استمعت لمحاضرة بعنوان " إدارة التنوع الثقافي السوداني – بين الواقع و المرجو" قدمها البرفيسور شريف حرير من مقر إقامته في النرويج. و هي ندوة اسفيرية عبر Zoom"" و التي نظمها " منتدى سوداناب الثقافي في سدني - استراليا" و الذي يشرف عليه الأستاذ بكري جابر المهتم بقضايا الثقافة، و اتسعت مقاعد الندوة لعدد من المهتمين من كل ولايات أستراليا إضافة إلي عدد من خارج استراليا. و مثل هذه الندوات الثقافية التي تتسع مقاعدها بهدف تبادل الأفكار و البحث عن قضايا تشكل حجر الزاوية في الأزمة السياسية السودانية. و التنوع الثقافي و الهوية و غيرها من القضايا الخلافية، و كان يجب أن تكون مفاتيح لحوار عريض للمختصين و الأكاديميين و المهتمين و المبدعين في كل مجالات الإعلام و الفنون للإجابة علي سؤال كيف يتم عكس التنوع الثقافي علي مساحة الوطن دون أن يصيب الضيم أي مجموعة ثقافية؟ لكان دائما الكل يقف في سؤال مهم جدا، بعد قناعة الجميع أن السودان دولة تنوع ثقافي. كيف يدار هذا التنوع الثقافي؟
تحدث بروف شريف حرير عن التنوع الثقافي من خلال رؤيته كباحث في علم الاجتماع، و من خلال تجربته الأكاديمية في جامعة الخرطوم، ثم وظيفته كباحث أول في مركز "التنمية التابع لجامعة بيرجن بالنرويج" و قال حرير لقد سادت نظرة ثقافية أحادية في الدولة السودانية منذ الاستقلال، و اتبع نسق واحد من الثقافة هو العروبية الإسلاموية، مع إهمال كامل لبقية الثقافات الأخرى، هي تمثل أحد الأسباب التي أدت للنزاعات في السودان، و لذلك كان علينا أن نقف ضد هذه السياسات، و محاربة المرجعية الفكرية التي تحمي هذا النسق الثقافي. الأمر الذي أضطرني إلي الاستقالة من جامعة بيرجن النرويجية و الالتحاق بركب المعارضة بهدف اسقاط النظام الذي يعتبر حامي لهذا النسق. و قدم بروف حرير تعريفات علمية لبعض المفاهيم و المصطلحات السائدة وسط المثقفين، و تعريف الفرق بين التنوع و التعددية. فقال التنوع " Diversity" أن السودان به حوالي 52 مجموعة ثقافية، أو أكثر 500 قبيلة طبعا قبل إنفصال الجنوب. و التعدد " Pluralism " أن كل مجموعة ثقافية فيها العديد من الفرع داخلها و كذلك كل قبيلة لها بطون و أفخاذ. و هذا التنوع العريض من التنوع الثقافي لابد أن ينعكس في لوحة الحياة السودانية اليومية، و يجب أن يكون محكوم بالدستور الذي يتوافق عليه الناس،
و تعريف التنوع دخل في الخطاب السياسي دون التمحيص الكاف له و معرفة مدلولاته لذلك أصبح الخطاب في فترات يميل للمزايدة السياسية. كان المصطلح في دائرته العلمية يأخذ بعده التثقيفي وسط المثقفين، فكان الأهتمام بمعرفة الدراسات العلمية و البحوث التي تنقب في المكونات الثقافية، و معرفة أصولها و تأثيراتها، إلي جانب تفاعلاتها و حواراتها في المجتمع، قبل أن ينتقل المصطلح إلي شعارات و يصبح آلة من آلات الضغط السياسي، و يرجع ذلك أن الحديث عنه في الخطاب السياسي يقف في محطة الاعتراف بالتنوع. و كما ذكر بروف حرير أن إدارة التنوع تحتاج إلي قوانين منصوص عليها دستوريا لحمايته و إعطائه مساحة واسعة لكي يعبر عن نفسه، و نظام فدرالي ديمقراطي تتسع فيه مساحة الحرية. ثم أشار إلي أن الديمقراطية لابد أن تكون توافقية أي " الديمقراطية التوافقية" و هو مصطلح بدأ يظهر بقوة في الخطاب السياسي لقيادات الحركات المسلحة، لكن لم يتم تعريفه و يأخذ بعده الحواري في الساحة السياسية، و يحتاج إلي تعريف و مجهود فكري للذين يروجون للمصطلح. و المهم في قضية التنوع لكي تنتقل من الخطاب السياسي إلي الواقع لكي تكون قضية معاشة شعبيا أن تكون هناك إرادة عند صناع القرار لدعم كيف إدارة التنوع.
لفت نظري مداخلتين في الندوة هي التي حاولت أن تنتقل للقضية من الخطاب السياسي إلي كيفية إدارة التنوع، و هي أشكالية تحتاج لتفاعل بين الدولة باعتبارها الداعم و الممول، و القطاعات الشعبية باعتبارها هي الأداة التي تستطيع أن تجعله واقعا معاشا في الحياة. في مداخلة للناشط السياسي كمال قسم الله بمدينة سدني في استراليا. قال "أن قضية النخب إشكالية لم تبارح مائدة النخب السياسية و هي في حاجة أن تنزل إلي الشارع أن تكون قضية مجتمعية " و المتداخل الثاني الأستاذ النيل المهتم بالقضايا الثقافية و أيضا من مدينة سدني حيث قال " أن هناك عاملين مهمين في قضية التنوع الثقافي لكي يصبح واقعا في المجتمع و هما التعليم و الإعلام" و قال يجب أن يكون الإعلام موجها هذه الآخيرة تدخلنا في سيطرة الأيديولوجية علي البعض الذين يرغبون في إعلام موجه الذي يناقض تماما شروط الديمقراطية، و التي يجب أن تتيح مساحة واسعة من الحرية لكي يستطيع الإعلام أن يؤدي فيها الدور المنوط به. و المداخلتان في وجهة نظري هما اللتان حاولتا الخروج من الدائرة السياسية و البحث لها عن مساحة شعبية، تندرجان في الإجابة عن إدارة التنوع.
أن قضية إدارة التنوع الثقافي، تمر بأربعة مراحل أساسية، لكي تصبح واقعا معاشا و تخرج من دائرة الخطاب السياسي، و الذي دائما يأخذ طريق المزايدة السياسية لأن العديد من القيادات السياسية تردد " مصطلح التنوع الثقافي" دون المعرفة للمصطلح و أبعاده في الثقافية، لذلك لابد من معرفة المراحل التي يجب أن يمر بها المصطلح. و في وجهة نظري أن تكون على النحو الأتي:-
أولا – البحث العلمي، و هي المرحلة التي يتم فيها التعريف علميا حيث التعريف بالمكونات الثقافية، و ماهميتها و مناطق هذه المجموعات الثقافية، دورها في عملية الاستقرار السياسي و الاجتماعي في البلاد. و رغم التعريف الذي قدمه الدكتور شريف حرير باعتباره باحثا في علم الاجتماع، هناك تعريفات عديدة لباحثين من حقول مختلفة.
أ - فمثلا يقول المفكر الباحث محمد أبو القاسم الحاج حمد عن التنوع الثقافي في السودان و كيف يتحاور هذا التنواع. قسم السودان لمربعات ثقافية، و قال أن المربعات الثقافية ليس حصرا علي حدود السودان بل تتعداها إلي دول أخرى، و من خلال تداخل المجموعات الثقافية لحركتها بين الحدود، و بقدر فائدتها لبناء علاقات جيدة مع دول الجوار، أيضا تصبح إشكالية مثيرة لنزاعات لأنها تكون خاضعة للأجندة السياسية.
ب – و من حقل الأثار يقسم البروفيسور علي عثمان محمد صالح السودان إلي دوائر ثقافية، و أن هذه الدوائر و يقول ليست جامدة، و لكنها متحركة بحركة الناس، لذلك هي عبارة عن تروس تتحرك و تحرك بعضها البعض، و في هذه الحركة يحصل الحوار الثقافي و التماذج بين الثقافات المختلفة في السودان، لكن إشكالية هذه الحركة يمكن أن تطعم بأمصال سياسية لا تجعل هذا التفاعل يتم طبيعيا، حيث تحدث له تقاطعات كثيرة تؤثر عليه سلبيا.
ج – و نجد أن جمعة جابر الباحث عن الموسيقي و الغناء في السودان في السودان. كتب كتابا عن دور الغناء في تشكيل الوجدان السوداني، و ركز علي كيف تنتقل الآلات الموسيقية في المناطق المختلفة للسودان و أيضا الرقصات المصاحبة لذه الآلات، هي التي خلقت الأرضية التي شكلت الوجدان المشترك.
د – يقول الفنات التشكيلي عادل كبيدة في بحثه عن مكونات ثوب المرأة السودانية، هل هو رداء جاء مهاجر من الخارج السودان، أم هو مكون سوداني من خلال الحوار السوداني، حيث يعتقد كبيدة أن مدينة أمدرمان هي المنطقة التي حدث فيها الحوار بين الأزياء المختلفة للمجموعات الثقافية من " الجرجار و ألاوو و الطرحة و غيرها" و هي التي شكلت أرضية الثوب الذي اشتهر بلباسه آهل الوسط.
و هناك العديد من الباحثين قدموا دراسات مختلفة في قضية الحوار الثقافي بين المجموعات المختلفة منهم يوسف فضل و سيد احمد حريز و أدريس سالم الحسن و علي الضو و الطيب محمد الطيب و إبراهيم البزعي و غيرهم. و جميع هؤلاء ارتبطوا بمركز البحث العلمي أو بمؤسسات لها دور في في قضايا التنوع الثقافي و الإعلام.
ثانيا – المرحلة السياسية. و هي المرحلة التي تنقل هذا الجهد المعرفي في مجال التنوع الثقافي إلي أن يكون نصا دستوريا يجد الاحترام من الجميع باعتبارها قضية تسهم في عملية الاستقرار الاجتماعي منعا لحدوث نزاعات تنتج عن التضيق علي الثقافة. و قضية الدستور مسألة مهمة. نضرب مثلا عندما أعلن الرئيس نميري قوانين الشريعة الإسلامية عام 1983م و منع صناعة الخمور البلدية، امتنعت بعض الأقاليم زراعة الذرة التي تعتبر غذائها الرئيسي و خاصة في النيل الأزرق. لأنهم كانوا قبل الزراعة و الحصاد يقيمون احتفالا بمناسبة الزراعة يسمى الاحتفال " جدع النار" يقام ليلا يآكلون و يغنون و يرقصون و يشربون الخمور البلدية و عندما يظهر قرص الشمس في الصباح الباكر يضع كل فرد حربته في النار ثم يقذف بها علي قرص الشمس و هذا يمثل لهم فأل حسن و كذلك في الحصاد، و عندما منعوا من صناعة الخمور أوقفوا الزراعة و أصبحت الدولة تجلب لهم الذرة بعد ما كانت متوفرة في المنطقة، هذه واحدة من تأثيرات السياسة السالبة علي الثقافة. و المرحلة السياسية تتطلب الأتي:-
1 – تغيير المنهج الدراسي لكي يتماشى مع عملية التنوع الثقافي و يخدمها، و يثقف النشء بأن السودان دولة تنوع ثقافي، و هذه هي نفسها تخلق أرضية ديمقراطية لأن الطفل سوف يتعرف أن هناك أشخاص آخرين لهم ثقافة مخالفة لثقافته و لابد من احترامها، هنا يتأتي التثقيف باحترام الرآي الأخر.
2 – العمل من أجل تأسيس البنيات الأساسية لأدوات الثقافة في الأقاليم المختلفة. مثل " المسارح – المعارض – دور السينما – أمكان العرض و المطابع و غيرها" إلي جانب الأهتمام بالمنظمات التي تشتغل في قطاع الفنون بنواعها المختلفة و تقديم الدعم المالي لكي تمارس نشاطاتها، إلي جانب تدريب المبدعين و خلق في تعلمية لهم لكي يطوروا قداراتهم الإبداعية بالصورة التي تجعلهم يجودون أدائهم
3 – تسهيل أجراءات تأسيس وسائل أتصال خاصة " قنوات – إذاعات" إلي جانب تلفزيون مدعوم من قبل الولاية دون التدخل في عمله من قبل السلطة التنفيذية.
أن إجراءات إدارة التنوع الثقافي المطلوب منها كيفية تنزيل التنواع للواقع، لكي يقدم الصور الجمالية التي تليق بهذا العمل المرتبط بقيم و عادات و تقاليد و سلوك المجموعة الثقافية في المنطقة المحددة، و هي التي يجب أن تقدم ثقافتها بنفسها للأخرين بالأدوات الموجودة في المنطقة.
من القضايا المضحكة للسلوك السياسي للسلطة الحاكمة، أن كانت في النظام الشمولي أو في النظام الديمقراطي. عندما تثار قضية التنوع الثقافي، يتم تعين مجموعة من سحنات مختلفة لكي تظهر في شاشات التلفزيون أو في ميكرفونات الإذاعة، باعتبارها تنفذ عملية التنوع الثقافي، ثم تقدم كل مرة رقصات من مناطق مختلفة. هذا تشويه لعملية التنوع الثقافي. عندما تم توقيع اتفاقية سلام جوبا بالأحرف الأولي سارع وزير الإعلام فيصل محمد صالح و وكيل وزارته الرشيد سعيد يعقوب بتأسيس إدارة بعنوات " أدارة السلام" أن العقلية الإيديولوجية لا تستطيع أن تفكر خارج صندوقها، لذلك تعتقد أن السلام لا تكتمل أركانه إذا فارق مكاتب المؤسسة، و هذا خطاء لأن الإبداع الذي يؤسس للأرضية التي تشييد عليها قوائم السلام هي خارج المؤسسة، و هي التي تستطيع أن تلعب الدور الأكبر في ترسيخ قيمه في المجتمع.
أن الطاقات الإبداعية المتوفرة في الأقاليم طاقات كبيرة ،و لكنها لم تأخذ فرصتها لكي توظف هذه الطاقات بالصورة المطلوبة. و لكن هناك مجهودات فردية استطاعت بمثابرتها أن تفرض تجربتها علي المجتمع و تجد قبولا كبيرا مثل تجربة أبناء كردفان عبد القادر سالم و موسي أبا و عبد الرحمن عبد الله و الفنانة شادن محمد حسين هذه المبدعة الرائعة الي استطاعت بمفردها أن تقدم نماذج عن ثقافة عالية الجودة لمناطقها، و كذلك عاصم الطيب في النيل الأزرق و علي الضوء. و الفنان عمر حساس في دارفور، إلي جانب بروز دور الحكمات و دورهم في المجتمع، هذا يؤكد أن الشعب السوداني جميعه يقبل هذا التنوع و يعشقه ويتجاوب معه، لكن الدولة هي وحدها التي تخالف ذلك.
قبل انقلاب جعفر نميري عندما كانت تقام اعياد الاستقلال في الخرطوم، كانت الفرق الشعبية في الأحياء تؤدي أغنايها و رقصاتها، كل مجموعة ثقافية تعرض فنونها، و كانت تخرج كل المنطقة لكي تشاهد هذه العروض الجميلة و ترقص مع الجميع، و من خلالها تعرف الناس علي إقاعات المناطق و رقصاتهم و كان الناس ينتظرون عيد الستقلال ثم الاحتفال بثورة أكتوبر. و لماذا قلت قبل انقلاب نميري؟ لأن الأيديولوجية التي جاءت بنميري استبدلتها بفرقة الفنون الشعبية التي تشرف عليها وزارة الثقافة و الإعلام، و توقفت الاحتفالات في الساحات العامة و من بعد بذلك تم بيع أغلبية الساحات العامة، فالدولة دائما تدخلها في العمل الجماهيري تكون نتائجه سالبة، و كانت أيضا هناك السينما المتجولة التي كانت تتنقل للأقاليم للترفيه علي الناس، و كانت تقدم عروض لمناطق السودان المختلفة، كل تلك أختفت تماما في ظل النظم الشمولية الأيديولوجية.
أن قضية التنوع الثقافي حوار يجب أن لا ينقطع و لكن في أطاره الشعبي و الإبداعي، باعتبار أن السياسة يتوقف دورها في أصدار قوانين تحمي التنوع الثقافي و مناهج تعليمية تعلم النشء أن السودان دولة تنوع الثقافة " Multiculture " و تأسيس البنيات الأساسية للثقافة إلي جانب دعم الفرق و المنظمات التي تعمل في هذا الجانب. و تخرج من الدائرة استمرارها سوف يعيق العمل، و يكمل العمل من خلال النشاط العام لهذه الفرق و المنظمات الشعبية في مناطق السودان المختلفة. و هي بالفعل تحتاج إلي حوار بين المبدعين في تلك المناطق باعتبار أن أن أدواتهم هي أدوات مختلفة عن أدوات السياسة. و نسأل الله حسن البصيرة و التوفيق.
شارك هذا الموضوع: