياتها الحقيقية اتساقاً مع شفافية الثورة. إذ يجيء جنرالات المجلس العسكري في مقدمة المتآمرين. فكلنا يعلم أن قيام المجلس التشريعي سيعضد مدنية الدولة التي لهجنا بسيرتها دهراً. وإذا شئنا الدقة أكثر فإن طموحات الجنرال رئيس المجلس والتي أومأ بها مبكراً وكذا نائبه الذي يشغل منصبه (بوضع اليد) لن تنتهي بنهاية الفترة الانتقالية ولو صدق المنجمون. فالأول ظلَّ يقوم بأدوار مشبوهة، ولعل أكثرها قُبحاً ما فعله باستعلاء في فبراير 2020م حينما غادر خلسة (في غفلة رقيبي) إلى عنتيبى للقاء رئيس الوزراء الإسرائيلي بنجامين نتنياهو. أما الثاني فما فتئ يذكرنا كل مرة (بسورة قريش) حتى كدنا أن نظن أنه مُنزلها!

(6)

بيد أن الدكتور عبد الله حمدوك لم يسلم من التواطؤ وإن ادَّعى البراءة. فقد استغل الجنرالات ضعفه وخنوعه غير المبرر علماً بأنه يتسنم مقعد صدق بوأته له ثورة عظيمة. فهو يبدو زاهداً وغير متحمس لقيام المجلس التشريعي ويكرر على مسامعنا عكس ما نرى. وعلى الرغم من كثرة الاستشهادات إلا أن (واقعة عنتيبى) نفسها وقفت دليلاً على تذبذبه. يومذاك تدثر بصمت القبور وأصبح ابناً باراً لعرقوب المذكور. فكان كلما سُئل عن العلاقة مع إسرائيل قال إنها من مهام المجلس التشريعي. بل استمرأ القول حتى بعد أن وقف نصر الدين عبد الباري وزير العدل موقعاً الاتفاق أمام الكاميرات. الغريب في الأمر لو أن رئيس الوزراء كر البصر مرتين لأدرك أن وجود المجلس التشريعي سيكون سنداً له إن شاء نقش اسمه في سجل الخالدين. نضرب في ذلك مثلاً بالاتفاق التاريخي الذي وقعه مع الفريق عبد العزيز الحلو رئيس الحركة الشعبية – شمال بأديس أبابا يوم 3/9/2020م لكنه أصبح محض صرخة في الظلام في غياب السند المذكور!

(7)

صفوة القول: ليت الأمر يتوقف عند إشكالية قيام المجلس التشريعي، فإن أكثر ما يثير القلق هل ستكون العضوية المختارة على دراية كاملة بآليات عمل المجالس التشريعية (البرلمانات) وما تتطلبه من وعي سياسي وثقافة عامة وقانونية وإلمام بأبجديات الفصل بين السلطات؟ واضعين في الاعتبار سنوات التجريف الديكتاتورية التي وضعت بصماتها تجهيلاً في العقول وخراباً في النفوس، سيِّما وأن عمل المجلس لن يكون محصوراً في عضويته داخل البرلمان بما سيستلزمه من روافع خارجه. تلك محنة كان يمكن للقوى السياسية ومنظمات المجتمع المدني والنشطاء المساهمة بحلها بعقد سمنارات وورش عمل وندوات.. فلربما أشعل ذلك شمعة بدلاً عن لعن الظلام!

آخر الكلام: لابد من المحاسبة والديمقراطية وإن طال السفر!

فتحي الضَّو
faldaw@hotmail.com
الديمقراطي