في ظل غياب التقارير الوطنية الموثوقة، أصبحت المؤشرات العالمية التي تقيس أداء الحكومة في مختلف المجالات مصدرًا مهمًا للمعلومات للمواطنين والباحثين وصانعي القرار على المستويين المحلي والدولي. المؤشرات العالمية عادةً ما تستخدم منهجيات مضبوطة متضمنة تقييمات الخبراء واستطلاعات الرأي لتتبع أداء الحكومات وترتب البلدان وفق هذا الأداء في مجالات متنوعة مثل مؤشرات التنمية، وضع النساء، التعليم، والحوكمة وغيرها من المجالات.
في السياق السوداني، قلما يحمل نشر تقارير المؤشرات العالمية السنوية أخبارًا سارة للمواطن السوداني حيث يتذيل السودان معظم قوائم الترتيب المنشورة. وفي أغلب الوقت يأتي تصنيف السودان ضمن الدول ذات الأداء الضعيف في مختلف المجالات. في المخيلة الشعبية ارتبط هذا الأداء المتدني بضعف الأداء الحكومي مما أثر سلبًا على صورة السودان عالميًا وكان عاملاً مساهماً في إرتفاع وتيرة الغضب الشعبي التي أدت الى اندلاع ثورة ديسمبر 2018. الثورة التي أفضت إلى تحول سياسي وأسقطت في أبريل 2019 نظام الإنقاذ الذي حكم البلاد لثلاثين عاما.
في أغسطس 2019 تولت الحكومة الانتقالية السلطة بهدف قيادة السودان نحو التحول الديمقراطي. وقد جاء من ضمن أولويات الحكومة الانتقالية إنهاء حالة العزلة التي عاشتها البلاد بسبب سياسات النظام السابق غير الرشيدة. تدرك الحكومة الانتقالية أن تحسين صورة السودان على المستوى الدولي مرتبط بتحسين أداء الحكومة في مجال الحوكمة. ومن ثم فإن هذه المقالة تهدف إلى تسليط الضوء على كيفية وآلية عمل مؤشرات الحوكمة العالمية ومحاولة شرح المعايير المتبعة لوضع التصنيف العالمي للدول. في تقديري أن النظر في آليات عملية التصنيف يقدم فرصة جيدة للتعلم ولفهم منهجها، لا سيما في السعي لتحسين أداء السودان في مجال الحوكمة. في هذا المقال نحاول (١) تحليل مؤشر الحوكمة ضمن مؤشر الانتقال المعروف Bertelsmann Stiftung Transformation Index (BTI) (٢)، وهو مؤشر يعنى بتقييم إدارة عمليات التنمية والانتقال مركزا على حوكمة القيادة السياسية، إذ يقوم مؤشر الحوكمة Governance Index بتقييم أنشطة الإصلاح لصانعي القرار السياسي.
للإيفاء بالغرض سوف يغطي هذا المقال أربعة من معايير مؤشر الحوكمة التي تقيس أداء حوكمة الدولة وهي مستوى الصعوبة، القدرة على الادارة، كفاءة استخدام الموارد ، و بناء التوافق (٣).
وبدوره يقوم مؤشر مستوى الصعوبة بتقييم القيود الهيكلية التي تؤثر على نطاق العمل السياسي وإدارة الانتقال. و في هذا الصدد يقوم المؤشر بتقييم الصعوبات الهيكلية التي تقيد قدرة القيادة السياسية على الحكم مثل الفقر المدقع، نقص القوى العاملة المتعلمة، وأوجه القصور الشديدة في البنية التحتية. و يواجه السودان تحديات حقيقية من ناحية القيود الهيكلية على الحكم بسبب تفشي الفقر وضعف البنية التحتية . وإضافةَ إلى ذلك يتم قياس القيود الهيكلية في الدولة من خلال إختبار مدى وجود تقاليد المجتمع المدني بما في ذلك المشاركة المدنية العامة، الجمعيات المدنية، ومعدل الثقة الاجتماعية. للسودان تقاليد عريقة في انبساط بنى المجتمع المدني. و إلى ذلك فقد شهد المجتمع المدني في العقود الأخيرة تنامي المنظمات غير الحكومية، حيث هيمنت المنظمات غير الحكومية على نشاطات المجتمع المدني، لتحل محل المشاركة العامة والمدنية. علاوة على ذلك، تقاس الظروف الهيكلية التي تؤثر على العمل السياسي من خلال تقييم شدة الصراع وخطورة النزاعات الاجتماعية والعرقية والدينية في البلاد. هنا يقيس المؤشر جوانب مثل طبيعة الصدام السياسي، الاستقطاب والانقسام المجتمعي، و ورقعة استخدام العنف وانتشاره. لا يزال السودان يشهد صراعات عنيفة واسعة النطاق على أساس الاختلافات الاجتماعية والعرقية مثل العنف الذي اندلع مؤخرًا في شرق السودان والعنف المنتشر في اقليمي دارفور وكردفان.
يقيم مؤشر الحوكمة أيضًا أداء القيادة السياسية وقدرتها كما يقيم إضطلاعها بمسؤوليتها وفعاليتها في إدارة التنمية والانتقال واستخدام الموارد. هنا يقيس المؤشر قدرة الحكومة على إدارة الإصلاحات بفعالية وتحقيق أولويات سياستها من خلال طرح الأسئلة التالية: هل تضع الحكومة الأولويات الاستراتيجية وتحافظ عليها؟ إلى أي مدى استطاعت الحكومة تحقيق أولوياتها الإستراتيجية؟ هل أبدت الحكومة استعدادها أو قدرتها في التعلم في مجال السياسات؟ في السودان، ورغم انتشار خطاب يؤمن على أهمية التخطيط الاستراتيجي والاستخدام المفرط لمصطلح التخطيط الاستراتيجي بين شاغلي المناصب، إلا أن قدرة الحكومة على وضع أولويات استراتيجية ما زال قاصراً. فالاعتماد على الإجراءات المرتجلة والافتقار إلى المفاهيم الموجهة وإعطاء الأولوية للمصالح السياسية قصيرة المدى هو من سمات الأداء الحكومي، وخاصة في ملف السياسات الاقتصادية. هنا، تُظهر الحكومة قدرة محدودة على تنفيذ سياساتها المعلنة وتفتقر إلى الكفاءة في مجال تعلم السياسات.
من حيث كفاءة الموارد، يقوم مؤشر الحوكمة بتقييم مدى قدرة الحكومة على الاستخدام الأمثل للموارد البشرية والمالية والتنظيمية المتاحة. أحد المؤشرات الهامة هنا هو قياس عدد عمليات الفصل من الخدمة العامة استنادا إلى المسببات السياسية وإجراءات التوظيف التنافسية المحمية من التأثيرات السياسية. كذا فهو يشمل قياس كفاءة الموارد وقياس تنسيق السياسات وقدرة الحكومة على تنسيق الأهداف المتضاربة في شكل سياسة متماسكة، وما إذا كانت الحكومة لديها القدرة على تحقيق التوازن بين أهداف السياسة المتضاربة والتنسيق بين مختلف إدارات الدولة.
تعد قدرة الحكومة على احتواء الفساد بنجاح عنصرًا أساسيًا في مؤشر الحوكمة. فهنا يتم قياس فعالية سياسة مكافحة الفساد من خلال معرفة ما إذا كان لدى الدولة اجراءات مؤسسية مناسبة لتنفيذ سياسة مكافحة الفساد وما إذا كانت هذه الاجراءات تساهم بنجاح في الملاحقة القضائية الفعالة للفساد. وتشمل آلية النزاهة مراجعة إنفاق الدولة، ضبط تمويل الأحزاب، تسهيل الوصول إلى المعلومات، ومحاسبة أصحاب المناصب، ووجود نظام شفاف للمشتريات العامة. نفذت الحكومة الانتقالية عدة خطوات كشفت عن عدم كفاءة في التعامل مع الموارد البشرية والمالية والتنظيمية. وتشمل بعض أخطاء الفصل التعسفي للموظفين بحجة تفكيك النظام السابق وانعدام الشفافية في عملية استبدال تلك الوظائف الشاغرة. لم يتم الإعلان عن المناصب الحكومية علانية للمنافسة الحرة والعادلة، مما يثير تساؤلات حول ما إذا كان المعينون هم الأكفأ للمناصب. لم تختلف الموازنة العامة للحكومة الانتقالية عن موازنة النظام السابق. و تفتقرعملية تخطيط الميزانية وتنفيذها إلى الشفافية، ولا يزال الإنفاق العسكري والأمني هو المسيطر. من سمات الحكومة الانتقالية عدم وجود رؤية اقتصادية وإرادة سياسية لتحقيق برنامج اقتصادي منحاز للجماهير. السياسة الاقتصادية غير المتماسكة هي مثال حي على فشل الحكومة في التنسيق بين الأهداف المتضاربة والمصالح السياسية المتنافسة.
يقيس مؤشر الحوكمة قدرة القيادة السياسية على بناء توافق واسع حول الإصلاح مع الجهات الفاعلة في المجتمع ويتم هنا تقييم مدى الإجماع على الأهداف العامة للتنمية والانتقال. بالإضافة إلى ذلك، يقوم المؤشر بتقييم قدرة قوى التغيير على التغلب على الفاعلين المناوئين للديمقراطية الذين يمكنهم تعطيل عملية التحول الديمقراطي مثل العسكر والكيانات الاقتصادية ذات النفوذ وجماعات المعارضة المؤثرة. تعد القدرة على إدارة الصراع عنصرًا مهمًا في بناء الإجماع، وبالتالي، فإن مؤشر الحوكمة يقيِّم قدرة القيادة السياسية على التخفيف من الصراع القائم، وقدرتها على إزالة الاستقطاب في النزاعات، وإنشاء إجماع واسع عابر للانقسامات. تعد مشاركة المجتمع المدني أساسية لبناء التوافق؛ وبالتالي، فإن مؤشر الحوكمة يقيِّم ما إذا كانت القيادة السياسية تشارك فاعلين من المجتمع المدني في العملية السياسية بما في ذلك تحديد الاولويات، صياغة السياسات والتداول بشأن صنع القرار وتنفيذ السياسات وتوجيه الأداء. التوافق لا يتحقق في ظل غياب المصالحة، وبالتالي، فإن مؤشر الحوكمة يقيم قدرة القيادة السياسية على معالجة الصراع أو التغلب عليه من خلال تحقيق المصالحة بين الضحايا ومرتكبي مظالم الماضي.
اداء الحكومة الانتقالية في مجال الحوكمة يواجه عدد من التحديات. هناك خلافات بين القوى السياسية الرئيسية حول أهداف الانتقال طويلة المدى. تظل الاتفاقيات المعلنة حول الأهداف في مراحل أولية وتتسم بالهشاشة، ومن المرجح أن تُقاومها العناصر المسيطرة على السلطة. قوى التغيير ليس لديهم سيطرة على الفاعلين المناهضين للديمقراطية مثل العسكريين. وتتجاهل القيادة السياسية مشاركة المجتمع المدني والتنظيمات القاعدية ويتم صياغة السياسات بشكل مستقل عنهم. كذلك فإن القيادة السياسية لم تخاطب بعد أفعال الظلم التاريخية كما لم تشرع أيضا في عملية مصالحة حقيقية.
دمت ثورة ديسمبر 2018 فرصة تاريخية للسودان لبناء دولة قومية ديمقراطية تنموية ويجب ألا تضيع هذه الفرصة الفريدة بأي ثمن. يحتاج السودان أكثر من أي وقت مضى إلى بناء مؤسسات دولة تؤدي دورها بفعالية، تنتج سياساتها بمشاركة مدنية واسعة، تدير الموارد بكفاءة، وقيادة سياسية تحرص على بناء توافق واسع حول الإنتقال. ربما يفهم الشعب السوداني أن الحكومة الانتقالية قد ورثت عبئًا ثقيلًا من الفشل فيما يتعلق بالاقتصاد والسلام، أو في إصلاح الخدمة المدنية وإصلاح القوانين التي تتطلب بالضرورة مزيدًا من الوقت لإنجازها. إلا أن عزوف السلطات عن تحقيق حد أدنى من التقدم في ملف العدالة والمحاسبة يسبب الإحباط. ترتبط العدالة بالمحاسبة على الجرائم المرتكبة بحق المال العام التي أدت إلى تدهور الاقتصاد وفشل المشاريع القومية الكبرى لاقتصاد السودان.
هوامش:
(١) منذ عام 2018 ، عملت الكاتبة كخبير قطري لمؤسسة Bertelsmann Stiftung الألمانية، وقامت بتأليف تقرير السودان لمؤشر التحول لسنتين على التوالي. قبل ذلك عملت الكاتبة كمراجع للتقرير القطري للسودان الذي تصدره نفس المؤسسة لمدة ست سنوات متتالية.
(٢) يحلل مؤشر تحول Bertelsmann Stiftung (BTI) جودة الديمقراطية واقتصاد السوق والإدارة السياسية في 128 دولة نامية او في طور الإنتقال. إالمؤشر يقيس التقدم والنكسات على الطريق نحو الديمقراطية القائمة على سيادة القانون واقتصاد السوق المحاط بضمانات اجتماعية وسياسية.
(٣) هناك معيار خامس ضمن مؤشر الحوكمة لن نتناوله في هذه المقالة وهو معيار التعاون الدولي الذي ينظر في رغبة القيادة السياسية وقدرتها على التعاون مع الداعمين الخارجيين والمنظمات الخارجية.
د سلمي محمد عبدالمنعم عبدالله عضو منظمة برامج الحوكمة
حاصلة علي الدكتوارة في الجغرافيا السياسية و باحثة في قضايا الهجرة و التغيير المناخي اهتماماتها البحثية بقضايا العنف السياسي ، الحوكمة، استراتيجيات الانتقال، دراسات النوع ، انماط العلاقات بين الدولة و المجتمع
Sudan@governance-programming.org
شارك هذا الموضوع: