في إطار حالة السيولة التي تجتاحنا في كل شيء، وبينما القوم يتطلعون لولادة حكومة طال انتظارها، لفت انتباهي حديث أدلى به السيد مجدي عبد القيوم لصحيفة الحداثة يوم 18/1/2021م والذي وصفته الصحيفة بالقيادي في تحالف قوى الحرية والتغيير وعضو لجنة الترشيحات. وكلاهما موقع تُرفع لشاغله القُبعات. قال: (إن التحالف ليس مؤهلاً الآن لاختيار مجلس وزراء، لا من حيث الهيئات المعنية بهذا الأمر، ولا كحاضنة سياسية) ولعمري هذا ما يقال عنه (أول القصيدة كفر) وكأني بقائله ينصح قارءه بألا يتوغل لكي لا يُلدغ. حيث قال إن حديثه يرتكز على ثلاثة أسباب (ذاتية مُتصلة بها وموضوعية متعلقة بعدم الاتفاق على معايير ومواصفات محددة لاختيار الوزراء) وبعد أن أكل الدهر وشرب من محنتنا، دعا عبد القيوم إلى (وضع معايير متفق عليها بين رئيس الوزراء ولجنة الترشيحات) وليت الصحافي سأله عمَّا كانوا يفعلون أصلاً؟
لكنه بمنطق لزوم ما لا يلزم نثر علينا نصائح ثمينة وقال: (لا يكفي أن تكون المعايير العامة المعلومة هي فقط محدداً للكفاءة، وأن يُعاد تشكيل لجنة الترشيحات الحالية بحيث تضم أصحاب خبرة وكفاءة قادرين على العمل بتجرد) ومعنى ذلك أن اللجنة التي هو جزء منها - بحسب التعريف - لم تكن تضم أصحاب خبرة ولا كفاءة قادرين على العمل بتجرد. ثمَّ زاد من المعايير وقال: (لا يكفي أن تكون ثائراً أو مناضلاً لتصبح وزيراً، فرجال الدولة لهم مواصفات) ولا ندري منذ متى اكتشف (أرخميدس) نظريته تلك؟ ثمَّ هدَّ المعبد على رؤوس الذين (صاموا وفطروا على بصلة) بقوله: (حسب متابعتي ووجودي ضمن لجنة ترشيحات نداء السودان أو من خلال الفترة التي كنت فيها عضواً مناوباً بلجنة الترشيحات، لا توجد أي معايير دقيقة تتصل بالكفاءة والقدرات والمؤهلات والتجربة، ومعظم القوى تقدم مرشحين غير أكفاء، وهذا انعكس سلباً على أداء الجهاز التنفيذي بشكل واضح جداً) وتلك شفافية تنهي العزاء بانتهاء مراسيم الدفن طالما لن يضير الشاة سلخها بعد ذبحها!
الأزمة ليست كما صورها السيد عبد القيوم فهي أعمق من ذلك بكثير. لكن أن تأتي الشكوى ممن كان شريكاً في الضراء، فذلك ما يدعو للحيرة حقاً. ولا أدري متى يتحمل الناس مسؤولياتهم في هذا البلد الصابر أهله؟ فالكل يرمي بدائه وينسل. واقع الأمر أن ما حال دون بلوغ الثورة غاياتها النبيلة هو ظن بعض الناس أن الثورة تصل نهاياتها باختيار الحكومة، وذلك بالطبع ظن آثم، لأن الحكومة كيان بيروقراطي استاتيكي بينما الثورة حالة ديناميكية راديكالية. كذلك يظن بعض الناس أن الحكومة سوف تنجز برنامج الثورة وما على الجماهير سوى انتظارها في نهاية المصب ليجنوا ثمارها، وهو خطأ مفاهيمي آخر يسلب الجماهير مهمتها فما الحكومة سوى وسيلة لتحقيق غاياتها!
الشاهد أنه لم يتبلور معنى الدولة في مخيلتنا بعد، كما أن فهمنا لطبيعة الثورة ما يزال قاصراً. بدليل أننا لم نستطع حتى الآن تحديد فلسفتها وثقافتها على ضوء شعاراتها المرفوعة، وبالتالي غاب المشروع والبرنامج، فما الذي يُنتظر من أي حكومة أن تفعل؟ بل لن تفعل حتى لو كان وزراؤها من جنس الملائكة. والغريب في الأمر أن الذين يختارونهم ليتبوؤا سدة الوزارة يعتقدون في قرارة أنفسهم أنهم فعلاً من جنس الملائكة، وأنهم يحملون عصا موسى التي تحيل الدمار عماراً، لهذا فهم فاشلون. إذ إن الوزارة لن يفلح أمرها إلا إذا قام بها ثلة من المستشارين بمنطق (نصف رأيك عند أخيك) كما يقول المثل السائد، فلا مناص عندئذٍ من أن نشهد هذا التخبط المريع، فالثورة التي اندلعت بشعاراتها الثلاثة الخالدات، تقزَّمت حتى صارت بضع (رغيفات) لا يقمن صُلبنا!
لا عليك – يا رعاك الله - فللمحنة وجه آخر يكمل تلك الصورة المأساوية. فالانشغال بالحكومة قبر ظهور المجلس التشريعي تماماً، وهو إن شئت ثاني القبلتين اللتين لن تستقيم بدونهما صلاة الديمقراطية. وقد اتضح بما لا يدع مجالاً للشك أن هذا المجلس لا بواكي له. فحكومة الأمر الواقع تحاربه وحكومة الظل تتبرأ منه، وآخرون من وراء حجاب ينتظرون جثته عند المصب، فمن يجرؤ على الكلام؟ بل هل يعلم القراء الكرام أن هناك مجلساً اسمه المجلس التشريعي فعلياً (بدون أعضاء) ويشرف عليه طاقم (المجلس الوطني) الذي يفترض أنه قُبر ودُفن مع النظام البائد، بل إمعاناً في الإذلال طلب مجلس الوزراء تمديد خدمة مدير الشئون المالية والمحاسبية (الطيب محمد عبد الرحيم) عوضاً عن عدم محاسبته على تورطه في العديد من القضايا بما فيها التزوير في العهد البائد!
جاء ذلك في مذكرة رفعتها لجنة (مقاومة العاملين بالمجلس التشريعي الانتقالي) للسفير عمر مانيس رئيس شئون مجلس الوزراء، بتاريخ 6/1/2021م متضمنة الحقائق التالية:
أولاً: المذكور أعلاه شغل منصب المدير المالي بالأمانة العامة للمجلس الوطني، على مدى أكثر من اثنتى عشر عاماً، كان فيها الممول الأساسي لنشاط منسوبي المؤتمر الوطني. بالإضافة إلى جملة من المخالفات المالية. والجدير بالذكر أنه متورط في عدة قضايا تزوير (أرفقت المذكرة تفاصيلها ومستنداتها منذ العهد البائد).
ثانياً: رغم ذلك فوجئت لجنة المقاومة والموظفون في الأمانة العامة بخطاب مجلس الوزراء الصادر من مكتبكم الموقر بتاريخ ديسمبر 2020م يستبقي فيه المذكور أعلاه في وظيفته كمدير مالي لمدة عام خدمة غير معاشية.
ثالثاً: تستنكر لجنة مقاومة العاملين بالمجلس التشريعي ما تمَّ من إجراء خاصة وأنها قد أحاطت في خطابها بتاريخ 24/10/2020م السيد رئيس الوزراء علماً بتحركات فلول النظام البائد عبر مكتب الأمين العام المكلف للمجلس التشريعي، وطالبت بتعيين أمين عام، ولم يأت الرد رغم مرور ما يناهز الشهر.
رابعاً: نرجو إلغاء أمر استبقاء المذكور أعلاه حفاظاً على موارد الدولة ومكتسبات ثورة ديسمبر المجيدة بتفكيك خلايا النظام البائد.
إذا كنت – يا عزيزي القارئ - من المتسائلين مثلي عن ضعف السيد رئيس الوزراء وقلة خبرة مكتبه، فأنا أدعوك بأن تصوب بصرك تجاه رجل الكواليس عمر مانيس وزير شئون الرئاسة، والذي أصابني بحيرة لم أر مثلها في حياتي. إذ اعتلى كرسي الوزارة على حين غرَّة، كما تقول الأعراب. ومضى يخوض غمارها بعزم لا يخور، ولم يسأل أحدٌ من الناس منذ متى غيَّر المذكور بندقيته من الكتف اليمين إلى الكتف اليسار؟ الواقع أن مانيس دخل الوزارة بهدف (استوروبيا) كما يقول محبو كرة القدم. وبين عشية وضحاها أصبح يتحدث عن الثورة أكثر من صانعيها. شأنه في ذلك شأن كثير من الأشعبيين – من أشعب - الذين يقتحمون الولائم اقتحاماً ولا ينتظرون أن يُدعوا لها. وإن شئت مثالاً فتأمل أزلام النظام السابق الذين يدخلون مكتب رئيس الوزراء كما النمل بين المسامات، وإن شئت مثالاً آخراً فأبحث عن تعقيدات قضية دكتور عمر القراي، وإن شئت ثالثاً فأصغ السمع لما يجري بينه وبين الجنرال حميدتي في الكواليس!
لا تسألوا عن المجلس التشريعي، بل أسألوا عن مانيس!
آخر الكلام: لابد من المحاسبة والديمقراطية وإن طال السفر!
عن صحيفة الديمقراطي
شارك هذا الموضوع: