السودانيون
مشغولون هذه الأيام بعملية إعفاء السودان من ديونه المتراكمة ومطالبة الدول الدائنة بالإسراع في إعفاء الديون السابقة لكي يبدأ البلد الدخول في ديون جديدة بعد أن يمزق النوتة القديمة التي سجلت فيها تلك الديون. وفي خضم هذه الضجة لا يتذكر الناس الديون التي دفعتها الدولة
السودانية والمواطن السوداني المسكين (محمد أحمد) للأفندية أو النخبة أو التكنوقراط. فقد قاما بتعليم وتأهيل أبنائهم وبناتهم على حساب التنمية من علاج وسكن وحياة كريمة على أمل أن يرد الأفندية هذا الجميل خدمة للوطن والمواطن. فقد تحمل السكان العاديون عبأ تعليم الأطفال
مجاناً وفي كل المراحل وفي أحيان كثيرة في مدارس داخلية وتقوم وزارة المعارف بتلبية كل الاحتياجات من سكن وطعام وترحيل وتزويد بالكتب والكراسات وكل المعينات الأخرى. وتستمر مسئولية الدولة من المرحلة الأولية مروراً بالوسطى والثانوي حتى التعليم الجامعي وكان الطالب
الجامعي يعيش في رفاهية وبذخ من حيث السكن ونوع الطعام وأحياناً يحصل الطالب على منحة مالية وكنا في معهد المعلمين العالي (كلية التربية حالياً) نحصل على مرتب مدرس وسطى كاملاً لضمان العمل في التدريس بعد التخرج.
يكاد
يكون جميع خريجي الجامعة يحصلون على بعثة إلى الخارج بريطانيا أو الولايات المتحدة أو مصر وكل ذلك عملة صعبة يدفعها (محمد أحمد). وأكثر الفئات حصولاً على البعثات هم الأطباء. ومع ذلك يصرح السيد وزير الصحة بأن البلاد تعاني من نقص في الأطباء في بعض ولايات غرب السودان.
والذي يحدث هو أن الدولة على حساب دافع الضرائب تقوم بكل هذا الإنفاق ومن المعتاد أن يبعث الطبيب إلى الخارج ولكن رحلته تأخذ طريقاً آخر: من لندن أو مانشستر إلى مستشفى الدمام بالسعودية أو رأس الخيمة (الإمارات) دون المرور بالخرطوم أو الضعين. وهذه ديون الشعب السوداني
التي يجب أن يردها الأفندية لأن هذه الأموال التي انفقت عليهم كان يمكن أن توجه للتنمية والإنتاج والخدمات الأساسية للسودانيين.
وهنا
مكمن الأزمة السودانية وهي ليست أزمة سياسية أو اقتصادية بل أزمة أخلاقية وأزمة ولاء وطني. هناك الآف السودانيين الذين استفادوا من تضحيات شعبهم وهم مطالبون الآن برفع معاناة شعبهم ولا يتم ذلك من خلال تحويلات المغتربين وفتات الدولارات التي ترسل من الخارج وقد تصل
إلى الخزينة العامة أو لا تصل. على النخبة السودانية أن تتوقف عن طرح المبادرات وتعليم المواطنين العاديين كيف يحكمون أنفسهم وتشكيل لجان التعيينات والوساطات وإصدار البيانات يومياً. والمطلوب في خضم الأزمة الراهنة والتيه التوصل إلى آليات نظرية وعملية تخرج الوطن من
مآزقه التاريخية وفي نفس الوقت فيها رد لبعض دين الشعب السوداني.
أولاً
الجانب النظري والفكري أن يشرع السودانيون بالذا المختصين والمؤهلين في صياغة مشروع وطني سوداني حديث يلتزم الجميع بتنفيذه وتطبيقه لأن القوى السياسة ظلت منذ الاستقلال بلا مشروع وطني ولذلك فشلت كل الأحزاب تقليدية أو حديثة عن تحقيق الوحدة الوطنية والتنمية وقيام دولة
مركزية حديثة فعالة وتمتين الشعور القومي بين السودانيين وإخراجهم من القبلية والطائفية والجهوية. ثم تحقيق تنمية مستقلة تعتمد على الذات وعادلة تحقق الرفاهية والمساواة بين مكونات الأمة السودانية. أما الجانب العملي فهو يقتضي أن يخصص السوداني في أي مكان جزءاً من
وقته لتوصيل معرفته وخبرته للعمل داخل الوطن (حتى لو اقتطع بعضاً من الأجازة السنوية) ليرد بعضاً من ديون وجبات الفول والعدس والصابونة (حبوبة فاطنة) التي كان يتحمل (حسنين) و(أوشيك) و(أبكر) كلفتها. ويمكن تنظيم هذا المنشط الخدمي من خلال الجاليات والاتحادات السودانية
المنتشرة في المنافي وأماكن اللجوء والهجرة.
دعونا
نفكر جدياً وبصدق ونبتكر الوسائل لرد الديون الشعبية على النخبة التي وقفت تتفرج على شعبها أو في أحسن الأحوال تقوم بمهمة التدريب وإرسال النصائح.
شارك هذا الموضوع: