الشِّيمة والفجيعة

عبد الواحد وراق - 24-08-2020

في موسم الفيضان في قرى الشَّماليَّة، على الرَّغم من الفرح المُنسابِ في لِينِ العيشِ وحصادِ النَّخيلِ الوفير والذي تكثُرُ فيه مناسباتُ الزَّواجِ وغيرُها من الأفراحِ التي يُصاحِبُها الطَّربُ واجتماعُ الأهلِ والأحباب من عِدَّة بقاع، فجأةً تسمع "الصَّايحُ" ينعي بصوتٍ يشُقُّ ضجيجَ وصمتَ القرى (الحيَ الله والدَّايمَ الله؛ فلان ود فلان راح في حقَّ الله).
ويستبعِدُ النَّاسُ موتَ بعضِهم من فرطِ الفجيعةِ والألم؛ يقولُ أحدُهم باستغراب: "ياخي أمِسْ دا كان معاي، ياهوْ دا دَربُو"!
ويكادُ لا يُصدِّقُ!
والأكثرُ ألماً ومضاضةً حوادثُ الغرق؛ أذكُرُ غَرَقَ علي شِيْخ - خرجتِ القريةُ عن بَكرَةِ أبيها واصطفَّت على شاطئِ النِّيل؛ والرِّجالُ يغوصون في باطنِ النِّيلِ يبحثون عنه بلا جدوى، يختلطُ عويلُ النِّساءِ بالرِّجال؛
وغَرَقَ علي بَرُّو - الذي كان يعملُ في ورشة كريمة مع صديقِه السِّر محجوب؛ تأخَّروا عن موعد "المَعَدِّيَّة"، وهي "مُركَبٌ" متوسِّطةُ الحجم، تقِلُّ النَّاسَ شرقاً وغربا؛ وعادةً، عندما لا يُدرِكُونَها عند "الشَّاطِي"، يضعون ملابسَهم على رؤوسهم ويسبحون إلى الشَّاطئِ الآخر.
أثناء السِّباحة وعندما اقتربوا من الشَّاطئ، تحدَّث السِّر مع علي وسأله، لكنَّه لم يسمع منه؛ وعندما التفت ناحيته، لم يجِدْه! لو نظرتَ في وجهِ "السِّر" إلى يومِ النَّاسِ هذا، ستُشاهِدُ وجهَ علي بَرُّو المفقود في تقاطيعِ وجهِ السِّر محجوب؛
وغَرَقَ "التِّيمان" الحسن والحسين، أولاد "أُمَّ الحبيب"؛ نجح الحسين ودخل معنا المعهد الأوسط؛ غَرِقَ مع الحسن في فترة الإجازة؛ وعندما رجعنا من الإجازة وفي طريقنا إلى المدرسة، كُنَّا صامتين طِوالَ الطَّريق؛ ومكانُ الحسينِ ظلَّ شاغراً بيننا جِيئةً وذَهابا!!
ولم أستطِع مقابلة والدتهم "أُمَّ الحبيب"!
والطِّفلة بنتُ السَّبعِ سنوات التي اصطحبتها نفيسة أبو جديري من شندي وهي بنتُ أُختِها؛ كانت نفيسة تأتي كلَّ عامٍ لحصادِ النَّخيل وزيارةِ الأهل ثم تعود. كانت وحيدة؛ أمَّا هذه المرَّة، كان اهتمامُ النَّاسِ بها أكبر، لوجودِ هذه الطِّفلةِ المُغمَّسةِ في اللُّطفِ والمودَّة، فسرعان ما أخذت مكانها في قلوب الجميع؛ يُنادونها "البِتْ الضِّيفة". ذهبت مع نديداتِها لجلبِ الماءِ من النَّهر؛ كلٌّ منهن تحمِلُ "بِستِلَّة" من صفيحٍ يصنعُها سَعدي أو أمير في موسم النَّخيل. غمَّستِ البِستِلَّة؛ وعندما أرادت سَحبَها، جرفها الموجُ وإلى الأبد!
بكتِ القرية؛ عشراتُ الرِّجال كانوا يعترضون الخالة نفيسة أبوجديري من الوثوب إلى داخل النَّهر، وهي تصرخُ وتتمرَّغُ في التُّراب، تقول: (أقولْ لِيْ أُمَّها شنو؟).
وعلى مدى السِّنين، تنظر في وجه نفيسة ترى معلماً هامَّاً غيرَ موجودٍ ولا تستطيعُ تحديدَه!
نعم؛ العيون موجودة والأنف والفم المزموم و"الشِّلوخ المايلة" على الخدود الجافَّة؛ وعلى الرَّغم من "المُقنَع" المُحكَم حول الرَّأس والوجه، إلَّا أنَّ الوجهَ جميعَه مخطوفٌ لمكانٍ ما!
ومصطفى وعلي وغيرهم ..
إضافةً لموتِ الحقولِ والأشجار والنَّخيلِ الباسق الذي استظلَّ به النَّاسُ وتآنسوا وأكلوا وشربوا وضحكوا وغنُّوا تحت ظلالِه!
يتهيَّجُ النَّهرُ ويبدأُ الهدَّام، فيجرِفُ حقولَ الذُّرة التي أوشكت على الحصادِ فيلتهِمُها، والطَّيرُ يَرِكُّ على رؤوسِ القناديلِ والنَّخلةِ الباسقة، وحولها تستديرُ بناتُها، ويتدلَّى السَّبيطُ عليه التَّمرُ النَّضيد؛ تشتدُّ وتيرةُ الموجِ، فينخرُ "القِيف"؛ ويتوغَّلُ أسفلَ الجذور، فتخِرُّ النَّخلةُ الباسقة وأُسرتُها، فيطويها التَّيَّارُ إلى الأبد.
كثيرٌ من الوَفَيَات التي تُشبِه لِي موتَ هذه الأشياء ذات المعاني المتجذِّرة في نفوسِ النَّاس - موتُ محمود محمَّد طه وكلُّ شهدائنا من الفنَّانين الموسيقيِّين والتشكيليِّين والمسرحيِّين والسياسيِّين والشُّعراء والظُّرفاء، رجالاً ونساءً وأطفالا، حتَّى الأحياءِ والمدنِ والبيوتِ والقرى، وكثيرٌ من الكائناتِ ذواتِ المعاني - ارتبط فقدُها جميعُها في نفسي بالهدَّام وبالفيضانات!
وأخيراً؛ يأتي غيابُ المناضلة زينب بدر الدِّين، رمزِ الشَّجاعة والتَّضحية والنِّضال ونُكرانِ الذَّات، الثَّائرة ذاتِ الفعلِ والأثر في العملِ النِّضاليِّ والحياتيِّ اليومي.
عليها، وعليهم وعليهن جميعاً، شآبيبُ الرَّحمةِ والمغفرةِ والخلود.



الكاتب: عبد الواحد وراق

تشكيلي سوداني مقيم في الولايات المتحدة الأميركية