في بناء البشر التعليم العصري ومحاكم التفتيش

حيدر ابراهيم علي - 11-01-2021

صار من البديهي أن أي محاولة لإنجاز التنمية والنهضة الحضارية في أي بلد يتطلب أن تبني البلاد نظاماً تعليمياً عصرياً أي ينتمي لحضارة القرن الحادي والعشرين القائمة على العلم والعقلانية والحرية. ومن هذا المنطلق ازداد الاهتمام بالتعليم والمناهج الحديثة التي تخلق مواطناً صالحاً قادراً على التفكير وحل المشكلات والعيش في سلام وتسامح ويرنو دائماً إلى المستقبل والغد المشرق.
ولكن السودان ظل خارج هذا التاريخ الجديد للتربية والتعليم لأن جيوش الظلام والتخلف مازالت نشطة في الحياة العامة وفي الدولة تعمل بهمة لبقاء السودان في العصور الوسطى.
في الأسبوع الماضي أعلن مجمع الفقه الحرب الصليبية على المناهج الجديدة وعلى مديرها د. عمر القراي. أولا لا أدري من أين استمد المجمع شرعية التدخل في شؤون تقوم على أمرها وزارة التربية والتعليم، وهنا نريد أن نعرف ما هي الأهداف التي تم بموجبها إنشئ هذا المجمع. وكان الإسلامويون يريدون بناء الدولة الدينية- الثيوقراطية- تدريجياً بدأوا بخلق فاتيكان إسلامي من رجال الدين يهدف للسيطرة والتدخل في كل مناحي الحياة العامة فكانت هيئة علماء السودان ثم أمانة الذكر والذاكرين في المؤتمر الوطني ومجمع الفقه ثم الجامعة الإسلامية وديوان الزكاة. وفي الدولة الثيوقراطية يتدخل رجال الدين غير المتخصصين في كل شؤون الدولة وقد ركز الإسلاميون على التعليم والمال (البنوك والشركات). فقد حولوا التعليم من علم ومعرفة وأخلاق عالية إلى أيديولوجية حزبية ضيقة باعتبار أن الأيديولوجيا هي أنجع آليات السيطرة على المواطنين. تدخل مجمع الفقه في قضية المناهج يؤكد صحة المطالبة بفصل الدين عن الدولة، فهنا يقوم رجال دين غير مؤهلين حتى في الفقه الديني، إذ لم تصادفني مؤلفات ومدونات صادرة عن هذا المجمع ولم نسمع عن مجتهدين ومجددين يتبعون للمجمع. ورغم ذلك يعطون أنفسهم الحق في التدخل في مناهج تدريس الفيزياء والكيمياء والرياضيات، بلا معرفة ولا تخصص هذا موقف غير أخلاقي يجعل الجهل يتحكم ويراقب كل حياتنا وأعمالنا.
ظهرت مدارس وتيارات تربوية حديثة بعيدة عن عقول وفهوم الفقهاء التي تعتبر الحفظ هو التعليم والذكاء عندهم القدرة على الحفظ والتلقين بينما الذكاء هو القدرة على حل المشكلات سواء أكاديمية أم سلوكية. وفي أمريكا اللاتينية أهم المثقفون التقدميون بقضية التعليم ومن هناك جاءت تيارات تتحدث عن تعليم المقهورين أو تربية المقهورين Pedagogy of the oppressed وتربية الأمل Pedagogy of hope وهي ثلاثية فكرية دشنت المدرسة الحديثة في التربية التي رائدها البرازيلي باولو فريري Paulo Freire وتبعه تلاميذه في الولايات المتحدة وخارجها وفي العالم العربي حاول التربوي المصري حامد عمار تعريفنا من خلال الترجمة بهذا التراث. ويطالب التربويون والمعلمون العرب بتبني نظريات هذه المدرسة الفكرية الحديثة.
ومن أهم المرتكزات الفكرية لباولو فريري ومدرسته تقسيم التعليم إلى نمطين: تعليم نقدي وتعليم بنكي ويقوم الأول على التساؤل وحرية المستعلم في الشك والبحث الحر بينما التعليم البنكي يقوم على الحفظ والتلقين والاتباع والتقليد فالمعلم يعطي معلومات للطالب الذي يحفظها كوديعة ويعيدها نهاية العام إلى الأستاذ وفي الامتحان يتحصل على الدرجات النهائية في حالة كتابة المعلومات كما هي دون زيادة أو نقصان وهذا تعليم ضد الذكاء الحق وضد الإبداع وهو الذي يسود في مؤسساتنا التعليمية ويعمل مجمع الفقه على تكريسه وبالتالي يخرج لنا المتعلم أو الطالب الخرتيت أي البارد والجامد والذي لا يطور ذاته ولا وطنه.
أختم بسؤال خبيث ما هو مصير فتوى قتل المتظاهرين التي صدرت للمخلوع أثناء الثورة؟



الكاتب: حيدر ابراهيم علي

حيدر إبراهيم علي مفكر وكاتب وعالم اجتماع سوداني تخصص في علم الاجتماع الديني وأفرد جزءاً كبيراً من مشروعه الفكري لنقد الإسلام السياسي. اشتغل كذلك على فكرة التنوير والتحرير. ولد في 11/5/1943 بالقرير. في عام 1992 اسس دكتور حيدر إبراهيم على مركز الدراسات السودانية بالقاهرة. كتب دكتور حيدر إبراهيم على العديد من الكتب و المقالات و منعت السلطات السودانية معظم مقالاته الناقدة لهم كما منعت بعض من كتبه من التداول في السودان كان ما ابرزها: أزمنة الريح و القلق والحرية، سيرة ذاتية، سقوط المشروع الحضاري، أزمة الإسلام السياسي، الجبهة القومية في السودان نموذجاً، الامنوقراطية وتجدد الإستبداد في السودان، كتاب مراجعات الإسلاميين السودانيين كسب السلطة وخسارة الدين...