مرت السنة الأولى من عمر حكومة الفترة الإنتقالية التي إتسمت الغلة فيها بمعايير المستحقات المرصودة تتفاوت ما بين الإخفاق في بعض الملفات والنجاح الآمل في إختراق إيجابي للبعض الآخر ولكن الأكثر ألما وإقلاقا هو ما وصلت إليه حال البلد و التداعيات المفرطة في الخيبة جراء الموقف من شعارات الثورة :حرية ، سلام وعدالة والثورة خيار الشعب ، تلك التداعيات التي وقفت حائلا بين الجماهير وأحلام الشهداء وبينها وبين التغيير الهادف لإستعادة الوطن إلى حرز المواطن بعد أن تم إختطافه ثلاثون عاما من قبل عصابة الإنقاذ وحلفائها من القوى الداخلية المتمثلة في الرأسمالية الطفيلية والقوى الخارجية المتمثلة في قوى الإسلام السياسي الدولية، والدول التي مكنها النظام البائد ومافيا الفساد من استباحت خيرات وثروات البلاد ، تلك التداعيات التي كان رأس الرمح فيها خديعة إنحياز القوات المسلحة للثورة بواسطة اللجنة الأمنية للإنقاذ بمشاركة قوى الهبوط الناعم الدولية ومخالبها المحلية من القوى العسكرية والأمنية والقوى المدنية أحزابا وجماعات وأفراد، ذلك، الإنحراف عن مستحقات الفترة الإنتقالية كان مقصود وعملت عليه قوى الثورة المضادة بشقيها العسكري والمدني بممارسة الضغوط على حكومة الفترة الإنتقالية وشغلها عن مهامها الأساسية منذ تزوير الوثيقة الدستورية وخرقها وأخيرا تذويبها في إتفاق سلام جوبا المعطوبة ، واختطاف الصلاحيات من الحكومة التنفيذية بواسطة البرهان وحميدتي وبقية المكون العسكري في مجلس السيادة وذلك بمساندة وتخطيط وترتيب قوى الثورة المضادة.
يروى في طرف السياسة أنه في فترة دكتاتورية حكومة مايو أنه كان هناك مهرجان خطابة سياسية جماهيرية على أيام هوجة الوحدة العربية أماه نميري وجمال عبدالناصر ومعمر القذافي في استاد الخرطوم ، حينما أتي الدور على معمر القذافي لمخاطبة الجماهير، صاح فيه جمال عبدالناصر: حاسب يا معمر إنت راح تخاطب أربعة عشر مليون سياسي.
نورد هذه الطرفة لتنبيه الجميع أن الأربعة عشر مليون صاروا الآن أربعون مليون إضافة لهم عولمة ووسائط إتصال إجتماعي وهلمجرا مما يعني أن كل شئ تحت المجهر مفحوص ومبحوث وأي شاردة وواردة فوق الطاولة وطوال عمر الفترة الإنتقالية (على الأقل) كل شئ مرصود صورة وصوت يعني زمن الغتغتة والدسديس إنتهي والخرطوم مدينة لا تعرف الأسرار والشعب يعرف كل شئ ويفهم كل شئ وولن ينسى أو يترك حقه ، فقط، هو صابر وصامد ومصدق الوعود بأمل الإنتصار والعبور ويتزين بالحلم والصبر وكظم الغيظ وقد تبين الآن الغث من السمين وبالتالي تمايزت الصفوف وأضحى جلياً أن ما آل إليه حال البلد الجميع مسئولون عنه وفقا لتقييم الفترة الماضية التي تلت سقوط عصابة الكيزان ومواقف الأطراف المختلفة من المسئولية كما تتبدى :
إستلمت حكومه الفترة الإنتقالية نصف ثورة كما رددت وكتبت أكثر من مرة للذين يطلعون على مساهماتي في الحوارات الدائرة بوسائط التواصل الاجتماعي ، ولم يستلم حمدوك إرادة وشرعية ثورة كاملة الدسم، كما أن حكومته منذ يومها الأول ولدت من غير حاضنة فقد تخلت عنها حاضنتها السياسية ، قوى الحرية والتغيير (ق ح ت) منذ يومها الأول وأوشكت أن تنكر حتى شرعيتها وتركتها في مهب الريح تصارع لوحدها في كل الإتجاهات ، ورغم كل ذلك فقد نجحت نجاحا آملاً في إختراق إيجابي قد يقود إلى تحقيق نتائج إيجابية في بعض الملفات الأساسية والهامة من أجل الإنتقال السلمي والسلس لمشروع الدولة المدنية الديمقراطية ومستحقاتها ونعني بذلك إزالة السودان من قائمة الدول الراعية لللإرهاب ورفع الحصار الإقتصادي الأمريكي ونجاحها في موافقة الأمم المتحدة على إرسال بعثة اممية تحت البند السادس لمساعدة السودان في الإنتقال الديمقراطي لدولة مدنية بكامل مستحقاتها ، هذا النجاح مأمول فيه ولكن الوصول إلى الضوء في آخر النفق يحتاج لعمل دؤوب ومخلص بكوادر ذات كفاءة عالية ومتجردة عن الأهواء والأجندة وتمتاز بإنتماء لمشروع وطني حقيقي وشفافية عالية ورشد سياسي وهي متوفرة إذا تم الفحص والتمحيص وإحسان الإختيار بعيدا عن المحاصصات والمجاملات والمحسوبية .
ولعل الإخفاقات التي تم رصدها هي إخفاقات تضافرت عوامل وعناصر متعددة في حدوثها وتتلخص في عدم قدرة حمدوك وحكومته في التمسك بحقوق الحكومة الدستورية حسب ما أشاءت به الوثيقة الدستورية وما ترتب على ذلك من كوارث ومصائب عقدت من الفترة الإنتقالية وأتاحت الفرصة للقوى المضادة للثورة بالتنفس والإنعاش ومن ذلك إختطاف سلطات مجلس الوزراء بواسطة المكون العسكرى لمجلس السيادة (البرهان وحميدتي) وأخذ الجمل بما حمل ، وحمايتهم الفاسدين والمجرمين واستهدافهم من خلال آلتهم الأمنية للنشطاء من شباب الثورة بالإعتقال والتعذيب والقتل إضافة إلى اخفاق الحكومة في هيكلة الجيش وإعادة بنائه وكذا الشرطة والأجهزة الأمنية بل ، وايضاً تمادى الشريك العسكري في مخطط محاولة إجهاض الثورة ، الذي ما يزال مستمرا، باستخدام الفيتو ضد كل القرارات والتوجهات التي تمت للثورة وشعاراتها بصلة خاصة في ما يتعلق بالأجهزة الأمنية والقضائية والعدلية .
الإخفاق على مستوى آخر كان في رضوخ حمدوك في الإستجابة للضغوط من قبل الأحزاب وقادتها في القبول بمرشحين للحكومة الإنتقالية كوزراء وهم دون قامة المنصب والمهام التي أوكلت لهم وهناك البعض منهم لا يعرف الناس أسماؤهم حتى مغادرتهم الوزارة إضافة إلى عدم قدرة الحكومة الإنتقالية في الإتيان بنائب عام ورئيس قضاء بقامة الثورة وبحجم المهام الكبرى التي تنتظرهم مما جعل المردود ضعيف جدا في هذا المنحى بما في ذلك تعويق النائب العام للجنة إعادة التمكين كما ذكر الأستاذ مناع مؤخراً.
هذا كله مضافا له الفشل الذريع في إيقاف التدهور الإقتصادي الذي يسير بعجلة تسارعية فائقة ويدلل على ذلك انهيار العملة الوطنية تماما أمام العملات الأخري وإنعدام الأمن والطمأنينة .
وأخيرا أساءت الحكومة الإنتقالية التقدير ، سواء أن كان ذلك بالرضوخ للمكون العسكري لمجلس السيادة بالموافقة على خروج اليوناميد من دارفور واستبدالها بتكليف الدعم السريع لحماية المدنيين أو باتخاذ القرار بإرادتها ، وجنى أهل دارفور ثمار ذلك في الجنينة وقريضة ، ونسأل الله أن يحمي أهل دارفور من كل سوء.
الكرة الآن في ملعب د. حمدوك والأمل كبير في صحوته فهو حتى الآن أكثر رئيس وزراء في تاريخ السودان حظي بإلتفاف وإجماع شعبي وهو أحد تروس المقاومة ، الأمل في أن تكون حساباته أن الحكومة القادمة هي حكومة الكفاءات والشفافية والرشد والعمل اللصيق بالجماهير وهي حكومة الإزالة الحقيقية للتمكين وومحاكمة من فض الإعتصام وإستعادة ملف السلام وإستيفاء مستحقاته بما في ذلك حل المليشيات المتضمن حل مليشيا الدعم السريع واسترداد الأموال المنهوبة بتغيير العملة والسيطرة على بنك السودان والإهتمام بمعاش الناس وضبط الأسواق وولاية وزارة المالية على المال العام بما في ذلك الشركات التي تسيطر عليها المؤسسة العسكرية واستعادة السلطات الدستورية لمجلس الوزراء وهي أيضاً حكومة الفرصة الأخيرة.
قوى الحرية والتغيير كبرنامج للحد الأدني فشلت تماما في المهمة التاريخية التي أوكلت لها كحاضنة لحكومة الثورة ولا نود هنا الحديث عن الأحزاب وتحالفاتها فقد كنت تناولت ذلك من قبل في مقالة نشرت في موقع مركز الدراسات السودانية الإسفيري ، ولكني هنا بصدد التأكيد على أن قوى الحرية والتغيير ولللأسف لم تدرك حتى الآن خطورة وأهمية مهمتها التي وصفتها بالتاريخية ذلك أنها كان المأمول فيها أن تضع برنامج حد أدني ينهض بمهام تهيئة البلاد للإنتقال من دولة عصابة ومليشيات إلى دولة مدنية ديمقراطية حسب موجهات الوثيقة الدستورية الأصلية ويكون ذلك بلا أدنى مشاركة لها في حكومة الكفاءات إلا في المساعدة على إختيار هذه الكفاءات من خارج الأحزاب .
ولكنها ساهمت في الإنحراف بمهام الفترة الإنتقالية وغض الطرف عن تزوير الوثيقة الدستورية وقدمت مرشحيها الحزبيين للوزارة وعارضتهم وتبرأت منهم وأخيرا وافقت على إتفاق سلام جوبا المعطوب وأخضعت له الوثيقة الدستورية في أول سابقة من نوعها في هذا الصدد. ولعل تخلي (ق .ح . ت ) عن مهامها كحاضنة للحكومة الإنتقالية ، بل وتحولها لما يشبه المعارضة و مغازلة بعضهم للعسكر اضعف الحكومة الإنتقالية كثيرا وشجع الشريك العسكري على التغول على سلطاتها ، بل وشجع الثورة المضادة على أن تتغلغل داخل هذه القوى وتعمل من خلالها ، إضافة إلى علاقات بعض المكونات الحزبية بالمحاور والدول الخارجية ما ألقى بظلاله على مجمل آدائها طوال الفترة الماضية.
حقيقة أن أحزاب قوى الحرية والتغيير محتاجة لللإصلاح و ومن ذلك التفرغ تماما للبناء الحزبي وتجويد برامجها وإشاعة الديمقراطية في مسامها وتجديد دمائها بالقيادات الشابة والتثقيف الحزبي والشفافية والرشد وقبول الآخر والتزام برنامج وطني وإعداد عضويتها للانتخابات في نهاية الفترة الإنتقالية ، كل ذلك يكون بعيدا عن المحاصصات والتوزير ، متزامناً في نفس الوقت مع دعم الحكومة الإنتقالية ، بتجرد تام ، للإيفاء بمستحقات الفترة الإنتقالية بما في ذلك السلام المستدام والدستور الدائم وقانون إنتخابات ديمقراطي وحماية السيادة الوطنية.
إذن قوى الحرية والتغيير مطلوب أن تعلي المصالح الوطنية ومستقبل البلاد على مصالحها الذاتية وذلك باعادة روح والحيوية إلى جسدها من جديد وفق شروط ميثاق الحرية والتغيير الأصلي.
وتبقى لجان المقاومة في مهمتها التاريخية ، صمام الأمان في حماية الثورة وإذكاء جذوتها والدفع في إتجاه إستيفاء مستحقات الفترة الإنتقالية كاملة غير منقوصة.
anwar_yousif@yahoo.com
شارك هذا الموضوع: