أزعم باستمرار وجود خصام، بل عداوة عميقة بين بعض العرب والمسلمين، وبين المستقبل والفرح، وهناك صلة وثيقة تربط بينهما. ولا أذهب بعيداً في هذه الفرضية، فها نحن نستهل العام الجديد بانفجار وعمل إرهابي خسيس، في مدينة الإسكندرية الوديعة. وبالتأكيد لأنهم لا يعرفون الفرح، لم يسمعوا ولا استمتعوا بغزل أحمد فؤاد نجم للمدينة:
يا اسكندرية بحرك عجايب، على شط بحرك أغسل هدومي.. وانشر همومي على شمس طالعة وأنا فيها دايب..
لو كان المعتدون يعرفون مثل هذا الحب للأشياء، لما امتدت أياديهم إلى كنيسة القديسين. ولاحظ المفارقة، بينما كان البعض يفكر في البحث عن أمتع وأحلى اللحظات لوداع عام واستقبال آخر، كان هناك من يبحث عن أنجع الطرق لقتل عدد من الناس لا يعرف وجوههم ولم يقابلهم في حياته. وقد علقت في خاطري كلمات أطلقها زعيم لمثل هذه الجماعات قبل ستة عقود، حين قال: «نحن قوم نجيد صناعة الموت»! ويمكن أن نضيف أن بعضنا يتمتع بصداقة وحب الموت، رغم الرعب الذي يسببه مجيئه!
لا تقدم التفسيرات والتحليلات السابقة معنى مقنعاً للخصام مع المستقبل والفرح، ولكن من يخاصم المستقبل والفرح هو الفاشل والمحبط واليائس. وهذا الشعور بالعجز قد يولد عند البعض الإحباط السلبي فقط، ولكن قد ينبت الحقد والكراهية عند آخرين. وعندما زادت سرعة حركة العالم من حولنا، أصبح البون شاسعاً ومظاهر تخلفنا مخزية ومؤلمة، فتعمق شعور الخيبة والعجز، وتحول الفوات التاريخي الذي نعيشه، إلى عقدة نقص متضخمة تحكم علاقتنا مع الآخر وتزيد شعورنا باحتقار الذات. وهكذا هيأنا المناخ لنمو الظواهر الشاذة من إرهاب وعنف وجريمة، وصارت المجتمعات التي أنبتت المافيا والكوكلاس كلان تدمغنا برعاية الإرهاب وتذلنا حين ندخل بلادها. ولم تغفر لنا تعاليم ديننا السامية، لأننا نرددها قولاً ولا نمارسها فعلاً.
لقد ترك العرب والمسلمون مستقبلهم خلفهم، فالماضي هو المستقبل الذي يفاخرون به. فالحديث عن الحاضر وبالتالي عن المستقبل، لم يعد يشغل العقل العربي والمسلم، خاصة وهو مشغول بالبحث عن صيغة تمكنه من تكيف يجمع بين أمان الماضي أو الجن الذي يعرفه من جهة، وبين مخاطرة الولوج في المستقبل المجهول. وانشغلنا طويلاً بمعادلة مفرغة اسميناها: التراث والمعاصرة، وأحياناً الأصل والعصر، واستمر الجدل منذ ستينيات القرن الماضي، من أجل توفيق ناجح بين المكونين الحضاريين. وكانت النتيجة محاولات تلفيقية جمعت تناقضات متجاورة داخل المجتمعات العربية والإسلامية، فزادت من شللها وحيرتها الفكرية. ثم انتقلنا في العقدين الماضيين إلى مفهوم «الخصوصية»، بحثاً عن الأمان واليقين والمصالحة مع العصر. ولكن التجريب الراهن يعقد الأزمة بسبب المبالغة في قضية الهوية، مع أن الأمر يبدو محتاجاً لقطيعة. وهذا هو ما يرعبنا: خوف الاجتياح أو غلبة المؤامرة التي تستهدف وجودنا كله.
ويظل موضوع التكيف والتلاؤم أملنا الوحيد في اللحاق بالعصر، دون التخلي عن ذاتيتنا، ولكن هذا المطلب أو الأمل ظل على مستوى التنظير فقط. ويتحدث البعض عن النموذجين الماليزي والتركي، ولكن كليهما مواجه بتحديات صعبة معلقة؛ الأول يموج بأقليات مازالت تسعى لصيغة مستدامة للتعايش ضمن أغلبية مسلمة، خاصة مع تنامي التيارات المتطرفة والعنيفة. أما تركيا، فهي مطالبة بتحديد أين آخر خط للعلمانية؟ وأين تختلف أوروبيتها عن علمانيتها؟ أو بلغة أخرى؛ هل يمكن أن تكون تركيا إسلامية وأوروبية، بعد كل ما يقال عن الإسلاموفوبيا وتصريح الألمان بفشل تجربة الاندماج، والأكثر تأثراً به هم الأتراك؟
إن فك الخصام مع المستقبل يعني، بلا شروط، قبول قيم معينة لم تعد غربية، مثل الديمقراطية وحقوق الإنسان. ولم يعد العرب والمسلمون يجادلون فيها كمبادئ، عدا قلة ضئيلة، ولكنهم يحاولون التحايل عليها. لذلك نحاول إضافة ممارسات أخرى كـ«مبادئ»، مثل التزوير والغش! فهل للديمقراطية مستقبل في العالم العربي ـ الإسلامي؟ وهل يمكن أن تمارس بطريقة تدخلنا العصر وتجعلنا متصالحين مع المستقبل؟ وكيف نتصالح مع الفرح؟
لقد قمنا بعملية تحتاج منا إلى ثورة ثقافية، واستخدام شامل للعقل في كل مناحي الحياة. فقد ساد أخيراً نوع من التدين الذي يهتم بالشكليات، رغم أنها مطلوبة في بعض الأحيان بسبب الرمزية التي تبثها، ولكن يجب ألا تطغى على المضمون. وقد أخبرنا الرسول الكريم (ص) أنه جاء ليتمم مكارم الأخلاق، ولكن يحار المرء حين يقال عن مجتمع ما إنه شديد التدين، وفي نفس الوقت يشهد نسبة عالية من التحرش الجنسي! هذا مقال للشكلانية، وهو ينسحب على الفرح. فالتجهم والتزمت والبؤس، ليست من علامات التدين، كما أنه الإسلام ليست فيه رهبانية. ولقد انتشرت مواقف رافضة للفنون والإبداع، بصورة متحفزة تدمغ كل إبداع بالانحلال والهبوط، دون تمييز دقيق لقيمة الفن، وصار الأدب يعاني من ملاحقة بعض المتدينين، وقامت جفوة مفتعلة بين الدين من جهة، والفنون والآداب من جهة ثانية. وهذه خسارة كبيرة، وخطر على الشباب الذي ينشط وسطه مثل هؤلاء «الدعاة». فالإنسان الذي لا يتذوق الشعر ولا يطرب للألحان، يثير الخوف حتى قبل أن يدرب على استعمال سلاح.
وتظن الدولة، في الغالب، أنه كلما زادت الكآبة والحزن، تمكنت من السيطرة والهيمنة على الشعب. لذلك تعمل على تجفيف منابع الفرح، خاصة بين الشباب، أو نشر فرح زائف وساقط. فلا يمكن تعطيل الشباب عن العمل، ثم نطلب منهم ممارسة الفرح والبهجة. وعندما تطغى ميزانية الأمن على ميزانية الثقافة، يتم إفقار منابر الفرح كالمسارح ودور السينما وقاعات المعارض التشكيلية، وحتى الحدائق العامة والمكتبات.. فالدولة تظن أن هيبتها بعدد عساكرها وطائراتها، وليس بعدد مبدعيها!
شارك هذا الموضوع: