الشباب والتراث الموسيقي، جدلية الاقتراب والاغتراب

د. كمال يوسف علي - 09-09-2020

الشباب والتراث الموسيقي، جدلية الاقتراب والاغتراب

- قراءة في أغنيات الثورة السودانية -

ُ مقدمة:

وكما جاء في ديباجة المؤتمر لهذا العام؛ فإن الموسيقى لم تعد مجرد أداة للتسلية والترفيه، أو
لعقلية ضرباً من المتعة ا ، بل تخطت ذلك لتلعب دو ا رً أعمق في تشكيل وعي ووجدان الإنسان
العربي، وتكريس قيمه، والتعبير عن تطلعاته وطموحاته. واستناداً على هذا الطرح يأتي المؤتمر
تحت شعار "الموسيقى والمجتمع في العالم العربي". ولعل هذا الطرح في مجمله يلفت انتباهنا
إلى حاجتنا الماسة إلى ابتدار "تأسي ٍ س مفاهيمي" ل ضلع ّ ي هذا الشعار (الموسيقى والمجتمع)،
من الأمر الذي قد يُولّد العديد من الأسئلة التي عادة ما يتم التغاضي عنها، قبيل ما الموسيقى؟
بمعنى أي موسيقى -عادةً ما نقصد- في مثل هذه الحالة؟ وبشكٍ ل تلقائي يتبع هذا السؤا َ ل سؤالا
آخر عن المجتمع نفسه؛ فهل نتحدث هنا عن مجتمٍ ع – سواَ ء كان ذلك على المستوى
المحلي أو القومي - ؟ مجتمع ذو وعي ووجداٍ ن مشترك، وبالتالي ذو تطلعات وطموحات متسقة
مع بعضها البعض؟ وهي أسئلة ربما تم التجاوز عن طرحها على نحٍو حضاري يشمل نطاقاً
أوسع من مجرد محيطنا العربي، ويرجع في عمق الزمان إلى حق ٍ ب أسست لما تم ترسيخه من
قواعد لفلسفة وعلم الجمال، والنقد الفني والثقافي، ثم علم اجتماع الفنون. فالسؤال عن مفهوم
الموسيقى المطروح اعلاه؛ يمكننا أن نعود به ونطرحه على كانط وعلى هيجل، وشوبنهاور
وغيرهم من الفلاسفة، ونسائلهم عن أي موسيقى كانوا يتحدثون، وأي عالمٍ كانوا يعنون ابّان
حديثهم عن إرتقاء الموسيقى لدرجة الفلسفة بل وتجاوزها عند بعضهم، هل شمل هذا الحديث
الموسيقى الشعبية، بمختلف أنماطها؟ أم اقتصر على الموسيقى السمفونية؟ وبالتالي أكان العالم
المعن ّ ي لديهم هو عالم الوضع الاجتماعي الرفيع حيث لا عزاء لطبقات المجتمع الدنيا؟ أم أنه
ذات العالم الذي يضم كل الناس؟ ولعلنا ومن خلال هذا المنهج نستطيع أن نقف على نحٍو
موضوعي على تجارب الشباب الموسيقية في عالمنا العربي والكشف عن مدى اقترابها من تراثه
الموسيقي أو اغترابها عنه.

الموسيقى والمجتمع

جدليةٌ مركبة تلك التي تسم موضوعي الفن والمجتمع، بكل ضروبه ومن بينها الموسيقى،
ما
ًئما
دا تعّرض لتعريفا ٍ ت متباينة؛ منها ما يضع معايي ا رً ومواصفات لما هو فن، ويستبعد بناً ء
منه
ًبعضا
لك
على ذ باعتبار أنه وظيف ّ ي، أو ارتباط انتاجه بأغ ا ر ٍ ض أخرى غير أغ ا رض التذوق
الجمالي البحت، وهناك ما يتم استبعاده بدعوى عدم ارتقائه لدرجة يوصف معها بأنه فن، وعادة
ون
ما يتم ذلك نسبً ة لانتماء هذا النوع إلى طبقات المجتمع ما د الطبقة المخملية، وهنا يأتي
عنصر التركيب والتعقيد في الشق الثاني وهو المجتمع نفسه، إذ كثي اً ر ما يتم عزل طبقات
عريضة
المجتمع عن بعضها البعض؛ فيترتب على ذلك ضرٌ ب من الاستبعاد الثقافي لقطاعات
من ش ا رئح المجتمع، وبناً ء على ذلك فلا اعتبار لمشاعر هذه القطاعات المستبعدة أو خبراتها
وتجاربها، وهي بذلك لا تعدو أن تكون سوى كٍ م مهمل لا تنظر فيه عين الفحص والدراسة، والتي
يترتب على ما تجود به من نتائج تحديد ما هو فن؛ وما هو دون ذلك، ومن ثم وضع القواعد
لتذوقه والتفاعل معه. وتقف هذه الجدلية المعقدة عقبً ة كؤود أمام صدقية العديد من مناهج النقد
الفني، وبدرجٍة أقل تعقيداً أمام مناهج النقد الثقافي، لكن على عاتق سوسيولوجيا الفن يقع عبء
تفكيك هذا التركيب وتذليل تعقيداته المتداخلة. وأول ما ينبغي أن يبدأ به هذا التفكيك هو السؤال
عن من الذي بمقدوره تحديد المعايير، الأكاديمي/الناقد، أم المتذوق والمستهلك للنوع الفني؟ الأمر
الذي يقود بدوره إلى ضرورة مناقشة فكرة فرض الوصاية على الذوق العام، تلك الفكرة التي تعمُد
إلى تجاهل حقيقة عدم تجانس المجتمع، وتنوع الأذواق فيه تبعاً لأسباب اجتماعية موضوعية،
وتؤكد على أن نوعاً من الفن لا اختلاف على رفعته.
وعند البحث عن إجابا ٍ ت عن السؤال المتعلق بحق أيلولة ا ؛ فيمكننا الوقوف على بعض
الحقائق ومنها ما يورده ديفيد إنغليز فيما يلي: "من الواضح كل الوضوح أن بعض الناس
يمتلكون سلطة أكبر من غيرهم تجعل تعريفاتهم للجودة الفنية مقبولة من الآخرين، فأمناء
المتاحف الفنية لديهم الصلاحية لتحديد الأعمال الفنية التي توضع في العرض العام، وأيها يمكن
أن يعرض عرضاً خاصاً. وُ حكام المسابقات الفنية هُم من يملكون الحكم على الأعمال
شرعية أو غير شرعية، وبهذه الطريقة تُخلق أو تُدّ مر السمعة الفنية." 1والمتاحف هنا أو صالات العرض والمسارح وقاعات ومسابقات الأداء الموسيقي، وب ا رمج العروض الموسيقية حديثاً، كلها
لسلطة
تُمثل ذات الآلية التي يتم من خلالها الانتخاب وفقاً للمعايير الموضوعة من قبل أصحاب ا
الموصوفة عاليه. ولا يقف أمر صلاحيات اصحاب هذه السلطة عند مرحلة الاختيار للعرض
هيل
لتأ
والتقديم فحسب، بل يبدأ الأمر بخطوا ٍ ت استباقية لتلك المرحلة، وهي مرحلة الإعداد وا
لبلوغ مرحلة العرض والتقديم ومن ذلك ما يورده إنغليز - نقلاً عن وايت ووايت - عن سيطرة
الأكاديميات الفنية على الفن التشكيلي في أوربا منذ وقت مبكر من العصر الحديث، حيث كان
الأكاد بة القيمين الرسميين على الذوق ويمثلون المرجعيات الفنية، فقامت الأكاديميات
بناً ء على ذلك: "باحتكار تدريب الفنانين الشباب، فضلاً عن السيطرة على أي نوع من أنماط
الرسم كان مسموحاً به، واتخاذ ق ا ر ا رت بتحديد أي الفنانين يستحق أن يكون عظيماً أو لا
يستحق" ،2لكن وعلى الرغم من هذه السيطرة الممنهجة من قبل من يمتلكون "سلطة أكبر" في
تحديد اتجاهات الذوق الفني؛ فقد كانت للطرف الثاني – أي المجتمع - في هذه الجدلية كلمته،
فتلاشت هذه السلطة مع ظهور أنماط جديدة من عمليات الإنتاج والبيع خارج نطاق أسوار
الأكاديمية، وقد نتج ذلك عن أسباب عديدة تعلقت بالمجتمع وحركته، منها زيادة العرض بوصول
أعداد كبيرة من الرسامين إلى المدن الكبيرة؛ فكسروا بذلك حاجز المعرض التنافسي للأكاديمية،
كما ازداد الطلب على الأعمال الفنية من قبل الطبقة الوسطى ا
لوحات تعرض موضوعات تختلف عن ما كانت الأكاديمية تعتقد أنه أفضل الأنواع، وظهر بذلك
(تجار الفن) الذين لعبوا دو ا رً في تحرير ا ن وتشجيعهم على طرح أساليب فردية كنوع من
التمييز للفنان ولمن سيحصل على اللوحة كذلك، على عكس نظام الأكاديمية التي بدأت في
الاضمحلال .3وبرز بذلك عامٌ ل جديد وحاسٌم في تحديد مسا ا رت الحركة الفنية، وقد لخص
إنغليز ذلك بأن عوالم الفن "لا تتألف فقط من أنظمة الإنتاج وتوزيع الأعمال الفنية بل من كيفية
استهلاكها أيضاً" ،4وفي إطار كيفية الاستهلاك هذه تأتي حاجات المستهلك، وخلفيات تكوينه
التي تقف وراء تفضيلاته واختياراته من بين ما هو معروض امامه، ووراء رضائه واغتباطه
بالبعض، وانص ا رفه بل واستهجانه أحياناً لبع ٍ ض آخر، الأمر الذي يدفع علماء الاجتماع "للرفض

  • بشكٍ ل عام – فكرة أن (الفن العظيم) يمكن تمييزه من الوهلة الأولى، وأن كل الناس قادرون على رؤية الفن الجيد إذا أتيحت لهم الفرصة" 5ويستند هذا الرفض على اختلاف نوعيات الذوق
    لدى مجموعات الناس والتي تعيش بأساليب مختلفة، مما يجعل من وجود معايير للاتفاق على
    جودة فن معين أم ا رً صعباً. وقد قاد رفض هذه الفكرة إلى طرح سؤال: "لماذا وكيف تمتلك كل
    جماعة من المجموعات المختلفة من الناس تصو ا رً مختلفاً عما هو ُ مبهج جمالياً" الأمر الذي قاد
    ماكس فيبر لصياغة فكرة (الميول الانتقائية) ليفسر بها مشكلة "لماذا تميل مجموعات معينة من
    الناس؛ التي تشكلت بفعل عوامل حياتية معينة، إلى أنواع معينة من الُ منتج الثقافي ويعرضون
    عن أنواع أخرى". 6
    وكما نلاحظ هنا فليست هنالك إشارة لأي معايير للجودة أو وضع قيمة للُ منتج الفني بقدرما تم
    الاكتفاء بدراسة الدوافع الثقافية أو الاجتماعية وراء الاختيار، وهو ما تؤكد عليه في موضٍ ع آخر
    أنجيلا ماكروبي قائلً ة: "وليس من الضروري حتماً بالنسبة لمناقشتي لهذا الموضوع أن تكون هذه
    الأنواع الجديدة من الثقافة الجماهيرية من النوع الراقي المتجانس، ولكن من الأهم هنا أن يؤخذ
    العمل نفسه في الحسبان من حيث مصدره، والشخص الذي صنعه، وأي المجموعات ينطبق
    عليها، أي فحواه عموماً."7
    لم يقتصر الأمر فقط على الأكاديميين من الفنانين والنقاد الذين يضعون معايير الفنون ويعملون
    على إلزام المجتمع بها، بل يمتد ليصل إلى من وضعوا أسس الاستاطيقا وعلم الجمال من
    فلاسفة الحداثة، الذين يصفهم هوجو لايختنتريت قائلاً: "كان لهؤلاء الفلاسفة بأجمعهم ولع شديد
    بالموسيقى وعناية بأمرها، ولذا حرصوا على التأمل في أصلها وحقيقتها وغايتها وصلتها
    بالشعر" ،8فهل كانت الموسيقى المعنية في هذا السياق هي موسيقى الإنسان أياً كان قْدره؟ أم
    فترضوا
    كانوا يتناولون بالبحث والد ا رسة نوعاً محدداً من الموسيقى ا فيه سمة الرفعة والعلو؟ فإذا
    ما أخذنا كانط (1804 – 1724م) مثالاً، والذي توصف نظريته في الإستاطيقا كُدعامً ة قامت
    عليها الإستاطيقا الرومانتيكية في القرن الثامن عشر، بل إن ما تلاها من نظريات في الموسيقى
    لعظماء الفلاسفة مثل فاجنر وشوبنهاور قد كان - كما يرى لايختنتريت - حيث ارتكزت تلك النظرية على أن الموسيقى هي لغة المشاعر، "وأن موضوعها هو الفكرة الإستاطيقية
    لفكرة التي تُعد شيئاً مختلفاً عن الفكرة المعقولة، وتنبع ا الإستاطيقية من عواطف الروح
    الإنسانية" .9وإذا ما انتقلنا إلى شوبنهاور (1860 – 1788م) والذي دار بحثه في الموسيقى في
    مجمله – وفقاً لسعيد توفيق – حول السؤال: "ما علاقة الموسيقى بالنسبة للإرادة، وبالتالي بالنسبة
    للعالم؟ وهو يرى أنه وعلى مّر العصور لم ينجح أ في تفسير هذه العلاقة بين الموسيقى
    والعالم." .10إذاً واستناداً على هذه المقولات، فإذا ما عدنا إلى (عواطف الروح الإنسانية) عند
    كانط، أو (الإرادة والعالم) عند شوبنهاور، فهل تشمل عواطف الروح الإنسانية تلك عموم جنس
    الإنسان؟ وهل الإ ا ردة هي إ ا ردة البعض من البشر، الذين يستمعون للموسيقى السمفونية ا
    عناها شوبنهاور؟ وهل العالم هو ذاته الذي يعيش فيه هؤلاء الذين لم يتذوقوا هذا النوع من
    الموسيقى؟ هل يشتمل وصف كليهما وغيرهم من فلاسفة الحداثة للموسيقى على الأنماط الأخرى
    من موسيقى عصرهم مثل (الإستيل جالان، موسيقى البالاد، والأغنيات " )"Liederوغير ذلك
    من أساليب الموسيقى والغناء بما في ذلك الأوبرا نفسها؟ أم أن كل النظريات مبنية على
    الموسيقى السمفونية؟ وهل يمكننا أن نعود إلى العصور الوسطى لنطبق ذات النظرية على
    موسيقى التروبادور والتروفير أو المايسترزنجرز؟ أو هل يمكن لذات النظرية أن تتصالح مع
    موسيقى القرن العشرين بأساليبها المختلفة؟ إن لم يكن ا إذاً أن نُعيد
    النظر فيما اصطلحنا على تعريفه بالموسيقى، أو أن نكون أكثر دقة وتحديداً
    الموسيقى المقصود في تلك النظريات. كذلك الحال بالنسبة لحديثنا عن الإنسانية، والعالم،
    والمجتمع، فإما أن نتوافق على معن ً ى هو المتعارف عليه بالنسبة للإنسانية، أو أن نتفق على أن
    المقصود في هذه النظريات هو اصطلاح له دلالات محددة لا تشمل كل نوع الإنسان المعروف.
    لكن الحال لم يظل على ما هو عليه بالنسبة للجميع، فمع بروز تيارات ما بعد الحداثة تم
    الإلتفات إلى تحليل الحضارة الشعبية - وفقاً لأنجيلا ماكروبي - ، وذلك على عكس اتجاهات
    النقد البنيوية المتنوعة وا أنجيلا أنها تنغمس في "النظرة الفاحصة المتفردة لمتخصص في
    علم العلامات" وهي ترى أنها نظرة بطيئة وفاترة وتفتقر إلى القدرة "على صنع رابطة ملموسة بين أحوال الحياة العامة اليوم وممارسات التحليل الثقافي" ،11وهي تؤكد على اتباع البنيوية لتقاليد
    عت
    جديدة تتجاهل فيها بعضاً من أشكال العرض ومنها الموسيقى والرقص، الأمر الذي ا بره أندريا
    هوسين تفضيلاً بنيوياً للأعمال التي تنتمي للحداثة المتطرفة، ويؤكد على أن ذلك يعيد إنتاج
    لأقل
    التمييز بين ما يُعّرف بالفن ال ا رقي، وبين الفن الجماهيري الذي عادةً ما يوصف بالهابط وا
    جدية. ،12ويعلق هوسين على ذلك قائلاً: "إن الفن الشعبي بمفهوم أوسع هو المضمون الذي أخذ
    ًمغزى من خلاله ما بعد الحداثة شكله منذ البداية . . وقد تحّدت أكثر الاتجاهات من خلال ما
    بعد الحداثة عداء الحداثة الذي لا يهدأ لثقافة الجماهير" وترى أنجيلا ماكروبي "أن نظريات الفن
    الراقي لم تكن ببساطة مؤهلة للتعامل مع الفن الجماهيري بطبقاته المتعددة".13
    إذاً؛ وحتى لا نقع في أيٍ من فخاخ فكرة الفن العظيم، أو الإستبعاد الثقافي، أو نظريات الفن
    الراقي الموصومة بعدم الأهلية في تعاملها مع الفن الجماهيري، وحتى نكون أقرب للموضوعية
    حتى في ُ حكمنا على فنون موسيقى وغناء الشباب، فلنقترب أكثر من فكرة الميول الإنتقائية،
    نستطيع أن نقف على أسباب ميل فئة الشباب للتيارات الغربية الوافدة؛ وذلك من خلال دراسة
    العوامل والظروف التي عاشوا ونشأوا فيها. وقبل أن نسارع لإصدار أحكامٍ قيمية على إنتاج هذا
    الشباب، أن نضع في الحسبان حاجات هذه الفئة ومن تستهدفه بإنتاجها الموسيقي هذا

الشباب واستمرارية إعادة بناء الشكل الموسيقي

في دراسة مستفيضة حول قضية الشكل والمضمون في الفن، يبدأ ارنست فيشر بدراسة نفس القضية القضية على الطبيعة والشكل الذي يتخذه الكائن الطبيعي، وعن سعي المادة لاتخاذ شكلها
تكونها النهائي، ويتناول في هذا الصدد البلّوا رت ويناقش كيفيات على نحو رياضي وفيزيائي،
بل حتى إن البعض يرى أنها تتشكل لأسباب ميتافيزيقية غير مادية، وأن احتوائها على الذ ا رت
يأتي كمجرد احتمال لا كواقٍ ع فيزيائي. ويخلص من خلال هذه الدراسة إلى أن: "ما نسميه شكلاً
غير إنما هو تجميع للمادة بصورٍة معينة، ترتيب معين لها، حالة نسبية من حالات استق ا ررها."
أن المضمون يتغير بلا انقطاع، بهدوٍء وبطٍء أحياناً، وبقوٍة وعنف أحياناً أخرى." 14وكنتيجة لهذا التباين ما بين حالة الاستق ا رر بالنسبة للشكل، وحالة التغير بالنسبة للمضمون؛ يتوالى تجدد
من
نوع
الأشكال، فمع كل اصطداٍ م للمضمون بالشكل وتفجيره له وتكوين شكل جديد، يحدث
الاستق ا رر المؤقت، تليه ثورة أخرى من قبل المضمون تفرض على الشكل ضرباً من التغيير.15
ولعلنا لا نجانب الصواب إذا ما حاولنا أن نسقط نتيجة هذه الدراسة على فن الموسيقى وما
من
ًنوعا
لموسيقي
يتسم به من تنوٍ ع مستمر وغير محدود، فبقدرما يتخذ شكٌ ل من أشكال الأداء ا
عنه
التميز ويبلغ درجة من الإنتشار؛ إلا أنه لا يجد مناصاً من التزحزح عن موقعه والتنازل
لشكٍ ل جديد، واضعين في الاعتبار كل السياقات الاجتماعية والثقافية التي من الممكن أن تقف
ختر
و ا رء ظهور هذا الشكل الجديد، الأمر الذي يعني بدوره تخلُ ّ ق مضامين جديدة أدت إلى ا اق
وفي
نفسها
لموسيقية
ما كان سائداً من أشكال، وعلى هذا النحو ظلت عملية تطور الفنون ا
مختلف المراحل والعصور مرهونً ة بحقيقة التغير المستمر من شكل لآخر، ولعل فئة الشباب
في كل المجتمعات هي الُ مبا درة لتسجيل هذه الاختراقات، والتمرد على الصيغ والأشكال
لك
السائدة، سواَ ء كان ذ لعدم إشباع ذلك المألوف لحاجاتهم، أو كان لدوافع ذاتية لارتياد آفا ٍ ق
جديدة، واكتشاف أفكار غير مطروقة، أو كان نتاجاً لتأثٍر بفكرة جاذبة من ثقافة أخرى، وفي
كل الأحوال فهي سع ُ ي الفنان لتحقيق ذاته وبحثه عن بصمٍة جديدة تميزه في فضاء ما هو
مطروح حوله، وهذا السعي والبحث هو ما يدعوه شيلر (الفاعلية) والتي يعتبرها أم ا رً أ
لتحقق لذة الفن لدى الإنسان وهو يُ ل ذلك بقوله: "فممارسة اللعب أو التأليف الجمالي إنما
تحقق تحرير المرء من واقع الأشياء الذي تشكله الأشياء لذاتها بذاتها، في ظل قوانين الضرورة
الطبيعية، ثم يستفيد المرء من هذا التحرر بأن يباشر فاعليته الذاتية في أن يصنع للأشياء من
خلال (الصورة) أو (الشكل) واقعاً جديداً هو الواقع الفني، ويكون إد ا رك المرء لفاعليته في هذا
(الخلق) الجديد مبعثاً لسروره وغبطته" ،16ويؤكد على ان اللذة تتحقق للذات "من خلال ما
تعكسه على الأشياء من فاعلية وخلق وإعادة تشكيل" ،17إذاً فتحدي إعادة الخلق ماثٌ ل أمام
الفنان دائماً، وتتفاعل فيه إ ا ردة الفنان ومعطياته مع ما هو متاح حوله من بيئٍة معرفية وثقافية،
مع ضرورة أن نضع في الاعتبار شركاء الفنان في تلقي إبداعه وتذوقه، وحرصه على تحقيق التوازن بين رغباته وتقديم أفكاره، وبين إمكانيات استيعاب ق دم والتفاعل معه، ولعل هذا ما
عبر عنه ارنست فيشر قائلاً: "إن التاريخ الاجتماعي للفن يؤكد أن الأشكال الفنية ليست مجرد
أشكال نابعة من الوعي الفردي – يحددها السمع أو البصر- وإنما هي أيضاً تعبير عن نظرة
إلى العالم يحددها المجتمع." ،18وبذلك تصبح حرية الفنان نفسه مرهونة بارادة المجتمع وعليها
تتوقف نوعية ما يريد الفنان أن يودعه بين ظهراني هذا المجتمع، وفي هذا الصدد يستدرك
فيشر ويورُد التالي: "وينبغي لنا أن نضيف أنه حتى أشكال الخبرة الفردية التي (يحددها السمع
والبصر) لا تتجمع بصورٍة مستقلٍة عن التطو ا رت الاجتماعية، فالطرق الجديدة لرؤية الأشياء أو
عية
لاجتما
الاستماع إليها ليست مجرد نتيجة لإرهاف الحواس، وإنما هي أيضاً نتيجة للحقائق ا
الجديدة." ،19ولعل في هذا إشارة لضرورة ضمان أن تكون هناك حاضنة متوقعة لتلقي وتذوق
العمل والتفاعل معه، وهي بلا شك في حالة فئة الشباب دائماً ما تتمثل في ما يجمع بينهم من
به
متشا
ٍنحو
على
لفئة
مشتركات فكرية وثقافية، إذ ليس من العسير ملاحظة تشُّكل ذوق هذه ا
فيما يُعرف بحالة (المودة) على مستوى الأزياء وطريقة التعامل معها، وقصات الشعر،
وُ ملحقات الزينة المختلفة من ساعات يد أو نظا ا رت وحقائب وقّداحات، وما يفضلون من
موسيقى وغناء، ويمكننا تتبع ذلك على مر الحقب، وإن عدنا على مدى نصف القرن الماضي،
فيمكننا أن نرصد حركة الشباب (الهيبي) والتي تميزت باساليب معينة لتفصيل الأزياء واختيار
الوانها بالنسبة للجنسين، وأسلوب إطلاق الشعر أو عدم تصفيفه، وانواع الأحذية ذات الكعب
شرقه العالي، إلى غير ذلك من المظاهر التي اتخذت مسحً ة عالمية، حيث سادت أرجاء العالم
وغربه، واخترقت كل حدود الخصوصة الثقافية لكل المجتمعات، واصطحبت معها الموسيقى
لمجموع وأساليب أداءها، و ُ طرق تكوين ا ات الموسيقية المؤدية لها، وكان أن تم التوليف ما بين
القالب أو الشكل وبعض الخصائص الثقافية، مثل اللغة التي حتمت أن يتم الغناء بها، على
الرغم من استخدام الآلات الجديدة واستعارة طريقة الأداء من ثقافة أخرى، فظهرت في مطلع
لعشرين سبعينات القرن ا في العالم العربي مجموعات موسيقية غنائية حملت طابعاً جديداً مثل
(ناس الغيوان) و(جيل جيلالة) في المغرب، والتي حرصت على إبراز الموسيقى التراثية
المغربية، فمزجت ما بين خصائص موسيقاها الشعبية من حيث اللغة وخصائص اللحن والإيقاع واسلوب الأداء، والآلات الشعبية مثل الآلة الوترية (البندير) وأضافت إليها (البانجو)
الغربية، ومزجت بين أسلوب الغناء الشعبي، وتقنيات توظيف الصوت البشري وإب ا رز ألوانه
ًنا
حيا
وطبقاته على نحو هارموني أ ،20فحققت نجاحاً مشهوداً على المستويين المحلي والإقليمي
في عالمنا العربي، وعلى مستوً ى عالمي أيضا. ولم تكن تلك المجموعات نتاج مشاريع
بل
لمؤسسا ٍ ت ثقافية، أو بريادة من كبار الموسيقيين، ظهرت كمباد ا ر ٍ ت من قبل الشباب، حيث
معينة
قاموا بتجميع المادة الت ا رثية (بصورٍة ) و(ترتيب معين) فأوجدوا هذه (الحالة النسبية) من
حالات استقرارها، وكان هذا الشكل، وهو بدوره ومع هذه النسبية قابل لإعادة التشُ ك ل بصفة
مستمرة. ولنا في تاريخ موسيقانا العربية الحديثة وتطورها أُسوة، حيث كان الشباب دوماً هو
لمشروعه
سس
المبادر للتجديد، لكننا ربما كنا ننسى أن محمد عبد الوهاب كان شاباً عندما أ
ّولنط
الذي صار من الأعمدة الأساسية للموسيقى العربية الحديثة، لع على وصف كمال النجمي
له حيث يقول: "كان عبد الوهاب صوتاً جديداً في معدنه وتكوينه الفني، وكان ملحناً جديداً في
اسلوبه وإن استمد في بداية أمره شيئاً غير قليل من سيد درويش والشيخ علي محمود والملحنين
الأوربيين" ،21وهنا تظهر أهمية خلفيات تطور الفنان، ومراحل تكّونه، التي تختلط فيها درجة
وعيه بما يريد مع معطيات عصره. وإذا ما كانت الأدوات هي التي جعلت من الإنسان إنسانا،
وفقاً لفيشر الذي يقول: " فقد كان الإنسان يصنع نفسه ويشكلها إذ يصنع أدواته ويشكلها."22
فهذا هو ذات حال الفنان الذي يصنع تميزه من خلال تشكيله لأدواته متمثلة في وسائطه
لمعين التعبيرية، من كلما ٍ ت وأنغام وصيغٍة وآلات وغير ذلك من مستجدات ومعطيات العصر ا
والتطور التكنولوجي فيه، وتمثل الاستمرارية في إعادة تشكيل الفنان لأدواته المجال الطبيعي
لصقل تجربته، ويؤكد فيشر على ذلك قائلاً عن الإنسان: "كلما تكررت تجاربه، وتأكدت
خصائصه الجديدة في ذهنه، ا زدت لغته رسوخاً وطلاقة، وكلما أوغل في التمييز والتصنيف،
ا زدت لغته ترتيباً ونظاما." 23وفيما يتعلق بحتمية تغير أشكال الأدوات يذكر فيشر أنه: "إذا
أمكن صنع عدد محدود من الأدوات النموذجية؛ فعندئٍذ يمكن بل ويجب أن يوضع لكل منها
رمز خاص أو اسم، وعندما يقلد الناس إحدى الأدوات النموذجية مرارا وتكرارا يحدث شئ جديد تماماً" ،24وباسقاط هذه المقولة على الموسيقى فيمكننا اعتبار أن (الأدوات النموذجية) المعنية
هي القوالب مثلاً، وأن (الرمز الخاص) المعني من الممكن أن يكون الدور، و(الاسم) طقطوقة،
والتي نتجت عن تك ا ر ا رتها على مّر العقود صيغ وأشكال جديدة تماماً، ولنحاول في هذا السياق
مصر
في
وجي
أن ننظر تجربة محمد الُ م مثالاً، ما بين (صافيني مّرة) في مطلع الخمسينات،
و(قارئة الفنجان) في منتصف السبعينات من القرن العشرين، أو تجربة محمد وردي في
السودان ما بين (ال ُ حب والورود) في نهاية الخمسينات، و(وتر مشدود) في مطلع الثمانينات.
ورصد تجربة أي فناٍ ن غير هؤلاء عبر عقوٍد من تجريبه الفني، ومسيرة بناء وتكوين شخصيته،
لأمثلة
لا شك أنها ستعطينا مزيداً من ا على إستمرارية إعادة بناء الشكل الموسيقي، ولعل هذا
هو ما لخ ّ صه فيشر قائلاً: "أن كل فن هو وليد عصره، وهو يمثل الإنسانية بقدر ما يتلائم مع
لفن
الأفكار السائدة في وضٍ ع تاريخي محدد، ومع مطامح هذا الوضع ومع حاجاته وآماله، وا
يمضي إلى أبعد من هذا المدى، فهو يجعل من اللحظة التاريخية المحددة لحظة من لحظات
الإنسانية، لحظة تفتح الأمل نحو تطوٍر متصل." 25ولعل تلك اللحظة من لحظات الإنسانية
هي ذاتها المعنية عند شيلر الذي يقول: "ولما كان الخيال رؤيً ة استباقية، فإنه بذلك يتجاوز
دائرة اللحظة الراهنة، فيفتح إدراك المرء على مصدر جديد للسعادة قائم في التحرر من الزمن
دون إلغاء له، فالمرء يتجاوز دائرة اللحظة، ولكن دون تجاوز للزمن" 26وذات هذه الرؤية
الاستباقية هي ما عبر عنه أ – نقلاً عن فيشر - بقوله: "لا تكون للعمل الفني
لمس قيمة إلا إذا كانت تجري في أنحائه خيوط من ا تقبل. لكن هناك إلى جانب قدرة الطليعة
على التنبؤ بحاجات المستقبل، حاجة راهنة لاستعادة الأرض المفقودة." 27ولعل بريتون قد أكد
بذلك على ضرورة خلق التوازن بين التطلعات والرؤى المستقبلية وأصول وثوابت الت ا رث التي لا
بد منها للحفاظ على هُوية الشكل الجديد وهُوية ُ من تجه. هذا مع الوضع في الاعتبار ضرورة
الوعي بطبيعة العصر الذي نعيش فيه الآن، وهو ما تصوره ماري كلير قائلً ة "نستطيع أن
نتحدث اليوم عن نظرة جديدة يشجعها تطور المرَّكبات الاجتماعية وا في عالم أصبح
فيه الاستعمار اقتصادياً أكثر منه ثقافياً، كما أن هذه النظرة تُشجعها أيضاً تغي ا رت شروط توزيع واستقبال العمل، سواَ ء كانت هذه الشروط جغ ا رفية أو تقنية، لأن هذه التغي ا رت قد أدت إ
الاتساع غير المحدود تقريباً لمساحة الإستماع." 28وهذا هو واقع الحال، فعلى المستوى
الاقتصادي نجد أن التطور التكنولوجي للآلات الموسيقية ووسائط التسجيل وتقنياته؛ صارت
ما
تتحكم بقدٍر كبير في شكل الُ منتج الموسيقي، أ مساحة الإستماع فقد أضحت غير محدودة
وميسورة ومن كل الإتجاهات، فلا نتوقع مع ذلك ألا تكون لطبيعة العصر هذي تأثي ا رتها على
ُ منتجنا الثقافي وبخاصة عند الشباب الذين هم الأكثر توافقاً مع شروط التوزيع والاستقبال
والتقنية الجديدة، لكننا لا نستطيع أن نجزم بأنه عندما يتأثر هذا الشباب بشكٍ ل أو أسلو ٍ ب
موسيقي جديد يكون فقط في حالة من السلبية التي فرضت عليه الخضوع أمام هذا الشكل، إذ
لا بد من أن الكثير من العمليات الذهنية قد جرت في عقل هذا الشاب الذي تأثر بأسلوب غناء
بموسيقى
لك
ال ا رب مثلاً، بذات القدر الذي دارت به هذه العمليات في أذهان من تأثروا قبل ذ
مبا
لسا
الجاز وإيقاعات الُرمبا وا ، وأدخلوها على موسيقاهم وأغنياتهم العربية، وترى جيزيل بروليه
ًما
تما
ثه
ترا
عن
ينفصل
أن أي أسلوب جديد لا ، قائلً ة: "أياً كان الجانب الثوري الظاهري من أي
مطلقة
موسيقى، فإنه يرتبط دائماً في نهاية الأمر بت ا ر ٍ ث معين، فلا وجود لثوا رت ، والثورة الفّ عالة
التي تبتغي التأثير على المجرى التاريخي للفن الموسيقي، ينبغي عليها أن تستوعب هذا التراث
أولاً."29
علينا إذاً أن نطمئن على قدرة التراث العالية في الحفاظ على نفسه، وأن ننتبه إلى حقيقة أن
الت ا رث نفسه متطوٌر ومتجدد، فالأساليب التي كانت تعتبر جديدة في عقوٍد مضت، صارت الآن
جزءاً من الت ا رث. كما قد يتبادر إلى الأذهان أيضاً أن الت ا رث يجب أن يكون محصناً من
تأثيرات الثقافات الأخرى، وهو ما ينفيه محمد الجوهري بقوله: "فحقيقة التراث عبارة عن
ت ا ركمات ترجع إلى عصور ماضية بعضها موغل في ال قدم، ولا نستطيع أن نقيم ا
لمعين حدوده بدقة. أيضاً يوضح الدليل التاريخي تأثير الثقافات الأجنبية على المجتمع ا
والمعني بالد ا رسة، إذ أنه ليس هناك شعب واحد ابتدع كيانه الثقافي برمته من داخله أو دون تعامل مع الثقافات الأخرى" 30ويؤكد على ذات الفكرة حسين مرّوه بقوله: "لقد جلى لنا التفكير
الإنساني بأن التاريخ البشري لا يعرف البتة أُمً ة أو شعباً كان له نوع من الوجود الحضاري ولم
يأخذ من كل حضارٍة سبقته أو عاصرته" 31واستناداً على هذه الآ ا رء العلمية عن قوة العناصر
المكونة للتراث ومرونتها في التبادل الثقافي، يمكننا أن نطمئن إلى ما يقدمه الشباب من رؤً ى
جديدة وأن نكون بذات القدر من الج أ رة على تلقيه وتفهم ظروف إنتاجه ومنتجيه، ولا بأس من
أن نضع اعتبا ا رً للقاعدة الذهبية التي خطها كمال النجمي عند عرضه لمشكلة مقلدي الموسيقى
الأوربية قائلاً: "ومشكلة مقلدي الموسيقى الأوربية في الوطن العربي كله هي عجزهم عن
التأليف بغير الأساليب والأشكال والمفاهيم الأوربية في الموسيقى، لأنهم تعلموا هذه الموسيقى
مدرسياً وفاتهم أن يتعلموا الموسيقى العربية، بل فاتهم أن يتذوقوها بلا تعاٍ ل يها ولا زراية
بها" 32وأن نعمل بموجبها على محاولة تذوق ما يسجله الشباب من خرو ٍ ق على مستوى
المألوف موسيقياً، وأن نتجنب التعالي عليه، وأن نتذكر أنه سيظل مجرد جزء من كل ثقافتنا
الموسيقية، فإن كانت له الجدارة أسهم وتطور مع الكل، أما إن كان غريباً تماماً وغير جدير
بالبقاء فليس هنالك ما يدعم بقائه فيما اطلعنا عليه من نظريات عاليه. وبالنسبة للشق الثاني
في معادلة الدفع والتلّقي وبالنظر إ المجتمع العربي فلنا أن نثق في مقولة كمال النجمي
بأن: "لكل شعب طبيعة ووجدان صنعتهما عوامل تاريخية ينفرد بها، ولا أحد يستطيع أن
يفرض عليه طبيعة ووجداناً من خارج ذاته، ولا يمكن إلغاء الذوق الفني لشع ٍ ب من الشعوب
فجأة واقناعه بأن يتكلف ذوقاً آخر يستعيره على علاته من هنا أو هناك" 33وأن نثق أكثر في
لعربي وصفه للذوق ا بأنه "من أكثر أذواق الشعوب مرونً ة وتقبلاً للجديد والمستحسن من كل ما
يرد عليه من أنحاء العالم بلا استثناء"3

ثورات الربيع العربي

لعل السمة البارزة لهذا العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين هي إنتفاضات وثوا رت عدد
شعوب الدول العربية على أنظمة الحكم الشمولية والتي اص ُ طل ح على تسميتها بثورات الربيع العربي، أملاً في استش ا رف مستقبٍ ل مزهر يعقب خريف وشتاء تلك الأنظمة التي لم تحقق لهذه
الشعوب أدنى حد من طموحاتها في العيش الكريم، وقعدت بها عن مواكبة ركب الحضارة
الإنسانية والدول المتقدمة التي تهدف إلى تحقيق الرفاه الإجتماعي لمواطنيها، حتى يمكنها أن
تضمن تحقيق السلم الإجتماعي، ومن ثم التطور على مستويات التكنولوجيا والاقتصاد، الأمر
لعلمي
الذي نجحت في تحقيقه وقفزت بواسطته نحو آفا ٍ ق بعيدة من التميز ا ؛ فأسعفت الإنسان في
عل
لك
كافة أرجاء العالم بما يحتاج، سواَ ء كان ذ ى مستوى العلوم الطبيعية والتجريبية، أو على
لك
مستوى الإنسانيات والعلوم الاجتماعية، بل حتى على مستوى الفعل الثقافي، في مقابل ذ
لتطور
قعدت دول العالم الثالث ومنها دول المجتمع العربي دون أن تتمكن من مواكبة ذلك ا
والتقدم، فاصبحت هي السوق الأرحب لمنتجات العالم المتقدم، لا في مجالات الصناعة المادية
والتكنولوجيا فحسب، بل على مستوى الصناعات الفكرية والإبداعية، حيث أضحت دول العالم
ّلمصد
الأول في الغرب والشرق هي ا ر لكافة أسباب الإنتاج الثقافي لإنسان المجتمعات العربية.
لفكري
ولم يقتصر الأمر على الوسائط المادية للإنتاج ا والثقافي من طباعٍة، واجهزة وتقنيات
للتسجيل والبث، وكل متعلقات أجهزة الحاسوب التي أصبحت تمثل العنصر الأساسي في كل
هذه العمليات، بل تعداه إلى استجلاب حتى المحتوى الثقافي لتلك المجتمعات. لكن من إيجابيات
لشعو
التعّرف على جوانب الحياة الاجتماعية والثقافية لتلك ا ب، أن قارن أبناء مجتمعات الوطن
العربي على مّر الحقب بين ما يشاهدون ويسمعون عن رفاه الحياة والحرية في تلك المجتمعات،
وبين ما يعيشون من قهٍر وفقر وت ا رجع حضاري، حتى لم يعد لهم من ال ُ حلم إلا أن يتغنوا بأمجاد
الماضي، وأفضال حضارة العرب على علوم وتكنولوجيا دول العالم الأول. وكنتيجٍة طبيعية
للت ا ركم العلمي والتسارع في مؤش ا رت حركته؛ فقد كانت العقود الثلاثة الأخيرة من القرن ا
زماناً للتطور العلمي المضطرد، والمتصل بشكل مباشر بحياة الإنسان اليومية، فكانت ثورات
المعلومات والإتصالات، والتي ا زد اضط ا رد العقدين الأولين من هذا القرن؛
سهل حيث ظهرت وسائط التواصل الاجتماعي، والتي خلقت بدورها واقعاً افت ا رضياً جديداً،
من نقل المعارف وتبادل المعلومات في الواقع المعيش، فعملت بذلك وفي جانب كبير منها على
رفع درجة وعي إنسان هذه المجتمعات، على الرغم من مفارقة تدني مستويات التعليم النظامي
في كافة م ا رحله مقارناً بعهوٍد سابقة له في الوطن العربي، وهي مفارقةٌ ناتجة من أن هذا الزمان
الذي اضطردت فيه سرعة الإنجازات العلمية والتكنولوجيا، هو ذاته زمان سطوة الأنظمة القمعية والشمولية التي قعدت بمجتمعاتها عن مواكبة مفاهيم الديمقراطية والحرية والرفاه الاجتماعي، بل
جعلتها تقاسي القهر الاجتماعي واستلاب الإرادة، لكنها لم تتمكن من حجب التطور التكنولوجي
عنها أو عزلها عن ارتياد عوالمه والتعامل معها، وربما عاد هذا العجز إلى عدم القدرة على
إج ا رء هذا العزل لعوامل إقتصادية وتسويقية متعلقة بالجهات المنتجة والمصّدرة لتلك التكنولوجيا،
الأنظمة أو ربما كان عائداً لغفلة هذه ا دم وعيها وإدراكها لخطورة هذه الطفرة عليها، أو ربما
عاد للسببين معاً. ثار الشعب التونسي إثر ش ا ررة أطلقها شا ٌ ب بإشعال النار في نفسه احتجاجاً
على سوء الحال الإداري لنظاٍ م حكم لأكثر من عقدين، وأعقبه الشعب المصري ثائ ا رً على نظاٍ م
جسم على صدره لثلاثة عقود، ثم الشعب الليبي وكانت ثورته على نظاٍ م عّ مر لأربعة عقوٍد تامة،
وتوالت الثورات في سوريا واليمن، وانتهت حتى الآن بثورتي الشعب السوداني الذي نجح في
إسقاط نظامٍ تحكم في مقّد ا رته لثلاثة عقوٍد كاملة، وثورة الشعب الج ا زئري الذي انتفض على
فوضى نظام وزعيم أوحد لعقدين من الزمان. وبغض النظر عن مدى نجاح أي من هذه الثورات
أو فشلها، إلا أنها قد عبرت جميعها عن نوع من الإرادة الجديدة لدى هذه الشعوب، وهي ثورات
تواجهها العديد من العقبات التي تعمل على إعاقتها عن تحقيق مبتغاها في الحرية والديمقراطية
في أيٍ من هذه البلدان

الثورة السودانية، ديسمبر 2018م

في هذه السياقات السياسية، الاقتصادية والاجتماعية، أتت ثورة الشعب السوداني والتي انطلقت
بتاريخ التاسع عشر من شهر ديسمبر للعام 2018م، وظلت مستمرةً حتى إسقاط النظام
بريل
الإسلاموي في الحادي عشر من أ 2019م، ولم ينته الأمر عند هذا الحد، بل ظلت مستمرة
بغرض تحقيق هدفها المتمثل في تشكيل حكومة مدنية وتجاوز عهود الحكم العسكري الذي عانى
منه السودان على مدى إثنين وخمسين عاماً من عمر إستقلاله الوطني الذي لم يزد عن تلك
الفترة بأكثر من عشر سنوات. وكانت إنطلاقة هذه الثورة بمثابة إنفجاٍر لبركاٍ ن ظل يغلي على
مدى العقود الثلاثة التي حكم فيها أقطاب الإسلام السياسي بقبضٍة حديدية إثر انقلا ٍ ب عسكري
بتاريخ الثلاثين من يونيو من العام 1989م، فكان رفض الشعب المستمر والمتواص لقمع هذا
النظام الذي لم يتورع عن القتل والسلب والنهب وجرائم الإبادة التي شهد على بشاعتها العالم
بأسره، وقد تنوعت أشكال وأساليب الرفض التي مارسها الشعب السوداني طوال هذه العقود الثلاثة بين المقاومة المسلحة ومقاومة التعبئة الشعبية، وطالت يد النظام القابضة كل مقاومٍ
بالبطش والتنكيل والتعذيب والقتل، والفصل من العمل، وأتى على ذلك و ا زده سوءاً الفساد الإداري
والاقتصادي الذي أثقل كاهل المواطن بأعباء لحقت بمعاشه اليومي وبمطلوبات حياته اليومية
من علاج وسكن وتعليم وأي شروط للحياة الكريمة، في الوقت الذي ُ جيرت فيه كل الموارد
للبترول الاقتصاد ، وتهريب للمعادن، وتدميٍر للبنى التحتية للمشاريع الز ا رعية
لم والصناعية لصالح الفئة الموالية للنظام الإسلاموي وا عضدة له طيلة هذه العقود الثلاثة، فولّد
كل ذلك حالة الرفض المتفاقمة على مّر هذه العقود

الشباب وبنية الوعي الإجتماعي

عْرفت ثورة ديسمبر في السودان باسم ثورة ا ب، وُ عّ رفت بأنها ثورة (وعي) وثورة (مفاهيم،) فقد
أوقدت شرارتها فئة الشباب من الجنسين، والتي أبدت روحاً بطولية وشجاعة واستبسالاً لم تكن
في حسبان أجيال آبائهم وأسلافهم الأكبر سناً، تلك الأجيال التي كانت تنظر لهذه الفئة الناشئة
بانها محدودة القدرات، سطحية الطموح، ويُستد ُ ل على هذا الموقف السلبي منها بالمظهر الغالب
لمية
لعا
على هذه الفئة من حيث الأزياء التي لم تعد تلتزم كثي ا رً بتقليدية الأزياء المحلية، بل حتى ا
مثل البنطال والقمصان العادية، إلى جانب أشكال وتكوينات الشعر – ولا نستطيع أن نصفها
بأنها ق ّ صات - الغير مألوفة في المجتمع السوداني، هذا إلى جانب مشكلات العصر الراهن
والتي اتخذت طابعاً كونياً متمثلاً في الاهتمام الكبير والأساسي في حياة هؤلاء الشباب بأجهزة
الهواتف المحمولة وما تحتويه، في مقابل تراجع مكانة الكتاب والقراءة، والتي كانت هي المصدر
الأساسي في بناء وتكوين الشخصية بالنسبة لتلك الأجيال السابقة، إلى جانب اهتماماتهم الفكرية
والثقافية التي اختلفت تمماماً عما كان سائداً، ومن ذلك الثقافة الموسيقية التي انفتح فيها أفق هذه
الأجيال الناشئة على الموسيقى العالمية وتقنيات إعدادها الجديدة بشكٍ ل أوسع مما كان في
ماضي الأجيال الأولى، ودون تأكيدهم الإلتزام التام بالثقافة المحلية. لكن كانت مفاجأة هذه الفئة
لبقية مكونات المجتمع السوداني بما أظهرته من وعي وفهم عميق لواقع البؤس الذي فرضه
الإسلامويون على الحياة في السودان، ولم يقتصر دورهم هذا الواقع فقط، بل
عملوا على وضع الخطط لمجابهته، وكيفية إجراء تلك المجابهة التي كان من أول شروطها أن تكون سلميً ة في كل م ا رحلها، وألا تستجيب لأي سلوك قد يدفعها لترك مبدأ ا ، الأمر الذي
أدى إلى تقدير قدرات هذه الفئة والااعتراف بها والتواضع أمامها.
لم تأت الثورة السودانية على غرار ما يعرف بثورات الجياع، ولم تخرج جماهير الشعب السوداني
إلى شوارع كل مدنه 35لأسبا ٍ ب اقتصادية بحتة، بل كان السبب الاقتصادي بمثابة القشة التي
قصمت ظهر بعير حكم النظام الإسلاموي في السودان، فقد نمى الوعي ا قد تم
اهداره من مقّد ا ر ٍ ت اقتصادية، وما تم طمسه من قيم اجتماعية، فكانت غاية الثورة التأسيس
لمفاهيم جديدة فيما يتعلق بحقوق المواطنة والحريات وإرساء أركان الدولة المدنية،
على ذلك إجراء الإصلاح على المستويات الاجتماعية والاقتصادية فكان شعار الثورة الأساسي
(حرية سلام وعدالة، والثورة خيار الشعب) ُ مل خصاً لكل مطلوبات الثورة متمثلة في الحرية التي
كبتها النظام طوال عقود حكمه، والسلام بمعناه الاجتماعي الذي أضاعته
التفرقة الاجتماعية والتي اتخذت طابعاً عنصرياً، نتجت عنه حروٌ ب واجهت فيها ا
بجيشها ومليشياتها المواطنين الُ عزل في إقليم دارفور وغيره من مناطق السودان في كل اتجاهاته،
وانفصل خلالها جنوب السودان إلى دولة مستقلة بذاتها، وترتب على هذا الوضع الاجتماعي
المهزوز فقداٌ ن للعدالة بكل مستوياتها الاجتماعية والقانونية، وعلى مستوى نُظم العمل والإنتاج
والادارة، وبذلك لم يكن هنالك خيار آخر أمام الشعب سوى الثورة، التي رددت هذا الشعار في
كل مراحلها وما زالت

بنية الفعل الإبداعي وإشعال جذوة الثورة

لم يكن الإبداع والفعل الثقافي ببعيد عن أدوات الثورة السودانية، ولم يكتف بالوقوف عند حدود
الرصد والتوثيق لها، بل لعب دواً ر أساسياً في تعبئة مشاعر الرفض والاحتجاج على مدى العقود
الثلاثة لنظام الإسلامويين، وفتح منافذ الوعي الاجتماعي مستخدماً كل الأدوات بدءاً من ال ُ طرفٍة
والنكتة، مرواً ر بالكاريكاتير، وتسجيل الخواطر والملاحظات والكتابة الأدبية الرصينة،36
والتحليلات المتخصصة في مجالات السياسة والاقتصاد، ومن خلال شعر المقاومة الذي سطرته نخبةٌ من أبرز الشع ا رء السودا ،37والذين لم يتوانوا أو يتهاونوا في رصد ّ زلات النظام
ومحاكمته أخلاقياً واجتماعياً. بذات القدر قّدم المطربون والموسيقيون 38إنتاجهم الغنائي الموازي
مع
كة
لشرا
با
لك
لحركة الرفض والإحتجاج المستمرة، وغالباً ما كان يتم ذ ذات الشعراء المعنيين
وغيرهم، فكانت استجابة المجتمع وتفاعله مع هذا الإنتاج على ذات الدرجة من الوعي
والمسئولية، وأصبحت هذه الأعمال الإبداعية وقوداً يُغذي مشاعر الثورة في نفوس السودانيين من
ها
يد
وترد
بها
لتغني
مختلف الفئات والأعمار، بل صارت أداةً تربوية نشأ وترعرع على سماعها وا
الأطفال والشباب، وبخاصة في العقد الأخير مع تطور تقنيات وسائل التواصل الاجتماعي،
وتمت صياغة العديد من شعارات الثورة من مقاطع من ذاك الأدب، ومنها الشعار الأساسي
حرية سلام وعدالة الذي تغنى به العديد من الشع ا رء لسنوا ٍ ت خلت.
لعبت وسائل التواصل الاجتماعي دورها الحاسم في انجاح الثورة؛ في مقابل سيطرة النظام على
أجهزة الثقافة والاعلام الرسمية للدولة، من إذاعة مسموعة ومرئية وصحافة، وافراغها من محتواها
ربة
ومحا
الحقيقي وتوظيفها توظيفاً سياسياً يخدم أهداف النظام، ويستبعد الفعل الإبداعي الطبيعي،
المراكز الثقافية ومنع الأنشطة والفعاليات الثقافية التي من شأنها رفع درجة الوعي الاجتماعي،
والحد من دور المؤسسات الأكاديمية المعنية بتدريس الفلسفة والفنون والموسيقى، ومحاولة صرف
إنتباه المجتمع عن واقع الحال المذري وتجاوا زت النظام، والايهام بخلق مجتمع إسلام ٍ ي فاضل،
لورع
لا من خلال تقديم قدوٍة حسنة وأمثلة حقيقية للزهد وا وأخلاق الدين الحنيف، بل من خلال
يني
لد
حالٍة من الهوس ا سلبت كل ذرة للفهم الابداعي كانت ترتجى من وسائل الاعلام، وكانت
البدائل بالتالي متوفرة في الفضائيات التي انصرف إليها المتلقي السوداني، وفي طفرة أدوات
وب ا رمج التواصل الاجتماعي والتي أصبحت متاحً ة وميسورة بشكل جماهيري،
الاعلام والثقافة الموجهة، وتواصل الناس من خلالها وتبادلوا الانتاج الفكري والابداعي المحظور
رسمياً، من تسجيلات صوتية، ومقاطع مصورة، إلى جانب النصوص الكتابية، فنمت وتطورت
بذلك بنية الوعي الاجتماعي، وانعقد ما يشبه المؤتمر الاسفيري المتواصل لتغذية هذه البنية واقتراح الحلول للخروج بالسودان من أزماته السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وكان أن تم
الاتفاق على حتمية الفعل الثوري، وتوا َ ص َ ل تطوير فكرته، الأمر الذي سخر منه النظام وقادته،
مستخفين بالدور الذي يمكن أن تلعبه وسائل التواصل الاجتماعي ومن أطلقوا عليهم مسميا ٍ ت
مثل (مناضلو لوحة المفاتيح،) معتمدين في موقفهم هذا على امتلاكهم للقوة المادية الباطشة وما
يوفرونه لها من أسلحٍة وكل أداة لازمة لقمع الجماهير، إلى جانب سيطرتهم على مفاصل الدولة
من اقتصاد وإعلام، وكانت المفارقة المفاجئة لأركان النظام أن نجحت وسائل التواصل
الاجتماعي في هزها بل وتقويضها، عبر ثورٍة انطلقت على مدى أربعة أشهٍر متصلة (ديسمبر –
لمعزول
أبريل) وصلتها بحصاٍر لقيادة الجيش السوداني ومركز النظام العسكري ا ، واعتصم الثوار
في محيطها على مدى شهرين آخرين؛ منادين بتكوين حكومة مدنية.39
لم يقتصر الفعل الثوري على الهتاف، وتسيير المواكب، وحرق اطا ا رت السيارات، وإقامة
المتاريس لإعاقة تقدم قوات أمن النظام، بل شّكل الإبداع بكل ضروبه والتفكير الإبداعي
للفعل لحقيقي الُ محرض والُ محرك ا الثوري، حيث ُ كتبت شعا ا رت الثورة على جد ا رن المنازل
والمرافق العامة، إلى جانب الإعلان عن مواقيت تحرك المواكب وبخاصة الدعوات لتسيير
المليونيات ،40إلى جانب رسوم (القرافيتي) وصورة العلم السوداني، ووجوه الشهداء. وعادة ما
كانت تبدأ المواكب تحركها في الزمان والمكان المتفق عليهما بعد انطلاق زغرودة من إحدى
(الكنداكات) .41من جهٍة ثانية تواصل العمل الإبداعي في الوسائط التكنولوجية عبر تبادل مقاطع
التسجيل الصوتي والمصّور، والصور والكاريكاتير، وعمليات المونتاج التي يتم ا
مقاطع من أفلام الكرتون والتسجيل الصوتي الجديد ا من
الحراك الثوري ،42هذا إلى جانب ترديد الشعا ا رت والهتافات المبني أصلاً على وحدة الإيقاع
لمتضم والقافية والجرس، وإلقاء بعض القصائد الثورية ذات الطابع الهتافي وا نة لشعارات الثورة43
وش ْ ح نها بمزيد من المعاني والمضامين وليدة اللحظة في كثير من الأحيان، أما الأ
تجاوزت كل شروط الوصف والتصنيف التقليدية من حيث الشكل أو المضمون، ولم تقتصر على الجانب الموسيقي المسموع فقط، بل غالباً ما كانت مركباً من الصوت والصورة وا
المرتبطة بالموضوع المعين وكل ما يمكن إعماله من تقنيات، لكن أهم ما ميز الأغنية في هذه
الثورة أنها لم تأت عقب إنتهاء الثورة لتتغنى بأمجادها، كما حدث في ثورات السودان الماضية
كتوبر
التي خلفت إرثاً غنائياً كبي ا رً كما في ثورة أ 1964م والتي وثقتها ملحمة (قصة ثورة) 44التي
حكت تفاصيل ا لتها من خلال الإنتقالات اللحنية والإيقاعية، والصور والأفكار والألوان
الصوتية المفردة والجماعية، أو أغنية (أكتوبر الأخضر) 45التي عبرت عن طموحات وآمال
الشعب السوداني في النمو والرخاء والازدهار، عقب نجاح ثورته التي أطاحت بنظام الحكم
العسكري القابض الذي انقلب على أول حكومة وطنية ديمق ا رطية عقب الاستقلال في الأول من
يناير 1956م؛ الذي انقلب عليه العسكر في نوفمبر 1958م. كذلك الأغنيات العديدة التي
احتفلت بسقوط النظام العسكري ا والذي انقلب بدوره على الديمقراطية الثانية (– 1965
1969م)، وربما عاد السبب في ذلك إلى قصر المدة التي استغرقتها أ ٌ ي من هاتين الثورتين، فلم
يتسع فيهما المجال لتفعيل دور الموسيقى والغناء أثناء الح ا رك الثوري، فقامت الموسيقى والغناء
بدور التوثيق وحفظ صور الثورتين عبر النغم والصورة المسموعة، وبذلك امتازت الأغنية في
الثورة ال ا رهنة بمواكبتها للحدث والفعل الثوري، بل والمشاركة في صنعه وتكوينه بشكٍ ل حاسم

شكل الأغنية في الثورة الحديثة

لم تصدر الأغنية في الثورة السودانية الراهنة عن موسيقيين محترفين دائماً، وإن شارك العديد من
الموسيقيين والمطربين المحترفين في إنتاجها، لكنها بشكل عام كانت مجالاً رحباً عبر فيه الشباب
عن انفعالاتهم ومواقفهم الثورية، بمختلف درجات اقترابهم من التخصص في مجال الموسيقى
والغناء أو بعدهم التام عنه، فكانت الأغنية جزءاً من أدوات النضال، وتراوحت ما بين الأهزوجة
الشعبية الصغيرة وليدة لحظتها ،46وما بين الأغنية السودانية في شكلها التقليدي من حيث
الصيغة والقالب وأسلوب الأداء ،47لكن معظم الأغنيات أتت على نسق الأساليب السائدة وسط الشباب عالمياً من أغنيات ال ا رب والهيب هوب، والدمج والتركيب ا ،48إلى جانب الأسلوب
القائم على إيقاع (الريقي) الذي قدمه المغني الجامايكي (بوب مارلي) في ثمانينات القرن
الماضي ،49وأغنيات أسلوب (ال تكنو) التي تعتمد على خلفية موسيقية مرّكبة من الكمبيوتر أو
أجهزة التصويت النغمي المحدود ،50وقد أنتج الشباب المئات من هذه الأغنيات وبتنوٍ ع كبير على
لأد
مستوى الشكل وأسلوب ا اء والتنفيذ، ومدى الاحت ا رفية أو الهواية، وتبايُن القدرات الفنية
ّمث
والأدائية، لكن في كل الأحوال لت الأغنية أداةً ثوريً ة لعبت دواً ر مزدوجاً من حيث أخذها
للشعا ا رت وإعادة صياغتها لحنياً وموسيقياً، ثم إعاد شارع مرة أخرى للتغني بها، أو من حيث
نشطته ابتكارها وتبنيها لشعا ا ر ٍ ت جديدة سرعان ما يتلقفها الشباب ويرددها ضمن فعاليات مواكبه وأ
الثورية. وفي كل الأحوال يمكن اعتبار هذه الأغنيات مرجعاً يُعّرف بالأسباب الحقيقة لإنطلاق
الثورة، وتفاصيل الممارسات الفاسدة التي درج عليها أقطاب النظام الإسلاموي، ومدى رفض
المجتمع السوداني وكرهه له، كما تحتوي على أسماء العديدين منهم وصفاتهم، وتحتوى الأغنيات
المصورة منها على المشاهد والصور التي تحكي تفاصيل الثورة وما واجهه الشباب من ُ عن ٍ ف وما
حفظه
عن
ًفضلا
سجلوه من بطولٍة واستبسال، هذا ا للشعارات وتوثيقها، وهي في كل الأحوال
عبارة عن مادة مكثّفة سجلت ووثقت للثورة في كل مراحلها، فكان الفنان الموسيقي، المغني
والشاعر؛ كما الصحفي الذي يحمل كاميرا تصوير يرصد بها تلك المشاهد، وغالباً ما كان يتم
إنتاج الأغنية من ق ي ٍ ق فني متكامل، فلم تفّ وت الأغنية الثورية شاردة أو واردة إلا وتطرقت
لها، وكان الشباب جريئاً في طرحه، فلم يتحفظ في تناول الكلمات الشعبية كما جاء ذكرها على
ألسن قائليها في الشعارات أو غيرها من المواقف 51وقدمتها برؤية جديدة حملت فكر وإبداع جيل
جديد من المغنيين والموسيقيين السودانيين. في ذات الوقت احتفظت هذه الأغنيات بالخصائص
النغمية والإيقاعية للموسيقى السودانية والمميزة لها، من حيث المقامات الخماسية المستخدمة،
وأساليب البناء اللحني، والتطريب، مع إضافة البصمة الخاصة بكل فنان، أو أسلوب الأداء الذي
اختار أن يعبر من خلاله. فإذا ما كان الموسيقار المطرب محمد الأمين قد ُ عرف بأنه الفنان
كتوبر الذي اقترن اسمه بثورة ا 1964م برصيده من الأغنيات التي ُ عرفت باسم (الأكتوبريات) فقد أضحى الآن الشاب أيمن ماو هو المطرب الذي سيُذكر اسمه مستقبلاً كمغٍ ن لعب دواً ر موازياً
لذاك الذي لعبه محمد الأمين قبل ما ينيف عن نصف قرٍ ن من الزمان

المراجع

أنجيلا ماكروبي. ما بعد الحداثة والثقافة الشعبية. منى سلام (ترجمة). محمد الجوهري
(مراجعة.) مجلة الفن المعاصر. العدد الأول، صيف .2000أكاديمية الفنون، القاهرة.
170 – 155 ص

  • ارنست فيشر. ضرورة الفن. أسعد حليم (ترجمة.) الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة. ط
    ثانية 1986م.
  • جيزيل بروليه. جماليات الإبداع الموسيقي. فؤاد كامل (ترجمة.) مكتبة غريب، شارع كامل
    صدقي (الفجالة) القاهرة 1970م.
  • ديفيد إنغليز وجون هغسون. سوسيولوجيا الفن، ُ طرق للرؤيا. ليلى الموسوي (ترجمة). محمد
    الجوهري (م ا رجعة). سلسلة عالم المعرفة. رقم ،431يوليو .2007المجلس الوطني للثقافة
    والفنون والآداب. الكويت.
  • هوجو لايختنتريت. الموسيقى والحضارة. أحمد حمدي محمود (ترجمة.) حسين فوزي
    (مراجعة.) المؤسسة المصرية العامة للتأليف والترجمة والطباعة والنشر. القاهرة.
  • حسين مرّوة. تراثنا كيف نعرفه. مؤسسة الأبحاث العربية ش.م.م. ط ثانية 1986م.
    بيروت، لبنان.
  • كمال النجمي. تراث الغناء العربي، بين الموصلي وزرياب، وأم كلثوم وعبد الوهاب. مكتبة
    الأسرة. دار الشروق، ا 1998م.
  • ماري كلير موسى. الطرق البارعة في التجديد الموسيقي. ُ سها يحى نجم (ترجمة). ُ مشيرة
    عيسى (مراجعة). مجلة الفن المعاصر. العدد الأول، صيف .2000أكاديمية الفنون،
    القاهرة. ص 90 – 79
  • محمد الجوهري. علم الفلكلور، دراسة في الأنثربولوجيا الثقافية. الجزء الأول، ط ثالثة. دار
    المعارف، القاهرة 1987م.
  • سعيد محمد توفيق. ميتافيزيقيا الفن عند شوبنهاور. دار التنوير للطباعة والنشر. بيروت فريدريش شيلر. في التربية الجمالية للإنسان. وفاء محمد ابراهيم (ترجمة.) الهيئة المصرية
    العامة للكتاب. القاهرة 1991م