ينتمي الروائي والشاعر والرسَّام والمُترجم السوداني/المصري/النمساوي دكتور طارق الطيب إلى جيّل الكتابة الجديدة في السَّرْد العربي، وما يميز هذا الجيل أن أعماله تحتشد بالبعد الإنساني في الكتابة، وهكذا أعمال طارق تشبعت بالثيمة الإنسانية في تدبير العالم وهواجسه وأحواله المعقدة، فما يشتغل عليه ويؤسس له في الكتابة الروائية يصح وصفه بمزيج الهويات التي يوظفها لتتعايش وتنتج بفاعلية عالية ملامح ظاهرة إبداعية تقوم على دُربةٍ بالثقافة العربية، وفوق هذا إنسانية النصوص، وطارق الطيب يضرب عميقاً في تربة الوعي الكوني، وهو بذلك لا يتناسى شغله وهموميته حول "الأنا والآخر..الكوني والخاص.. الذاتي" فهو مشغول بتركيب الموضوعية في السرد دون وصاية، ويأتي مشروع الطيب مكتمل النضوج ويسارع في بناء معرفة تتكئ على جدران مرنة لا يعوقها سيل التحولات الكبرى بقدر ما ينتج من ثقافي جَادتُهُ أنه أكثر إنسانية.
في 1959م وفي مدينة القاهرة وبالتحديد في منطقة باب الشعرية ومن أب سوداني وأم من أصول سودانية/مصرية ولد طارق الطيب، وبالعودة إلى المنطقة التي نشأ فيها طارق فلابد أن تكون قد وضعت ولو في بنية اللاوعي عنده من ميسمها الكثيف من الصور والأخيلة تسربت إلى عوالمه السردية، والطيب المقيم الآن في النمسا فإن عطاؤه الإبداعي ظل يتشرب من هويته المركبة، ووعيه المتغذي على جملة التعدد الثقافي والإنساني، وبطبيعة الحال كل هذه عناصر تجد طريقها لمن يكتبون النصوص الجيدة، وفي الوقت ذاته يحافظون على الحدود بين ما هو ذاتي أصيل، وغيري يتمثله بثقة دون تطابق، ومن موقع المستقل بذاته.
سيرة الرجل الروائية متنوعة المظاهر، وعناوينه ذات جرس ودلالة، ففي العام 1993م أصدر مجموعته القصصية عن دار الحضارة للنشر في القاهرة بعنوان "الجمل لا يقف خلف إشارة حمراء" ثم في العام 1998م أصدر مجموعة ثانية بعنوان: "أُذكُروا محاسن.." والنقاط في آخر العنوان تحمل دلالات مفتوحة للقارئ يُكمِلُها بما اتفق وذائقته، وروايته الأكثر شهرة على الأقل عربياً "مدن بلا نخيل" بطبعاتها الثلاث وترجمتها إلى الإنجليزية صدرت عام 1992م، وفي الشعر "بعضُ الظن- 2007م" ولك أن تقف معي أيها القارئ الكريم لتكتشف سحرية العناوين، وكم هي دالة على بلاغة الوعي وجدارة الكاتب في انتخاب أسماء أعماله بما يكشف عن ذكاء لغوي يعتمد اجتذاب قارئه المجهول.
إن النظر لأعماله الأدبية والتي هي جديرة بالتأمل، فإننا أمام تجربة إبداعية قدم بها ثقافته السودانية التي تعيش في لاوعيه وفي المكان، وبين إرثه من هوية مصرية تربى بين همساتها، واستنشق هواء صرخات الباعة والمتجولة والدروايش وسائقي القطارات النزقين، والناس كل الناس هناك في عين شمس بقاهرة المعز، ومن ثنائية لا تتضاد مصرية – سودانية – أو سودانية – مصرية.
ثم جاءت النمسا ثالث ضلعه في تشكيل هويته الثقافية والإنسانية، وهناك حقق لنفسه النجاح ليس بالمثابرة فحسب، بل بالمعايشة والاتصال بالآخر ليِعرفهُ أكثر من نفسه أحياناً، إذ يتصل وجود طارق الطيب بكثير من اسمه يطرق برفق ليعرف أكثر، ويملك حساً رفيعاً استطاع به أن يشغل الناس هناك، وكانت النمسا أكثر حباً بطارق لتمنحه جائزة الكِتاب للعام 2003م، وعدد من المِنح التشجيعية، بل كل أوروبا كانت بانتظار طارق فأهدته الجائزة العالمية الكبرى في الشعر من رومانيا 2007م، ومنحت نفسها تميزاً بأن عيّنته في العام 2008م سفيراً للنمسا لعام الحوار الثقافي العالمي.
بين طيبين: صالح وطارق:
كان الطيب صالح وهو يعيش في لندن يمارس هوايته المعهودة وهي أن يظل يحتفظ بذاكرة القرية يمتح منها حكايات ورؤى، وفي الوقت الذي تكثفت فيها صور المكان أنجز عمله الإنساني الضخم "موسم الهجرة إلى الشمال"، ومن عجائب الصدف أن يحمل طارق الطيب، من الطيب صالح ليس فقط معركتهما في إخضاع الآخر لذوقهما النفسي والاجتماعي ويعّرِفَانهُ بأن لكل مجتمع خصوصيته التي تنتجه وتُيّسِر له فهم العالم، بل حتى الاسم ذاته والحروف مرتبة وموزعة بينهما بالتساوي، بالطبع طارق الطيب ليس امتداداً للطيب صالح بالصورة التي يحمل فيها النُقّاد أقلامهم ليسجنوا نصوصاً بنت زمانها الثقافي في لحظات بعيدة ولا ينتمون إليها، يسجنونها هناك في الستينيات حيث أنفعل الطيب صالح بصورة الأنا في مرآة الآخر، ليُدرَج عمله في سلسلة المواجهة الأدبية مع الآخر الغربي، وهي روايات كُتبت في لحظات تراجع الاستعمار عن بلدان العالم الثالث، ليجد المثقفون أنفسهم أمام ذواتهم بعد أن منحوا حق التعبير، وكانت هذه هي معركة الأدب العربي في ستينيات القرن الماضي، إذ صدرت أعمال كثيرة تحت ضغط سؤال، من نحن؟ وكيف نبدو في نظر الآخر؟ وهنا جاء يحيى حقي بـ"قنديل أم هاشم" في أربعينيات القرن الماضي، وكذلك سهيل إدريس كتب "الحي اللاتيني-1953م" ليواجه الآخر بعنفه الناعم ضد العربي الخاضع للاستعمار بدعوى تحديثه، وصناعته إنساناً جديداً لعالم قديم مهيمن، أما توفيق الحكيم فعودته المتكررة إلى "روح الشرق" كانت أمتن بسبب تنوع هويته.
كان هذا هو سبيل الطيب صالح وجيله في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، أما طارق الطيب فإنه دخل إلى حلبة الآخر بأسئلة جديدة، ليس أقلها أهمية سؤال الأنا والآخر، سؤال العولمة، وكيف يصح أن يقول إنسان القرن العشرين بأن هوية جمعية وحيدة ينبغي أن تمرر بالقوة على البشرية كلها.
أعمال طارق الطيب تؤسس لفاعلية سردية جديدة وهي محاولته اكتشاف هذه الذات المبدعة، ذاته، إنه يبحث في الكتابة لا عن آخر فقط، بل عن موقعه هو، ولذا فإن أدواراً كبرى يلعبها لصالح الثقافة العربية دون أن يكون مديناً لها بكثير قيَّد، فهو سفير ثقافي، ومفكر يُجمِعُ نفسه على الإفصاح، وأعماله جديرة بالإجابة عن سؤال الإبداع والكشف عن صراع الهويات، إن سؤاله الإبداعي يشبه إلى حد كبير ما طرحه أبو حيان التوحيدي في القرن الرابع الهجري، وهو يعيش أزمة الهوية في عصر انتقلت فيه الحضارة العربية لتخضع في كثير من تجلياتها إلى الآخر الوافد إليها والذي استطاع أن يهيمن، ففي عصر التوحيدي كانت الحضارة الفارسية تعيش هيمنة دفعت بالرجل أن يبحث عن نفسه في ظل الآخر، ليقول قولته الشهيرة: "الإنسان أَشْكّلَ عليه الإنسان" وهكذا طارق يعمل على فك هذا الاشتباك بالنظر في أفق إنساني ينبغي أن يظل مفتوحاً دون تمييز، وهذه حرفة الأديب لو أحسن صنعاً.
شارك هذا الموضوع: