رحل عنا الموسيقار المميز موسى محمد إبراهيم في ديسمبر الماضي ضحيةً لوباء كرونا فخلفت وفاته حزناً عميقا لدى محبيه، وعارفي فنه. فقد كان الراحل أحد الذين قامت عليهم أعمدة الموسيقى والغناء في البلاد، إذ ظل منذ صغره يهيم بهذا الفن حتى توج نفسه رمزا ثقافياً كبيراً لا يدركه الجيل الحالي. وذلك بسبب هجرته لدولة الإمارات منذ السبعينات، وأخيرًا الولايات المتحدة حيث قضى فيها نحو ثلاثة أعوام إلى أن وافته المنية في منطقة فرجينيا.
موسى محمد إبراهيم نشأ في أسرة فنية فوالده كان يعزف آلة الافونيون، أما خاله عبد القيوم عبدالله فكان يعزف آلة ترمبيت وكذا خاله عبد الباسط خير الله يعزف الكلارنيت أما هو فكان يعزف الفلوت، والبيكلو، والبيانو، والاكورديون.
وقد هاجر موسى من بلاده متوجها للامارات في ملابسات تهميشه وعدم الاعتراف بمجهوداته ١٩٧٦، هناك أسس فرقة موسيقية كبيرة في ام القوين ثم انتدب ليكون مسؤولا عم مدرسة الموسيقات العسكرية في العين.
الشهادة الأكبر على موهبة الراحل وتقدم معرفته الموسيقية جاءت عبر قيامه بتنويت وتوزيع الملحمة الذي يعد من أفضل الاناشيد الوطنية إذ كتب كلماتها هاشم صديق ولحنها محمد الأمين، وكان يوم تدشينها في المسرح القومي عرسا وطنياتقديمها. وقد امتازت ألحان موسى التي منحها للفنانين بالتفكير الموسيقى المتقدم بالقياس للملحنين الذين زاملوه في تلك المرحلة الباكرة من تطور الغناء السوداني. ومن كلمات الملحمة:
ولعل أشهر عمل قدمه تمثل في أغنية ماضي الذكريات التي أجاد الفنان الرحل عثمان مصطفى في تقديمها، وأصبحت أيقونة الاغنيات التي تضم العمل الموسيقي المتكامل والتي يقول مطلعها.
رحت فى حالك نسيتنى واعتبرت الماضى فات
لما انت خلاص جفيتنى ليه بتحكى
الذكريات
لما تحكى ذكرياتنا كنت تحكيها بأمانة
كيف بدت كيف انتهت واتبددت قبال
أوانا
كذلك تعامل موسى محمد إبراهيم مع الفنان أحمد المصطفى عازفا أعطى اغنية الوسيم القلبي رادو بعدا عميقا، وعبر صوت الفنان الطروب بهاء الدين عبد الرحمن أبو شلة سافر نغمه عبر أغنية مهما أمري يهون عليك. وكذلك دفع تجربة البلابل بأغنية خاتم المنا، وكذلك تعاون مع عثمان الشفيع عبر لحن الحياة.
وجاء تعاونه مع الفنان عبد العزيز أبو داوؤد في تعتذر بعد ايه وكفاية، كفاية. ولم يتخلف الفنان صلاح مصطفى من قطف زهرة ندية من الحديقة اللحنية لموسى محمد إبراهيم فغنى سافر زمان.
في حوار أجراه الأستاذ حسن الجزولي مع الراحل قال إنه “من مواليد عام 1943 في الديوم الشرقية بالخرطوم ونحن في الأصل من منطقة دارفور مكان ولادة ونشأة والدي، الوالد عمل في موسيقى الحدود، ولي اثنان من الخيلان هما عبد القيوم وعبد الباسط، وقد كانا موسيقيين في سلاح الموسيقى العسكرية، وقد درست الكتاب بجوار دار الرياضة الحالية لغاية الثاني الإعدادي.”
وأضاف موسى في ذات الحوار مع الجزولي بقوله
"في أحد الأيام تم إخطاري بمقابلة وزير الثقافة والإعلام بالوزارة لأمر هام، وهناك أخبرني الوزير بأن الاختيار وقع علي لأتبوأ منصب إدارة الموسيقى بالإذاعة كمنتدب من سلاح الموسيقى لمدة سنتين قابلة للتجديد، وهكذا انتظمت مع زملائي بالاذاعة في العمل بها، من الثامنة صباحاً وحتى الثانية ظهراً ومن السادسة مساء إلى الحادية عشر مساء، مشرفاً على التسجيلات طوال أيام الأسبوع عدا الجمعة، فأشرفت على جميع التسجيلات التي أحتوت الفن الحديث، حقيبة الفن، الجاز، فن ربوع السودان، كان ذلك في فترة الظهيرة والفترة المسائية، وفي صباح كل يوم كنت أشرف على البروفات واجتماعات لجنة النصوص، قضيت خمس سنوات في عملي بالإذاعة، قمت فيها بتقسيم السنة الواحدة إلى أربعة أشهر مخصصة لتسجيل الفن الحديث وأربعة أخرى لفن الحقيبة و4 أخرى للجاز وربوع السودان".
أما السفير عبد المحمود عبد الحليم فيحدثنا عن جانب من فترة اغترابه فيقول: إذا كان الحديث يأتي عادة عن إسهام الخبرات والكفاءات السودانية بدولة الإمارات العربية المتحدة وغيرها فى مجالات التنمية والإنشاءات والبنيات الأساسية فإن الموسيقار موسى محمد إبراهيم قد لعب أيضا دورا متميزا في نهضتها الموسيقية والفنية والغنائية دون شك.” ويضيف السفير عبد المحمود أن موسى عازف ماهر لآلة “البيكلو”…نذكره بلزمات وحليات مبدعة أدخلها على أغنيات عدة فكانت مدخلا لنجاحها.. فيحدثك حديث العارف الخبير. ..نذكره بماذا فعل “البيكلو” فى أغنية “الوسيم القلبى رادو” لأحمد المصطفى فكساها سحرا…..وماذا فعل فى” حبيب عمرى أنت لى كل شئ” لحسن عطية، وفى مشاركات أخرى مع محمد وردى، وصلاح مصطفى، وإبراهيم الكاشف، فزادها ألقا ومتعة… قبل أن تبلغ الدهشة مداها وهو يحدثك عن دوره الإبداعي الحاسم مع عثمان حسين فى “الفراش الحائر”. هكذا كتب السفير عبد المحمود عبد الحليم.
على أنه لم تقتصر مهمة الراحل في قيادة الاوركسترا وتوزيع الأغنيات والعزف على الآلات ضمن الفرق والتلحين فحسب فقد ساهم الموسيقار موسى محمد إبراهيم أيضا في تأسيس شعبة التدريس عند افتتاح المعهد العالي للموسيقى والمسرح. فقد استعانت به إدارة المعهد لتدريس منهجي القواعد، والصولفيج.
رحيل موسى عن عالمنا هو رحيل لأحد الذين ساهموا في النهضة الموسيقية والغنائية في بلادنا ونأمل أن يجد التقدير اللائق من تلاميذه الكثر الذين تعلموا فنون الموسيقى على يديه. وهكذا كانت المؤسسة العسكرية تضم في جوانحها مبدعين أطلقوا أذهانهم للعنان ليطوروا ملكة شعبهم الإبداعية. ولهذا نأمل أيضا أن تقوم الدولة بتخليد ذكراه خصوصا أنه في هجرته الطويل مثل السودان خير تمثيل، ووجد عرفاناً وتقديراً في الخارج بينما تجاهلنا سيرته في الوطن حتى تذكرناه بوفاته.
شارك هذا الموضوع: