مازال المشهد السريالي يسيطر على الأوضاع في السودان في كل مجالات الحياة بمعنى غياب العقل والمنطق والمعرفة العلمية والسببية، فالنخبة السودانية يتحدث قطاع عريض منها عن التنوير والاستنارة الفكرية، بينما على مستوى الواقع اليومي تقطع الكهرباء في عاصمة البلاد وفي القرن الحادي والعشرين من الساعة السابعة صباحاً حتى الخامسة والنصف عصراً دون الحديث عن أية برمجة أو تنظيم يتوقعه المواطن العادي، أو ظهور المسؤولين وشرح أسباب القطع وهل هناك حلول ممكنة؟ ولا تعقد نقابات المهندسين ولا منظمات المجتمع لقاءاتٍ تفاكرية لمناقشة مثل هذه القضايا الحيوية والملحة والمؤثرة على حياة الناس.
بالنسبة لإيجاد الحلول هذه مسؤولية العقول السودانية المتخصصة في هندسة الكهرباء والذين أكملوا كليات القمة في السودان، وبالمناسبة من أكبر نسب المبعوثين إلى الخارج لدراسات عليا فوق الجامعية هي بين المهندسين يكاد أي خريج من جامعة الخرطوم أو المعهد الفني قد حظي بفرصة للدراسة والتخصص أكثر في الخارج. وهنا السؤال أين هذه العقول والشهادات؟ استعمل هذه الأيام جهازاً بسيطاً من الصين، عبارة عن مروحة تخزن التيار الكهربائي أثناء وجوده ثم تستعمل عند انقطاع التيار. وبالتأكيد هذا الاختراع لمهندس صيني عادي لم يبعث إلى بريطانيا أو أمريكا ولكنه يوظف علمه لحل مشاكل البشر ويعمل على تطوير معارفه وعلومه، فهو منشغل طوال الوقت بعمله ورفع قدراته، بينما مثيله المهندس السوداني يلاحق بيوت العزاء وعصريات عقود الزواج. كما أن نظام تعليمه يعتمد على الحفظ والتلقين. ويروى أن اليابانيين حين ذهبوا للدراسة في أوروبا لم تكن الامتحانات الإجابة كتابة على الأسئلة، بل يطلب من كل طالب عند التخرج تقديم مشروع لاختراع جديد أو تصميم مبتكر، الطالب السوداني يحفظ المعادلات الرياضية والهندسية الصعبة ويعيدها في ورقة الامتحانات. ولا تتأثر عقليته ولا تفكيره بالعلم وقد يتساكن في عقله كل الخزعبلات والغيبيات والشعوذة، وقد عايشنا ذلك في كوادر الإسلامويين خلال فترة حكمهم، وقد عايشنا مفارقات وتناقضات مذهلة، إذ قد يقوم أكاديمي حاصل على دكتوراة في الزراعة من الولايات المتحدة الأمريكية بعمليات التعذيب في بيوت الأشباح، ويزرع الكهرباء في أجساد المعتقلين عوضاً عن زراعة الأراضي البور الشاسعة في هذا الوطن، هذا هو العقل السوداني المختون بامتياز.
ومن نماذج هذا العقل الغريب الدعوة هذه الأيام لجلد الفتيات بالسياط بسبب نوعية الملابس، ويطالب مدير شرطة ثورة ديسمبر المجيدة وفي ربيع الديمقراطية بعودة قانون النظام العام.. هذا العقل السوداني الذي اختزل كل مشكلات العالم وآفاق المستقبل في سنتمترات فساتين الفتيات. هل يمكن لهذا العقل أن ينتج فكراً أو يبتكر علماً. لذلك مشكلتنا ليست في المكون العسكري أو المدني ولا الدعم السريع، بل في العقل الآتي من العصور الوسطى والذي يجسد الظلامية والتخلف كل يوم. والمعضلة في كون أن هذا العقل قادر على ابتزاز النخبة السودانية وإرهابها فكرياً ولجمها عن الجرأة في تحطيم التابوهات والأصنام والأيقونات، وما زالت المبادرة في يد قوى الظلام والتخلف، بينما العقل المستنير عاجز عن تغيير الواقع اليومي ولا هزيمة الظلام المادي الذي يخيم على الدين كل يوم.
وبدأ التنوير بوصول الكهرباء إلى كل الأرياف وليس بقراءة كانط أو هيجل أو هابرماس، وهذا ما يربط عناصر عنوان هذا المقال.
شارك هذا الموضوع: