نشر بتاريخ: 28 ديسمبر 2010
فجّر الرئيس السوداني عمر البشير صدمة للكثيرين في مدينة القضارف الأسبوع الفائت، حين أعلن «إلغاء» تعددية السودان، بخطاب جماهيري قد يتحول إلى قرار جمهوري. وقد اندهش كثيرون، واستاء كثيرون أيضاً، رغم أن الحديث لا يثير الدهشة ولا الاستياء لدى المتابع لأيديولوجية الحركة الإسلاموية السودانية. فقد حسم أمر أي صوت يدعو لأي نوع من التعدد الثقافي أو الديني أو اللغوي، لأن الدولة ستقوم على الشريعة الإسلامية، ولن تحتمل أي نوع من المنافسة في التشريع. وأخيراً، حسم الرئيس ذلك الجدل الطويل العقيم حول الهوية، وجاء بالقول الفصل: السودانيون عرب ومسلمون وكفى. ولتسكت كل الغمغمات الغامضة والملتوية، والتي أطلق عليها بالدارجة، صفة: الدغمسة، والخمج، وإن لم يلفظها. وقد أحسن الرئيس البشير اختيار المكان: القضارف، التي بشر واليها بأنه سوف يقيم الشريعة، وبدأ في إصدار تشريعات يراها داعمة للشريعة، مثل منع التعليم المختلط في مدارس الأساس في الولاية.
لم أندهش لمضمون الخطاب بسبب متابعتي اللصيقة لأيديولوجية الإسلامويين. فقد عرفت الحركة تيارين منذ قيام الانقلاب؛ الأول يرى فصل الجنوب لكي ينعم السودان بدولة إسلامية «صافية» خالية من صداع الأقليات غير المسلمة، وبالتالي تنتفي أي معارضة أو عقبات أمام مسيرة الدولة الإسلامية. أما التيار الثاني، فيرى ضرورة أسلمة وتعريب بكل الوسائل السلمية أو العنيفة، لأن الجنوب يمكن أن يكون بوابة إلى إفريقيا. وهذا التيار هو الذي قاد الحرب أو«الجهاد» في مطلع تسعينيات القرن الماضي، والتي راح ضحيتها مئات الألوف من القتلى. ووصلت الحرب الأهلية إلى طريق مسدود: لا غالب ولا مغلوب. وهنا تدخل الغرب ودول «الإيغاد»، ليفرضوا اتفاقية السلام الشامل في نيفاشا. وقد دخلها الشريكان: الحركة الشعبية والمؤتمر الوطني، كل بأجندته الخاصة. وفي النهاية، حققت الحركة الشعبية هدف الإسلامويين: الانفصال. وبالتالي انتقلوا لخطوة إعلان الأسلمة والتعريب.
هذا الموقف الذي أعلنه البشير، هو في حقيقته موقف غالبية الأحزاب التقليدية وكثير من السودانيين، حين يبرز سؤال الثقافة والهوية. فالمجتمع السوداني الشمالي الذي كثيرا ما يوصف بأنه متدين وصوفي، يصعب عليه ـ في دواخله ـ أن يتساوى مع الجنوبيين، ويردد القول الغريب «هم ما بشبهونا»! وهذا حكم ثقافي وليس عرقياً، والمقصود به أولاً العقيدة أو ما يعبدون. ولاحظت رغم كل الأقنعة السياسية، أن الزعماء والقادة يعطون هذا الجانب أهمية قصوى. فقد كتب الصادق المهدي أثناء فترة حكمه بعد ثورة اكتوبر 1964 ومؤتمر المائدة المستديرة، رسالة إلى البابا يقترح فيها العمل المشترك بين الكنيسة والحكومة السودانية، للقضاء على الوثنية وتحويل أصحاب الديانات التقليدية في الجنوب إلى مؤمنين يعتنقون أياً من الديانتين السماويتين: المسيحية أو الاسلام (البوني: البعد الديني لقضية الجنوب..، 1996، ص41). وفي توصيات مؤتمر الفكر والثقافة الإسلامية الأول، نوفمبر 1982، دعا الشيخ حسن الترابي، إلى القضاء على الوثنية، قائلا: «إن اعتناق أي دين سماوي، إسلاما كان أم مسيحية، أفضل بكثير من البقاء على الوثنية، لأن الأديان التوحيدية تطوّر القيم الإنسانية والأسس الأخلاقية» (وقائع المؤتمر).
هذا تفكير لا يذهب بعيداً عن رسالة التحضير الاستعماري، والتي اعتبرت «عبء الرجل الأبيض». فمن أهم خلفيات الصراع الشمالي ـ الجنوبي، عقيدة الجنوبيين وعجز كثير من المسلمين الشماليين حتى المتعلمين، أو على الأصح المتعلمين منهم بالذات، عن قبول هذا الآخر المختلف. ورغم الحديث الكثير عن التنوع أو التعدد الثقافي، لم يقترب المثقفون الشماليون كثيرا من الثقافات الجنوبية. فقد ظل الباحث ايفانز برتشارد، المرجعية الأساسية في انثروبولوجيا القبائل الجنوبية. وكم عدد الإداريين الشماليين الذين عملوا في الجنوب وتعلموا اللغات الجنوبية؟
كانت تجربة مركز الدراسات السودانية في ترجمة كتب الدكتور فرانسيس دينق، محاولة رائدة في التعريف بالفكر الجنوبي المعاصر، ولكنها لم تكتمل لأسباب عدة. وقد تركز الاهتمام على كتابات الجنوبيين الذين يكتبون بالعربية فقط.
هناك قطاعات وتيارات إسلامية كبيرة، ترى في التنوع أو التعدد الثقافي نوعا من الفتنة أو الفرقة الضالة، وفي اللغة الحديثة: مؤامرة استعمارية أو صهيونية لتمزيق الأمة أو الدول العربية. وهذا التحليل تحديث لفكرة أو تهمة الشعوبية، التي سادت طويلاً في التاريخ العربي الإسلامي. ورغم أن الدولة العظمى: الولايات المتحدة الأميركية، هي نموذج للتعددية الثقافية وفشلت في قمعها بكل أساليب التفرقة العنصرية وكراهية الآخر، إلا أن الاقصائيين يتجنبون اعتبارها مثالاً لنجاح التعددية. ومع أن آباء الحركة الوطنية، أعجبوا بحزب المؤتمر الوطني الهندي، إلا أن عقليتهم الأحادية وثقافة خوف الفتنة، وقفت بهم دون استلهام تجربة الهند في التنوع، حيث يمكن أن يكون رئيس الجمهورية مسلماً في دولة ذات أغلبية هندوسية.
يرتبط قبول التنوع والتعايش مع الآخر المختلف، بقضية الديمقراطية الحقيقية. ففي كثير من الأحيان نختصر الديمقراطية في الأحزاب وصناديق الانتخابات، أي الديمقراطية الإجرائية والشكلانية. وتحت دعوى الخصوصية الثقافية، نحاول ـ كمسلمين ـ استبعاد المضمون الفلسفي للديمقراطية، خاصة حين يتعلق الأمر بالحريات. ففي حالة المطالبة باحترام الحريات، والشخصية بالذات، ينحصر العقل في الجوانب السلبية فقط. وكأن الحرية لا تعدو زواج المثليين، وكأن الثورة الفرنسية اندلعت فقط لتقر هذا الزواج! وتتسع دائرة التحفظات للتضييق على مساحة الحريات، ويخشى المتحفظون من تعميم بعض الحقوق التي يراها الغربيون ضرورية: حرية تغيير المعتقد.
مشكلة التجربة السودانية لتطبيق الشريعة، أنها انطلقت والعولمة في أوجها، وأول مظاهر العولمة سقوط الحدود والحواجز بين الثقافات. ويصعب تطبيق الشريعة في ثقافة مكشوفة ومفتوحة على العالم. وفي نفس الوقت يستحيل الانغلاق والعزلة عن الكون. وهذه معضلة الإسلامويين عموما، وفي السودان على وجه الخصوص، لأن يدهم في النار، أي يحكمون ويجربون، وليس مجرد تنظير. فهم يواجهون المشكلات اليومية، ومطالبون بالأجوبة على أسئلة عصرية وواقعية. لقد دبجت آلاف الصفحات عن حقوق غير المسلمين في الدولة الاسلامية، نظريا، ولكن في السودان وفي هذه اللحظة، هناك دولة تنسب نفسها للإسلام وتضم غير مسلمين، فكيف تعاملهم؟ لا يوجد غير مزيد من الاجتهاد والفهم العصري للدين.
شارك هذا الموضوع: