إلى أخى الدكتور حسن عبد العاطى فى الضفة الاخرى من نهر الوجود السرمدي.
من شريف حرير
الجمعة ٩ اكتوبر ٢٠٢٠.
يقول اهل السودان(بما فيهم أهلك العمراب: عنوانك الاجتماعى)- اذا ارادوا شكر انسان لصنيع جيد- يقولون "الله لا جاب يوم شكرك"! علمت-و يا للفاجعة- ان يوم شكرك قد جاء فى الخميس، الثامن من أكتوبر، فى طريق هيا- عطبرة، إثر حادث مرورى بشع، و ياله من خبر بشع. لكننا لانقول الا ما يرضى الله. فحياتك (بالنسبة لى) تستحق الاحتفاء بها، حتى فى زمن الحزن النبيل، و الصبر الجميل، على القضاء الربانى، الذى جعل لكل اجل كتاب لا يؤخر. ابعث بصادق مواساتنا، للأسرة الكريمة فى هذا الوقت العصيب، و استأذنهم السماح لى بإيراد هذه الذكريات، احتفاءاً بحياتك، و انت تنظر إلينا من عليائك، فى ملكوت الله سبحانه و تعالى، داعين المولى ان يجعل الفردوس الأعلى مأوى لك.
١. فى اولى ذكرياتى معك، أود ان أكشف سراً، و هو انك كنت الثانى فى السودان بعد عمى الحاج(…)، اطال الله عمره، يعرف بطبيعة خروجى الاخير من السودان، فى ليلة الأول من أكتوبر ١٩٩١.
لعلك تذكر، و لعل بعضاً من فى الأسرة (خفف الله حزنهم، و أنزل عليهم سكينته، فى ساعة الغم و الهم على فراق الاب و الزوج) يتذكرون، ذلك الطارق على بابهم فى الشقة فى بحرى، و بعد ساعة حظر التجول، فى يوم 1 اكتوبر، و انقلاب الجبهة القومية الإسلامية بدأت تطل بوجهها الحقيقى و القبيح، و ترسل زوار الليل، بعد ساعات حظر التجول، لإعتقال الشرفاء و سوقهم إلى بيوت الأشباح، و سومهم سوء العذاب. عندما فتحت انت الباب يا حسن، و انت على استعداد للاعتقال، و كأنى بك تنظر الى شنطة الغيارات، الجاهزة دائماً جنب الباب، تحسباً للفراق المفاجئ للأسرة، فى اختفاء مجهول المدى. رأيت الراحة على أوجه افراد الأسرة، عندما أكتشفوا ان طارق الليل، ما هو الا صديق معروف، و ليس ما توجسوا خيفة منه.
٢. عندما طلبت منك ان تخرج معى فى مشوار قريب(بعد الساعة الثانية عشر و بعد دخول ساعة حظر التجول)، لم تسألني إلى أين نحن ذاهبون، حتى أخرجت لك ورقة إذن حظر التجول، المختوم من "القوات الخاصة" بالمطار، و فيها اسمك، و اسمى. كنت قد كلفت صديقاً فى "القوات النظامية"-فى صباح ذلك اليوم- باستخراج ذلك الإذن المختوم، كجزء من سلسلة اجراءت الخروج من السودان، و بأقل ضوضاء، من جحيم حكم الديكتاتور الاسلاموى فى الخرطوم، لبدء العمل المسلح من جانبى، بعد التجاوزات التى بدأت تحدث فى دارفور، ابتداءاً بشهداء عراء جبال "دبليكورا"، بعد إعتقالهم من الشعيرية و خزان جديد- رأس الفيل، و تصفيتهم خارج القانون هناك، و دفنهم فى مقبرة جماعية، إيذانًا ببدء الابادة الجماعية فى دارفور، فى سبتمبر ١٩٩٠.
٣. لعلك تذكر أننى قلت لك، أنك الثانى بعد عمى الحاج(….) اطال الله عمره، الذى يعلم بنيتى الحقيقية، من هذا الخروج و الهجرة، و طلبت منك ان تحتفظ بها( و انا ضامن ان عمى الحاج (…) سوف لن يشفى لى سراً)! كنت كما ظننتك، صديقاً وفياً، و للسر حافظاً، حتى خرج للعلن بطريقة طبيعة، فيما بعد، عند اعلان التحالف الفيدرالى الديمقراطى السودانى، من قاعة فى جامعة لندن(مدرسة لندن للاقتصاد و العلوم السياسية) فى السادس من فبراير ١٩٩٤. أليس من حقى الاحتفاء بحياتك، فى ساعة انتقالك، الى الضفة الاخرى من نهر الوجود السرمدي. انا جميعاً- يوماً- الى ربنا راجعون، و لاحقون بكم فى تلك الضفة من نهر الوجود- و التى تقع فيها (أم القرى)، أكبر قرى الوجود الانسانى، و لو بصورة مختلفة قليلاً، عن هذه الضفة التى نقيم بها كأحياء! انتقالك الفجائي، الى ملكوت الرب صادف شهر اكتوبر- شهر الأسرار الكبرى بينى و بينك، الشهر الذى بدأ فية التفكير باحداث الثورة فى دارفور فى عام ١٩٩١.
٤. لعلك، أيضاً، يا صديقى دكتور حسن عبدالعاطى، تذكر أول رحلة لنا الى الشرق الحبيب، و الذى سكن قلبك كباحث، ثم اصبح طريقاً لك بالامس، و الذى عبره، و عبر القضاء الربانى، بوابة لك إلى الضفة الاخرى من نهر الوجود السرمدي. لعلك تذكر ان تلك الرحلة التى أمتدت- عبر اجيال من الباحثين و الباحثات، و أطنانًا من الكتب العلمية، و المقالات المنشورة، فى الدوريات العلمية المحكمة، و رزماً من الألقاب الاكاديمية الرفيعة من محاضر الى بروفسور. كان ذلك من نتائج جهدك الامين يا حسن. لك الرحمة و القبول.
٥. و لعلك أيضاً، تذكر أن تلك الرحلة تمت فى عام الفيضانات، و الامطار الغزيرة (١٩٨٨)، التى أركعت اغلب بيوت "الجالوص" فى الخرطوم و لعلك تذكر محاولتنا المبيت فى كسلا اخر الليل، و لم ننجح، لأننا فشلنا فى إيجاد أسرة(اية أمكنة شاغرة)، فى كل فنادق كسلا، فقررنا مواصلة المسير الى ليلاً الى سنكات البعيدة. كانت مركبتنا القديمة- بالرغم من امتنانا لها لقدرتها على مواصلة المسير و لو ببطء شديد-لم تساعدنا كثيراً، فى تقصير ساعات السفر و المسير. لعلك تذكر أيضاً، انها كانت "اللاندروفر" الاخضر التابع لشعبة الجغرافيا، و التى كنت انت رئيسها. بكل تلك المتاعب أستطعنا- و الشكر اغلبه لكم و لروحكم المرحة التى لا تكل عن العمل-و بتشجيع منقطع النظير من ابو الجغرافيا، بروفسور مهدى امين التوم، و البروفسور عبد الغفار محمد احمد بالانثروبولوجيا الاجتماعية، من تأسيس الرئاسة الحقلية لبرنامج ابحاث البحر الاحمر، فى سنكات و اركويت.
٦. الذكريات الايجابية معك كثيرة يا صديقى، و أشهد انك قد احببت الشرق، كما احببت جامعة الخرطوم، و السودان، و أن خروجك من الدنيا، الى ملكوت الله، عبر الشرق، و فى شهر اكتوبر الذى لى فيه معك أسرار كبرى، مدعاة للتدبر و التفكر.
تم قرير العين هانيها، فقد سكنت قلوبنا بطيب خصالك، فاسكناك اياها عن طيب خاطر. نكرر تعازينا لاسرتك، و لاهلنا العمراب، كما نكرر ارسالها الى زملائنا، و اساتذتنا، و بخاصة استاذنا البروفسور مهدى أمين التوم، لما نعلمه من قوة الصلة بينكما. اسكنك الله الفردوس الاعلى، مع الأبرار الذين هم فى نعيم.
شريف حرير
شارك هذا الموضوع: