لقد عكست أحداث النيل الأزرق الأخيرة حدة الأزمة في مسار الدولة السودانية، و بالتالي ضرورة طرح سؤال لماذا تتدحرج الحالة السودانية بأتجاه هذا الصراع و بشكله القبلي البغيض؟ و ما هي الأسباب الكامنة و راء ذلك؟ و هل ما حدث في النيل الأزرق ظاهرة جديدة في خارطة العنف في السودان و هل ستكون هي الحوادث الأخيرة؟ كل هذه الأسئلة لا يمكن الإجابة عليها ألا أذا استطعنا معرفة المصدر الأساسي للعنف و ما هو المقابل لهذا العنف و ما هو الحل لمعضلته؟ و لهذا يستند هذا المقال علي ثلاثة ثلاثيات ستكون مدخلا تحليليا لظاهرة العنف وذلك عبر البحث في جذورها و محاولة فهم الدوافع و المبررات ، و من ثم أمكانية البحث عن مخرج لحالة العنف السائدة و التي أن أستمرت ستؤدي قطعا لتفتيت هذا البلد المسالم..و الكتابة حول العنف يمكن ان تطول و لكن هذا المقال يركٌز علي ثلاث ثلاثيات للمساعدة في فهم هذه الظاهرة و هي:
١- ثلاثية طبيعة الانسان ٢- ثلاثية الثورة ٣- ثلاثية الحلول..
و لنبدأ بالثلاثية الأولي المتعلقة بطبيعة الأنسان، إذ يقول علماء النفس الأجتماعيين بأنه تكمن في الإنسان ثلاثة مستويات أو تموضعات متمثلة في الوضعية السفلي و الوسطي و العليا، حيث يكمن في الوضعية السفلي العنف و كل ما يرتبط بالغرائز و هي الوضعية التي يشترك فيها الأنسان مع الحيوان… لكن و من خلال العقل و الذي هو ميزة الأنسان يتجاوز الأنسان هذه الوضعية الي الوضعية الوسطي و المرتبطة بالعمران و الانتاج بكافة أشكاله حيث تنشأ علاقات أنتاج جديدة ينتقل فيها الصراع ليكون علي مستوي الطبقات و بالتالي قد يتحول العنف الي عنف ثوري تقوده الطبقات المسحوقة ضد الطبقات المسيطرة و هنا يبرز دور العقل في التخطيط، و بالتالي فهم متطلبات الواقع و الدفع بالطبقات الكادحة لتغيير واقعها ..هنالك المرحلة الاخيرة او الوضعية العليا للأنسان و هي المرحلة التي يبدع فيها الأنسان و ينسلخ تماما من المراحل السابقة و يترك العنف جانبا مرتبطا بالسمو و الخلق و الابداع…هذه المراحل قد تتداخل و تتشابك و الذي نستفيد منه في هذا المقال من هذه الثلاثية هو كيفية ان ينتقل الإنسان من المرحلة الأولي الي الثانية و هنا تبرز اهمية الدولة ضمن مفهوم العقد الإجتماعي بين الناس و السلطة..هذه الثلاثية عند النظر إليها من خلال واقع و تشكيل الدولة السودانية، فاننا نلحظ ان الدولة السودانية و خلال تطورها كانت دولة عنف بأمتياز و بالذات من خلال الحقب التي سيطر فيها العسكر علي مقاليد الحكم ، و تعتبر فترة حكم الإسلاميين من اسوأ الحقب حيث و من خلال عقلية و تفكير الإسلاميين فقد تم تجسيد المرحلة او الوضعية الاولي للأنسان من خلال ممارسة العنف ضد الآخر و بشكل غير مسبوق، مصحوبا بنزعة عنصرية شاملة عند النظر للآخر المختلف، و اصبحت الدولة مرتبطة بالعنف و اصبح العنف سمة مميزة لها، و اصبح القتل مشاعا… هذه الحالة التي تمارسها الدولة و التي أرتبطت بشيوع العنف أدت ألي ان يتحول هذا العنف و وفق مصادر متعددة الي واقع وسط القطاعات الشعبية و الارتداد بها الي واقع العشيرة و القبيلة و سلطتها و هي سلطة تتأسس علي فكرة اَحادية كفكرة الاخوان المسلمين عند النظر للمختلفين عنهم، و هذا ما نستطيع ان نجزم به و هو تحول العنف لكل مفاصل الدولة مما يمكن معه أطلاق صفة دولة العنف في السودان و المستولدة من عنف الدولة، و بالتالي شيوع الحالة الأسترجاعية و الوضعية الأولي و القائمة علي علاقات الصراع الدموي من اجل السيطرة علي السلطة و الموارد في أطار وحدود القبيلة، و بالتالي تتحول( الحواكير) الي مساحة اكبر من الوطن و يتم فيها القتل علي الهوية القبلية و ذلك في غياب الدولة..حالة عنف الدولة ضد رعاياها و في الحالة السودانية انتج الثلاثية الثانية و هي ثلاثية الثورة المتمثلة في أكتوبر-أبريل- ديسمبر كثورات لا يمارس الفاعلين فيها العنف و يواجهون عنف الدولة وفق سيرورة اللاعنف و ينتصرون، و لكن لا يشأ عنف الدولة أن يعود نتيجة لغياب القيادات الثورية الواعية بالتغيير..و هذه الثلاثية المرتبطة بالثورات هي أنتقال بالمراحل الثلاث الي مستوي اعلي تتجذر فيه الروح المعنوية العالية و القدرة علي المواجهة مما يتحقق معه الشرط الأنساني و هو الشرط الذي ينهي حالة الأقتتال علي مستوي الدولة. و لأن العناصر الرجعية و صاحبة الأمتيازات لا تريد ان يتحقق هذا الشرط فهي تسعي للحفاظ علي دولة العنف حتي تستطيع ان تتحكم و تحكم، و لهذا و لكي لا يستمر الوضع المرتبط بالعنف يبدو الحل في الثلاثية الأخيرة و هي ثلاثية مدنية الدولة-التنمية-التعليم، و هذه هي الثلاثية التي تخرجنا من دولة العنف الي دولة المساواة بين الناس و السعي لتحقيق العمران و منه الي مرحلة الوعي الخلاق…لكن يبقي السؤال مرتبطا بالكيفية التي يمكن الوصول بها الي الثلاثية الأخيرة و المتصلة بالدولة المدنية و التنمية و التعليم في ظل تمدد عنف الدولة و التي تقتل الناس في الشارع تحت أنظار العالم؟ و هذا هو سؤال المرحلة و الذي ستجيب عليه هي حركة الشارع و قدرتها علي الأستمرارية حتي ينتصر مبدأ اللاعنف علي مبدأ العنف، و بالتالي عندما يكون الرأسي و المتمثل في الدولة غير منتهجا للعنف، فأن ذلك سينعكس علي الأفقي و المرتبط بالمجتمع و بالتالي سيادة روح التعايش السلمي بين الناس..و لهذا يبدو استمرار و نجاح الثورة ضروريا لوضع حد لحالة العنف و التي أصبحت شاملة..
شارك هذا الموضوع: