معادلة الحرية والديمقراطية

حيدر ابراهيم علي - 05-05-2011

نشر بتاريخ: 24 مايو 2011

يخلط الكثيرون ـ بعفوية ـ بين مفهومي الديمقراطية والحرية، ويتم التعامل معهما كأنهما مترادفان أو معنى واحد. فالديمقراطية في المعنى الشائع والرائج، هي حكم الشعب بالشعب. بينما تعني الحرية غياب القيود التي تمنع الإنسان من التصرف كما يشاء، دون الإضرار بحقوق الآخرين المماثلة. فالحرية فلسفة وطريقة حياة ونظرة للكون، بما فيه الطبيعة والإنسان والمجتمع، وهي تشكل ثقافة وشخصية للفرد. بينما الديمقراطية تسعى لكي تتحول إلى ثقافة، فهي حتى الآن تقنية سياسية تستخدم في إيجاد أحسن السبل للتداول السلمي للسلطة، إذ إن الديمقراطية أقرب إلى صناعة أجنبية يمكن إعادة تركيب أجزائها (أحزاب، قانون انتخاب، اقتراع، برلمان) محليا، وغالبا ما يتم ذلك دون الروح والمضمون. والاتهامات المتبادلة عن التزوير ما هي إلا دليل عدم اقتناع بالمبدأ. وأكثر ما يضحكني وعد المسؤولين العرب بانتخابات نزيهة، لأن الانتخابات هي أصلا نزيهة أو لا انتخابات. والأهم هو إمكانية أن تتحول العملية الديمقراطية إلى ما يسمى «الدكتاتورية المدنية». فقد تستخدم الأغلبية الميكانيكية في البرلمان، من أجل تمرير تشريعات غير ديمقراطية. وغالبا ما نفهم الديمقراطية بأنها حق الأغلبية، بينما هي في الحقيقة حق الأقلية في التعبير عن نفسها، لأنه بحكم قلتها قد يضيع صوتها.

يرى البعض في غياب أو قلة وجود مفهوم «الحرية» في الفكر السياسي العربي ـ الإسلامي وفي الفكر عموما، دليلا على قلة وجودها أو ضمورها على أرض الواقع. كما أن مفهوم الحرية في اللغة العربية يعبر عن حالة أو وضعية، هي عكس العبودية. ولا تعني سيرورة أو عملية أو اختيارا مستمرا. وفي الدين والتوحيد نفضل كلمة التخيير على الحرية، خشية أن نوحي بخروج المرء ـ كما يقول الشاعر ـ من حكم ربه ومن أرض له وسماء. لذلك، وحين نتفلسف نسأل: هل الإنسان مخير أم مسير؟ ولا نسأل: هل هو حر أم مجبر؟ فكلا التسيير والتخيير ضمن الإرادة الربانية، ويتجنب السائل أي اشتطاط محتمل. كما أن الحرية ـ غالبا ـ ما تختلط أو تشير إلى إمكانية الفوضى و/أو الانحلال. وهنا يظهر الخوف من الحرية ـ كما كتب إريك فروم ـ أو رعب الحرية كما يسميه سارتر. ويسود الخوف والرعب لدينا من الحرية أكثر من الآخرين، بسبب وجود المحرمات والممنوعات، بالإضافة لعدم تعودنا على اتخاذ القرار الفردي وتحمل المسؤولية.

يعتبر الخوف العدو الأول للحرية، خاصة لو كان من نوع الخوف الذي يسود في عالمنا. ويسرد الكاتب الياباني المستشرق «نوتوهارا» مقارنة طريفة: «بالطبع يوجد خوف في اليابان. نحن نخاف من الزلزال ونخاف من حوادث توليد الطاقة بالطاقة النووية، ونخاف أيضا من أسلحة كوريا الشمالية(…) عندنا في اليابان نحاول أن نوضح أسباب الخوف وما وراء الخوف (…) لكي نتغلب عليه سويا. المهم لا يوجد عندنا الشخص الذي يهدد الناس ويخيفهم ليحقق منفعة شخصية. ولكن في البلدان العربية يوجد الخوف الذي يستفيد منه بعضهم، ويوجد أشخاص كثيرون يستغلون خوف الناس. وهذا كله مرتبط بغياب العدالة الاجتماعية في البلدان العربية» (العرب من وجهة نظر يابانية، 2003). فالعرب يجتمع لديهم الخوف والقلق، والأخير من المجهول وبالتالي تصعب معالجته.

يبدو أن الانتفاضات الشعبية الراهنة يكفيها الحصول على الديمقراطية، حتى ولو تضمنت شعاراتها المناداة بالحرية في التظاهرات. وقد دلت أحداث الفتنة الطائفية على غياب ممارسة الحرية. ومن أدق مقاييس (ثرمومتر) الحرية، هو الموقف من العقيدة. وهنا لا بد من ملاحظة تبين حقيقة الموقف من الديمقراطية والحرية، إذ يحتاج المرء إلى عقل نقدي ومميز بين المتشابهات. وبسبب النظام التعليمي التلقيني وهيمنة الإعلام التسطيحي، يصعب وجود هذا العقل النقدي حتى بين النخب العليا، فما بالك بين الناس العاديين. ومع غياب العقل النقدي، يميل الكثيرون إلى تغليب الجوانب السلبية في الديمقراطية الغربية خاصة. فالبعض لا يرى في الديمقراطية إلا زواج المثليين وأندية العراة!

تثير علاقة الحرية والديمقراطية العديد من القضايا الحيوية المرتبطة بالمجتمع والثقافة، إذ تبرز قضية الفردية والفرادة، والتي كثيرا ما تربط بالأنانية والجشع ومنافسة الرأسمالية المتوحشة. ولكن هذا فهم خاطئ على الإطلاق، فالفردية مطلوبة في أي نظام ديمقراطي، باعتبارها تعلي من قيمة الإنسان، وكما يقول الشاعر الفيتوري: الأعلى من قدر الإنسان هو الإنسان. وهذا هو مدخل سيادة القانون والحقوق الأساسية للإنسان. وهذه الفردية معطى طبيعي ملازم للإنسان، ويرى علماء النفس أن الناس يولدون متساويين ولكنهم يولدون أيضا مختلفين, فالشخصيات مثل البصمات لا تتكرر أبدا بين الناس. وهذا التفرد هو مصدر الإبداع والابتكار، وهو لا يحدث إلا مع الحرية. وهنا يفرق المختصون بين الحرية الإيجابية والحرية السلبية (حرية النفي). فالأولى تعني الإنجاز، أي غياب الأزمة بسبب التحقق للإمكانات مع القدرات، وهذا معناه أن يحيا الإنسان بشكل إيجابي وتلقائي. ويرد أهل فريق الحرية السلبية، بأن الفردية أوصلت المجتمعات الغربية إلى عزلة الإنسان، وصار فاقدا للانتماء وغريبا، وما النسبة العالية للانتحار إلا نتيجة طبيعية للفردية والعزلة. وهذا استنتاج خاطئ تماما، لأن الإنسان في الغرب استبدل العلاقات الأولية الشخصية بعلاقات ثانوية تقوم بها المؤسسات، وليس الأفراد ولا حتى الأسرة.

ويرى بعض علماء السياسة أن عدم ترافق الحرية والفردية مع الديمقراطية، قد يقود إلى غلبة الغوغائية والشعبوية (وليس الشعبية) على الحياة السياسية عامة، إذ تصبح مسألة الحشد والتجييش والتهييج من سمات العملية السياسية. وتحتاج عملية التلازم بين الحرية والديمقراطية، إلى جهود تنشئة سياسية طويلة وعميقة، تقوم بها الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني، والحكومة لو كانت منتخبة ديمقراطيا. وهذه عملية شديدة الصعوبة ومعقدة، وقد استغرقت في أوروبا تاريخا طويلا، إن لم يكن كل تاريخ أوروبا الحديث. وهذه العملية سوف تصطدم بثوابت راسخة في العقل والتربية، في العالم العربي والإسلامي، وهي معركة لا تقل عن معركة الديمقراطية، فهي بلغة أخرى معركة التنوير.

فالحرية ليست هدفا في حد ذاتها، بل هي وسيلة لتحرير العقل وجرف كل العقبات التي تقف في طريق عمله، وهو الطرح المستمر للأسئلة.

وفي الختام لا بد أن تقوم الانتفاضات ليس بإسقاط النظم فقط، ولكن بحل هذه المعادلة الصعبة: الديمقراطية والحرية. وفي صحف أحد الصباحات القريبة، استوقفتني هذه الكلمات للشاعر محمد علي فرحات: «طلب بسيط، لكنه أعزّ الطلبات وأكثرها صعوبة.. كيف يتكيف العبد مع الحرية والسجين مع أفق مشمس مفتوح؟».



الكاتب: حيدر ابراهيم علي

حيدر إبراهيم علي مفكر وكاتب وعالم اجتماع سوداني تخصص في علم الاجتماع الديني وأفرد جزءاً كبيراً من مشروعه الفكري لنقد الإسلام السياسي. اشتغل كذلك على فكرة التنوير والتحرير. ولد في 11/5/1943 بالقرير. في عام 1992 اسس دكتور حيدر إبراهيم على مركز الدراسات السودانية بالقاهرة. كتب دكتور حيدر إبراهيم على العديد من الكتب و المقالات و منعت السلطات السودانية معظم مقالاته الناقدة لهم كما منعت بعض من كتبه من التداول في السودان كان ما ابرزها: أزمنة الريح و القلق والحرية، سيرة ذاتية، سقوط المشروع الحضاري، أزمة الإسلام السياسي، الجبهة القومية في السودان نموذجاً، الامنوقراطية وتجدد الإستبداد في السودان، كتاب مراجعات الإسلاميين السودانيين كسب السلطة وخسارة الدين...