نشر بتاريخ: 08 مارس 2011
يغمرني الفرح، خاصة بعد نشرات الأخبار التي تحتل أنباء المظاهرات العربية فيها، كل النشرة دون أن يتخللها خبر آخر، وليس مجرد الفرح بل الفخر وأحيانا الزهو، لأن المرء ينتمي لهذا الشعب الذي لا يرضى بغير الحرية بديلا. ولكن لقد تعودنا على إثارة الأسئلة القلقة، بقصد ضمان المستقبل الأفضل، لأننا نخشى لعنة التاريخ التي تتابعنا وتهددنا.
يلاحظ المتابع لتطور العالم العربي، أنه رغم انحسار الاستبداد في العالم لصالح نظم حكم ديمقراطية، ما زال الاستبداد هو النموذج السائد لمعظم نظم الحكم في الدول العربية، مهما اختلفت أشكالها وتعددت مسمياتها. فمن أين جاءت هذه الخصوصية العربية وهذا الاستثناء الذي استعصى على موجة الديمقراطية التي اجتاحت دول العالم بالذات خلال السنوات؟
لقد تحررت أميركا اللاتينية رغم ديكتاتورياتها الشرسة، وآسيا بكل ذلك التنوع الديني والإثني والثقافي، ودول إفريقيا التي نتهم نظمها بالبدائية والتوغل في التقليدية. وظلت الدول العربية مقاومة لأي تأثير، وقد تلجأ للمداورة، والمناورة، والانحناء مؤقتا، وتلوّن التغيير القادم دون الولوج إلى مضمونه. وفي أحيانٍ كثيرة تخرج ترسانة من الأسلحة الدينية والثقافية والقومية، لتمنع التغيير من الاقتراب من أسوارها التي لم تعد حصينة، ولكنها قد تشوش وتربك من لا يعرفها حقيقة من الداخل. وقد نجحت الدول العربية حتى الآن في تجنب البدء في إصلاح ديمقراطي حقيقي، وعن قناعة. فنحن الذين نتحدث عن أزمة النظم العربية، ولكن أصحاب السلطة أنفسهم لم يفطنوا إلى أخطائهم وقصورهم، وهذا شرط التحول أو التغيير والإدراك أو الوعي بوجود مشكلة ثم يُشرع في حلها.
تراودني فكرة باب الاستعصاء العربي أو الممانعة العربية، ومن أين تكتسب قوتها التي جعلت الدول العربية بعيدة عن هذا التاريخ الجديد الذي غمر كل العالم؟ يخطئ من يعتبر الدول العربية ذات طبيعة ثابتة مقاومة للتغيير، فهذه نظرة حتمية قد تقود إلى العنصرية، إذ ترى بعض المجتمعات لا تاريخية وأقرب إلى الغزيرة والجوهر، أكثر من اعتبارها ثقافة بشرية تتأثر وتؤثر في المكان والزمان. فالقضية تنطلق من ركود هذه المجتمعات، مما عرضها لفوات تاريخي ولم تحاول أن تلحق سريعاً ببقية العالم. فالمجتمعات العربية تفتقد دينامية حركة الفكر وحركة المجتمع وما بينهما من علاقة جدلية، لأن الدول العربية الإسلامية لم تتفاعل منذ قرون مع الأفكار والفلسفات القادمة من خارج المنطقة جغرافياً، أو من خارج افهم السائد للإسلام عقلياً، لذلك وجدت نفسها في عزلة، أخذت في السنوات الأخيرة ملمحاً انتقائياً واضحاً؛ فهي تقبل هجرة السلع والأموال والتكنولوجيا والسلاح، بينما ترفض المعرفة والعلم والنظريات والآراء، أو تتعامل معها بحذر واضح قد ينتهي أخيراً بالرفض.
يفترض المرء أنه بسبب الاختيار التاريخي والواقع الذي يشهد تناقضات تفصمه وتقسمه بين شكلين وتطورين: التخلف أو التقدم، حيث التساكن العجيب. ويسمي البعض هذا الوضع مرحلة انتقالية أو لا معيارية (دوركايم)، حين يتغير القديم ولم يتمكن الجديد من أن يحل محله بعد. وقد يوحي هذا الحديث ـ خطأ ـ بأن المجتمعات العربية ثابتة وسرمدية، ولكن طريق التطور العربي سيظل بطيئاً وأحياناً متراجعاً أو متكرراً، وسيبحث العرب عن نماذج تكفيهم شر المطالبة بالتغيير والإصلاح الحقيقي. ستشهد المنطقة تغييرات، ولكنها في كل الأحوال لن تكون إضافة للديمقراطية وخصماً من الاستبدادية. لم تكن الحرية، في الثقافة (الثقافات) العربية الإسلامية ـ حسب السائد ـ من الأولويات في سلم القيم العربية، ولا المتقدمة في اهتمامات العقل والفكر العربيين. ففي التاريخ كان أقصى سقف هو «المستبد العادل».
ساهمت البيئة الطبيعية، مع طريقة الاستجابة البشرية، في نوعية البحث عن شكل التنظيم وإدارة شؤون الناس في هذه المنطقة، لأن غلبة عدم الاستقرار والترحال البدوي، وغياب التوطن الجماعي بأعداد كبيرة كما يحدث في التجمعات الفيضية، كل هذا جعل الاهتمام بالحكم والسياسة أقل عربياً، مقارنة بحضارات أخرى مثل الإغريق والرومان والهند والصين وفارس. ومن ناحية أخرى، كان الشعر ديوان العرب، وليس الفلسفة كما هو الأمر في أثينا. لذلك قادت الفلسفة تلك المجتمعات إلى التساؤل في موضوعات مثل السياسة (أرسطو) أو الجمهورية (أفلاطون)، وصارت هذه الموضوعات اهتماماً فكرياً وثقافياً. فالسلطة السياسية أو علاقة الحاكم والمحكوم ضرورة من ضرورات الحياة البشرية، ولكن اختلفت درجة طريقة ومستوى الاهتمام، حسب قوة الحاجة إلى ذلك وإدراك الناس المعنيين لتلك الحقيقة. وبالنسبة للعرب جاءت نهضتهم مع الإسلام، وفتح العرب المسلمون العالم وتفاعلوا مع كل الحضارات القديمة، ولكنهم جاءوا للعالم برسالة جديدة تحمل رؤية مختلفة للكون والإنسان والمجتمع، وهذا يعني ضمناً السياسة والحكم.
قدم الإسلام نظاماً شاملاً لمكارم الأخلاق، ولكن ـ بالتأكيد ـ لم يكن من الممكن إعطاء تفاصيل كل شيء، بالذات الحكم والإدارة، لذلك ترك الكثير لاستشارة العقل البشري ضمن المبادئ العامة للدين. كانت مهمة النبي (ص) الأولى، تأسيس المجتمع الجديد والإنسان الجديد، وهذه هي وظيفة الشريعة المحمدية. وكان النبي الكريم يوحى إليه في كل أمور الدين والدنيا، وهو لا ينطق عن الهوى، فهو الحاكم والرسول الذي يختلف عن الأباطرة والملوك: ؟لست عليهم بمسيطر؟. وهنا تغيب العلاقة العادية بين الحاكم والمحكوم، بالمعنى المألوف والسائد في السياسة. فالخلفاء الراشدون كانوا حديثي عهد بالسنن النبوية، وحاولوا السير في نفس الطريق القويم. ولكن بعد ذلك كان يفترض أن توجد العلاقة التعاقدية القائمة على الحقوق والواجبات، التي ارتكزت عليها نظم الحكم الديمقراطية لاحقاً. وكان اجتهاد المسلمين اللاحقين في مجال فقه السياسة والحكم، قليلا وضعيفا كما لاحظ الشيخان محمد الغزالي ويوسف القرضاوي، مقارنة بفقه العبادات مثلا.
بعيدا عن التاريخ، وقع الفكر السياسي العربي، خاصة الذي يدعي الثورية والتقدمية، في خطأ قاتل حين فصل بين الديمقراطية والعدالة الاجتماعية. فالديمقراطية شرط ومقدمة اجتماعية ـ اقتصادية لنجاح أي تجربة اشتراكية. ولكن أغلب الاشتراكيين في الحكم أو على مستوى التنظير، قللوا من قيمة الديمقراطية، وأصبحت المعادلة الخاطئة هي الخبز أو الحرية. وفي حالات كثيرة قبل الشعب بالمقايضة، وقبلوا بالنظم الدكتاتورية أو على الأصح صبروا عليها، آملين الظفر بالاثنين في النهاية. ولكنهم في الآخر فقدوا الحرية والخبز والكرامة معا. وتراجعت تلك القوى بخطى غير منتظمة، عن مواقفها وأفكارها الاستبدادية ـ المقصودة وغير المقصودة ـ ولكنهم وقعوا في ليبرالية خالية من المواقف الاقتصادية والاجتماعية، وصاروا يخجلون من الاشتراكية، وكأنهم يؤكدون مرة أخرى تناقضها مع الديمقراطية!
شارك هذا الموضوع: