" الفردّية": البعد الغائب الى حد كبير فى برامج التنمية فى البلاد العربية.

شرف الدين حمد الملك - 09-08-2021

كثيراً ما نسمع لفظة " التفريد" (Individuation) تخرج من افواه المربين والمعالجين واهل الإختصاص فى مجالات نفسية وخدمية وتربوية شتى مثل التدريب والتوجيه وتعديل السلوك…..الخ. وتتردد عبارة " تفريد المعاملة" فى ميادين اجتماعية شتى سواءً الصحية او الأمنية أو الإقتصادية او التعليمية أو غيرها من المجالات. ولا يخفى ان المقصود بالمصطلح والعبارة هو الميل لأخذ الاحتياجات والإمكانات الشخصية فى الإعتبار عند التعامل مع الفرد. وذلك على اساس مبدأ ان الفرد يشبه الجميع في بعض جوانب شخصيته،ويشبه البعض في جوانب منها، ولا يشبه احد في جوانب اخرى. وهذا الجزء الاخير من المقولات هو المرتبط اساساً بفكرة الفردّية (الخصوصية/الذاتية).
لا نعرف،بل لا يمكن ان نعرف بالتحديد متى وكيف بدأ هذا البعد الثالث (الخصوصية) من شخصية الانسان فى التشكّل و التبلور. لكننا نعرف من دون شك ان الخاصية شانها شأن كل الظواهر النفسية/المعرفية جاءت نتيجة لعمليات طويلة ومعقدة الى ان اصبحت " ظاهرة" مسلّم بها في مسار حركة النمو المعرفي الانساني. ومن الثوابت العلمية الان ان خاصية التفرّد ( الوعي بالذات ككيان مستقل عن الاخرين) غير موجود لدى الكائنات الحية فيما عدا القردة العليا ( الشيمبانزي) وبمقدار ضئيل جداً مقارنة بالإنسان. وقد تم التوصل الى هذه الحقيقة عبر تجارب معملية قام فيها الباحثون بادخال مرآة في اقفاص الشيمبانزي وانواع مختلفة من الطيور. الشيمبانزي القى نظرة فاحصة على صورته في المرآة وانصرف موحياً بانه ادرك ان ما رآه هو صورته هو بالذات وليس حيواناً اخر من جنسه. اما الطير فانه ظل يذهب ويجيء ومع كل طلة يهاجم الصورة في المرآة لانها لا تتفاعل معه كما يريد هو. اي انه لا يدرك ان الصورة هي صورته هو.
لقد خبِر الانسان طيلة آلاف السنين العيش الجماعي والتفكير الجمعي دونما حاجة ملحة للتفرّد. وربما كان يشعر بأن نزعة التفرّد قد تشكل خطراً وجودياً له. والغريب ان هذا الشعور ما يزال يراود بعض الناس حتى يومنا هذا. ولذلك تبقى المجتمعات صامدة الى الأبد رغم التغيرات التي يحدثها فى الغالب افراد من الداخل او الخارج. وفي اغلب الأحيان لا تكون التغيرات جذرية او عميقة بالقدر المطلوب لازاحة الفكر الشمولي.
وقد لا يكون مجافياً للحقيقة إن قلنا بأن الوعي بخصوصية الانسان قد تعاظم جراء اكتشاف الانسان لمنهج جديد لفهم الظواهر يقتضي الفصل والعذل والتحليل. اى نوع من تفريد المكوّنات. ونجد في تأريخ العلوم ان اوائل من اهتموا بالتحليل كمنهج للمعرفة هم قدماء الإغريق وبخاصة الفيلسوف ديموقريتس ( Democritus 360-460 B.C) مكتشف الذّرة كأصغر وحدة تحليل في الظواهر المادية. وهو القائل بأن الثوابت في الكون هى الذّرات والفراغ،وما عداها إما انطباعات حسّية غير موثوقة او مقولات منطقية صرفة. فالحواس خادعة ومضللة بينما العقل صادق و معتمد.
وعلى الرغم من ان العلم قد أكد خطأ نظرية الذّرة بعد اكثر من ألفي عام منذ وفاة ديموقريتس فان مناهج التحليل ما زالت تحتل الصدارة في جميع مجالات المعرفة. بل هي وحدها القادرة على كشف حقائق البنيات ذات التركيب المعقّد فى هذا الكون بما فيها المجتمعات واللغات وكُتل المادة سواءً حية أو هامدة. ( Leibnitz, Hobbes, Wittgenstein, Russell). لذلك فان عملية التحليل مستمرة في كل مجالات المعرفة الإنسانية بهدف الوصول يوماً الى اصول الظواهر والى حدود المعقول التي لا تستسيغ الكتل المغلقة رغم اضطراد التطورات في سعة الوعي البشري وفى صناعات الحس وتقنيات الجس واختراقات تكنولوجية تبدو مذهلة فى الزمان والمكان التقليديين. وفي خضم انشغالات الفكر الإغريقي القديم بالمنهج المعرفي الجديد تبلورت في اذهان بعض الفلاسفة وبخاصة سقراط (470ق.م) فكرة الفردّية أو " ميّزة" الوعي بالذات . وهو صاحب المقولة الشهيرة " اعرف نفسك Know thyself". وتُفسر العبارة بانها تعني ضرورة ان يسعى الإنسان لمعرفة ذاته وامكاناته الشخصية من اجل بلوغ اقصى درجات الإنسانية ( Thinkarete.com,1980). وكأني بسقراط لو بُعث اليوم بع الفي وخمسمائة عام لتدريس مقرر علم الإنساني ( Humanistic psychology) لطلاب جامعة لأبدع فى الحديث عن نظريات تحقيق الذات،ولربما تفوّق على مشاهير من أمثال كارل روجرز ( Karl Rogers)، وابراهام ماسلو (Abraham Maslow)،وجون ديوي ( John Dewey)، و جوردون البورت ( Gordon Allport)، و تشيكزنتمهايي ( Csickzentmihayi، وغيرهم من منظّري تحقيق الذات خلال القرن الماضي.
ومن هنا يبدو ان لإستنتاجات بعض المؤرخين والباحثين الغربيين حول منشأ ظاهرة الفردية ( Individualism) ثقافياً فى الغرب قدراً من الصحة ( MacDonald, 1980; Dumont, 1992; Lukes, 1973; Renaut, 1999; Hoselitz, 1966; Macfarlane, 1979). ولعل من الصُدف التاريخية أو ما اسميه " التلازم التأريخي المعقول" في اذهان كثير من المؤرخين في الغرب خلال القرنين الماضيين على الأقل ان ظهور مفاهيم الفردية لدى قدماء الإغريق قد تزامن مع بداية الممارسة الديمقراطية فى الحياة السياسية في اثينا- المدينة/الدولة التي كانت آنذاك بمثابة القوة العظمى المهيمنة على المدن الاخرى. و رغم ديمقراطيتها ووعيها بالفردية (ما يشبه حقوق الانسان حالياً) فقد بلغ عدد سكانها 150000نسمة منهم 50000مواطن والبقية عبيد غير مشمولين بالديمقراطية والفردية ( thinkarte.com, 1980). وربما هذا الوضع غير الإنساني هو المسئول عن اهتمام بعض فلاسفة الإغريق بقيّم الديمقراطية و الفردية التي ترسخّت فيما بعد فى الثقافة الغربية عموماً دون غيرها من الثقافات ( Kramer and Kimball, 2002; Gramstad,2003). فمعظم الدراسات النفسية والآنثروبولوجية المقارنة بين خصائص الثقافات تشير الى تفرّد الغرب بالخاصتين، ومن ضمنها دراسة شبه حديثة ( Runner, 2006) قارنت 50دولة مختلفة على مقياس خاص بالميول والاتجاهات الفردية وتوصلت الى حقيقة ان الدرجات العليا العشرين كانت من نصيب دول جميعها اوروبية ما عدا اسرائيل.
كذلك تشير الأدبيات الى ان الثقافة الغربية لم تفقد مميزاتها حتى فى أحلك عهودها،اى القرون الوسطى التي وصفها العلامة ادوارد جيبون ( Edward Gibbon) بالقرون المظلمة " Dark ages" فى القرن الثامن عشر. وذلك بسبب تسلّط الكنيسة على الحياة الاوروبية فى تلك الحقبة. ولكن يرى كثير من المفكرين المعاصرين ان تلك العهود لم تكن سيئة للدرجة التي تصوّرها جيبون. فالثقافة الاوروبية كانت حينها ايضاً متصدرة في نواحي الإبتكارات العلمية ومحتفظة بافكارها عن التقدم الثقافي ( The idea of progress) التي لم تغِب طويلاً عن انظارها منذ العهد الإغريقي ( Nisbet, 1980; Fleming, 2007). فمدارس الأديرة (الرُهبانية) التي طالما دأبت لتنمية علوم الإنجيل من خلال الموروث اللآتيني هيأت لظهور جامعات عريقةفي اوروبا في القرنين الثاني عشر والثالث عشر. وهذه هيأت بدورها لخروج اوروبا من سيطرة اللآهوت و دخولها في براحات عقلية متقدمة خلال القرنين السابع عشر و الثامن عشر تأججت فيها الثورات الإجتماعية والصناعية في اوروبا وامريكا. بل ان فليمنج ( Fleming, 2007) يرى ان فكرة الفردية نفسها اذدادت نمواً بفضل توجهات مستجدة لدى الكنيسة تّعلي من قدر المسئولية الاخلاقية للفرد وحرية الإرادة الشخصية في الدين. ومن هنا بدأ الخلاف بين الكاثوليكية والبروتستانت في كون الاولى اعتقدت وفق انجيل بول ( St. Paul) بأن الايمان من الخالق وليس فعلاً يأتي به الفرد، على حين اعتقد البروتستانت حسب انجيل جيمس ( Epistle of James) بان الإيمان شخصي ومقياسه افعال الفرد و إرادته الذاتية.
وثمة رواية اخرى ( MacDonald, 1980) تقول بان الكنيسة الكاثوليكية ساهمت في ترسيخ الفردية بطرق غير مباشرة تمثلت في الآتي:
قيامها كوريثة للقيم الإجتماعية الرومانية بفرض نمط الزواج الأحادي ( Monogamy)، اى زواج الرجل بانثى واحدة. و استوجب هذا النمط الزواجي ضرورة تعرّف الطرفين كل على الاخر بعمق وبجهد ذاتي قبل اتخاذ القرار المصيري بالإقتران عن طريق الزواج مدى العمر.
منع الزواج القرابي، أي زواج الأقرباء. وكان القصد من هذا الإجراء هو إخلاء طرف الأرستقراطية من الإلتزامات والواجبات بحيث يصبح تركيزهم مقتصراً على حكم الرعية باسم الكنيسة.
اعتبار الزواج صحبة ورفقة مدى الحياة يتم برضا الطرفين، و أساسه العاطفة المتبادلة بين الزوجين الندّين.
قيام الكنيسة بفرض و ترسيخ نمط الأسرة النووية البسيطة ما شجّع على تكثيف الإستثمار الأبوي فى تربية النشء وتدريب الصغار على الإستقلالية وتحمل المسئولية الشخصية أسوة بالأبوين.
عملت الكنيسة على إضعاف العلاقات القرابية الواسعة ومحاربة النزعات الإثنية لصالح الأرستقراطية وأنظمة الحكم المركزية. فقد عُرف عن الجماعات الجيرمانية في غرب اوروبا ميلها للإستقواء بفئآتها القرابية والإثنية فى غياب السلطة المركزية. لذلك سعت الكنيسة لمحاربة ذاك النمط من الإنتماءات لصالح نفسها و الملوك.
وعليه فإنه يبدو أن الكنيسة طيلة القرون الوسطى كانت تسعى بجهد كبير لتجميع الناس تحت رايتها كأفراد وليس كقبائل وإثنيات تسودها روابط الدم. فالزواج الآحادي والأُسرة البسيطة ( النووية) غير القرابية، والتزاوج برضا الطرفين، واستمرار الزواج مدى الحياة، كلها متغيرات ثقافية أعلت من قدر الفرد على حساب سلطان العشيرة أو القبيلة. كما انها ساعدت في خلق ارضية إجتماعية يتلاقى عليها الغرباء للعمل معاً لصالح عام و مشترك تحت إمرة الكنيسة والأرستقراطيات الحاكمة.
و يبدو كذلك ان الإلتزامات الإجتماعية و الإقتصادية المحددة بحكم نمط الأسرة البسيطة قد أسهمت كثيراً بتشجيع من الكنيسة في رفع إنتاجية الفرد ما أدى الى ارتفاع في معدّل الثروة و انتشارها في اوروبا التي لم تعاني من ضغط سكاني أصلاً، اضافة الى ان المجتمعات الاوروبية في ذاك الوقت كانت تضع أهمية قصوى في تدريب النشء على الحِرف المختلفة وكان من الشائع ان ترسل الأسرة الاوروبية أبنائها للعيش والخدمة والتعلّم لدى أسر اخرى، على حين كانت نفس الأسرة التي ترسل أبناءها للغير تستقبل أبناء أسر اخرى لنفس الغرض. وتساوت في هذه الممارسة الحِرفية التربوية غير القرابية الأسر الغنية والفقيرة على حد سواء ( MacDonald, 1980).
و من إجمالي المعطيات المذكورة اعلاه يمكن استنتاج حقيقة ان الكنيسة قد لعبت بالفعل دوراً هاماً وإن غير مباشر في نهضة الثقافة الاوروبية في كل النواحي وبخاصة الصناعة والتعليم، كما اسهمت بطريقة غير مباشرة ايضاً في قيام الأنظمة الديموقراطيةعلى أساس مراعاة حقوق المجتمع و حقوق الأفراد فى آن واحد. ويبدو ان كثيراً من إنجازات الكنيسة الاوروبية حتى القرن الثامن عشر قد تحقق على حساب نفوذها الدونيوي. ولعل أكثر الإنجازات التي عادت بالسالب على الكنيسة هو تبلور مفاهيم الفردية وتغلغلها فى كل شعاب الثقافة الاوروبية. و لا اظن ان عالمة التحليل النفسي كرن هورني (Karen Horney) كانت مجانبة للصواب عندما كتبت عن ثقافتها الاوروبية-الامريكية قائلة: " في ثقافتنا لدينا وعي اكثر بالإتجاه المناقض للذات. ذلك الإتجاه الذي يشدد على ويثمّن بدرجة عالية خصوصيات الفرد ووحدانيتها. ويحس المرء بقوة في ثقافتنا بأن ذاته عبارة عن كيان مستقل ومتميز عن العالم الخارجي أو مناقض له. فالمرء لا يصرّ على التمسك بفرديته فحسب بل انه يستمد قدراً من الرضاء والراحة منها" ( Horney, in Barnouw, 1963, p. 54). و قبل هورني بحوالي عشر سنوات نقرأ لمفكر امريكي اخر يقول " الامريكيون، أنصار الفردية الملتزمون, يعتقدون بأن الفردية تعني ان في صميم كل إنسان حق الإختيار،ولديه حرية الإستمرار في المهنة التي اختارها لنفسه أو الكف عن الإستمرار وفقاً لحكمه الشخصي. فعندما يتخذ المرء قراراً لا ينسجم مع المنطق الإجتماعي الامريكي نميل الى إعتبار الخطأ عائداً اليه وحده. فقد نحزن له ولكننا نتفق على ان الخطأ خطأه هو. اما إذا إتخذ المرء قراراً صائباً وجنح الى السليم فإننا نشعر أنه يستحق مكافأة" ( LIoyd, 1953,p. 116).
من المؤكد ان الفردية كظاهرة حضارية ليست حكراً للثقافة الغربية. فهي موجودة بنسب اقل في الثقافات الاخرى. وكل ما فعله الغربيون بالخاصية هو تحسينها وتطويرها ونشرها. فلولاها لما تبلورت الديموقراطيات في الغرب ولا تطورت اساليب التعليم والرعاية الصحية والصناعة و الإكتشافات. ولا يعني كل هذا ان ليس للفردية مثالب وسلبيات. فالفردية كسمة من سمات الشخصية الإنسانية قابلة للتضخيم فى حالات بحيث يراها البعض أنانية و حب مفرط للذات. فهي كذلك عندما يتحول الوعي بالذات الى انشغال الفرد المفرط بشئونه الخاصة من دون مراعاة لحقوق الاخرين عليه. أو عندما يعجز الفرد عن الإنعتاق من قيوده الذاتية ليتفاعل بعفوية مع الناس والأشياء ( Self- consciousness).
لعل من اوائل المفكرين الغربيين الذين انتقدوا الفردية هو المفكر السياسي الفرنسي اليكسيس دو توكوفيل ( Alexis de Tocqueville) الذي زار امريكا خلال الثلث الأول من القرن التاسع عشر. و ذكر في المجلّد الأول من كتابيه بعنوان " الديموقراطية في امريكا" الصادر عام 1835م كيف أن ظاهرة الفردية (قصد بها الأنانية) تعكّر صفو الديموقراطية الامريكية وتثير فيها روح المنافسة في جمع المال بأية وسيلة. بيد انه أشاد بديناميكية و تماسك الأسرة الامريكية،و تديّن المجتمع الامريكي، و كثرة الجمعيات الخيرية.
و يرى بعض المفكرين المعاصرين أن إنطباعات الأرستقراطي الفرنسي دو توكوفيل عن تطرّف النزعة الفردية وانتشارها في المجتمع الامريكي في تلك الأزمان كانت مشوبة بكثير من الأحكام المسبقة التي تملكت عقله. فالرجل اتى من أرض قديمة متخمة بالناس و المؤسسات و التقاليد والعادات الراسخة والمسلمات الإجتماعية والفكرية ليجد نفسه في فضاء براح تتخلله مستوطنات وتجمعات صغيرة من البشر ضمت أُسراً وأغراب ألفت بين قلوبهم الحاجة الملحة لإستغلال حيّز المكان وبزل الجهد للإستصلاح وغرس البذور و الأفكارفي مأمن من تعدّيات متوقعة و اخرى متوهمة. وفي تلك الحال من المثابرة والإعتماد على الذات في فهم وتشكيل المعطيات البيئية الغامرة. وفي تلك الظروف التي أملت على الناس الإنشغال التام بخلق عالم جديد من الأشياء و الأفكار والمعاني ينبري هذا الأرستوقراطي العتيد المستكين القادم من الأراضي القديمة والمكتظة بكل انواع الأنتيك الحية ليشكو من تطرّف ومغالاة الفكر والسلوك الامريكيين وبخاصة في حب الذات والمال،وذلك بحسب معاييره الاوروبية الجامدة نسبياً. ويتحسر أن يرى المواطن الامريكي " ساحباً نفسه من المجتمع الكبير وغالقاً اياها في محيط أُسرته و اصدقائه ومغتبطاً لكونه ضمن تلك الدائرة الصغيرة التي كوّنها وفق هواه " ( Tocqueville in Bellah et. al, 1985: 37) ويبدو ان المُناخ الإجتماعي الذي كان سائداً في تلك الحقبة من تاريخ امريكا كان مثيراً لإنطباعات متباينة في اذهان النُخب الفكرية في اوروبا وامريكا. ففي نفس الوقت الذي كان فيه توكوفيل ومن قبله زميله الفرنسي شيفالير ( Chevalier) يصفان ظاهرة الفردية في امريكا بانها أنانية من المنظور الاوروبي كان المفكّر الامريكي الشهير رالف والدو اميرسون ( Ralph Waldo Emerson) يشيد بتلك الفردية التي عنت عنده القوة والمثابرة والإعتماد على النفس. وكان يدعو لأن يتحول الفرد الى دولة ذات سيادة على نفسه وثقة بها وبقدراتها الفكرية والجمالية الخلاّقة. اطنب اميرسون وبالغ في تمجيد الفرد وإعلاء الثقة بالنفس وأسماها " الفضيلة العظمى للثقة بالنفس" ( Capital virtue of self trust. ولعل هذا الإعتقاد المفرط الذي اراه تعبيراً من مفكّر خلاّق عن مشاعر افرد في مواجهة تحديات بناء قصوى في ارض جديدة،هذا الإعتقاد هو الذي جعل اميرسون غير مستسيغ ليس لإعتماد الفرد واتّكاله الشديد على الاخرين فحسب بل ايضاً على تعويل الاخرين على الفرد. ويقول في ذلك: " مأذق الشخص العطوف هو ان يُوضع في موضع السبّاح وسط أناس يحاولون النجاة من الغرق بالتشبث به. فاذا امدهم بساقه او اصبع يده هلك معهم" (Bellah, 1986). وهو القائل ايضاً في احد مؤلفاته لسائله الحائر بستالوزي ( Pestalozzi) : " فيما يخص الإنسان الفرد، كل ما من شأنه تحصين الفرد و إحاطته بسياج من الإحترام الطبيعي في مكان يشعر فيه كل انسان بأن الكون ملكه ويتعامل مع الاخرين وكأنه دولة ذات سيادة ومتوّثبة للعظمة الحقيقية". ويجيبه بستولوزي المكتئب: " لقد تعلمت، تعلمت انه ليس لإنسان في ملكوت الله الواسع إرادة ولا قدرة على مساعدة انسان اخر". والقصد ان المساعدة او العون لا يأتي إلا من دواخلنا نحن وحدنا.
لم يستخدم المفكرون الامريكيون ولا الإنجليز مصطلح " الفردية Individualism) في ذاك الوقت على الإطلاق اذ انه لم يكن ضمن القاموس الإنجليزي آنذاك. ويُقال ان أول ظهور للمصطلح جاء في كتابات الفرنسيين دو توكوفيل ومن قبله شيفالير في ثلاثينيات القرن التاسع عشر ( Bellah, 1986". أما الامريكيون فقد كانوا يميزّون الفرد " المتفرّد بجملة صفات مبجِّلة مثل: " الثقة بالنفس"، " الإعتماد على النفس"، " قوة الشخصية"، " العصامية"، " التحكم في الذات"، " استقلالية الذات"، " حرية الذات في التعبير والعمل"، " تحمّل المسئولية الشخصية"……….الخ. ويبدو ان مثل هذه الخصائص كانت مرغوبة بشدة في المجتمع الامريكي خلال عقود ما بعد الثورة والإستقلال لدرجة اثارت في أذهان المفكرين الفرنسيين من امثال دو توكوفيل انهم امام ظاهرة اجتماعية وتاريخية فريدة من نوعها……سمّوها "الفردية Individualisme"، وهي في نظرهم تعبير عن " أنانية مفرطة". ولعل بعض رجال الدين في امريكا ايضاً كانوا ضد الظاهرة ووصفوها بأنها مصدر للخطيئة ( Shain,1994). وكل هذا لا ينفي حقيقة أن الظاهرة كانت حقيقية وماثلة في منظومة القيّم الامريكية منذ سنوات ما بعد الثورة بحسب كتابات العديد من المؤرخين المعاصرين من امثال س. م. ليبسيت ( S.M. Lispet) صاحب مفهوم " الملة الامريكية The American creed" الذي يشمل من وجهة نظره قيم الحرية ( Liberty)، والمساواة ( Egalitarianism)، و الفردية ( Individualism)، و الشعبية ( Populism)،وعدم تدخّل الدولة فى شئون الأفراد ( Laissez-faire). ( Lipset, 1968).
و من وجهة نظر ليبسيت ميّزت هذه المنظومة القيّمية المجتمع الامريكي عن جميع مجتمعات العالم بما في ذلك المجتمعات فى اوروبا وكندا. وما يُلاحظ فإن الشيء المشترك بين المكّونات الخمسة للمِلة الامريكية هي حرية الفرد فى السلوك والتعبير أو الفردية الليبرالية التي يُرجع ليبسيت منشأها الى الثورة الامريكية. ويختلف معه في هذا الزعم عدد من الإجتماعيين الذين يتهمونه بالمبالغة في تحديد حجم الظاهرة في ذلك الوقت ويرون ان " المجتمعية Communitarianism" المؤسسة على تعدد المِلل الدينية كانت هي السائدة خلال الثورة وبعدها بعقود قليلة ( Grabb, Baer, Curtis, 1999). وبالطبع لسنا هنا بصدد الحديث عن إختلاف الآراء والإنتشار. ويكفي القول انه إذا كان لقيام المجتمع الامريكي مغزى اجتماعي وثقافي بشكل عام فإنه يتجلى في الزخم الذي طرأعلى مفاهيم كانت دوماً حاضرة في الثقافة الغربية منذ القِدم ومن ضمنها تميّز الوعي الفردي بوضوح عن الوعي الجمعي حتى هذه اللحظة، مراوحاً ما بين التطرّف كما راينا لدى اميرسون ولاحقاً لدى الوجوديين والظاهراتيين (Phenomenologists) من امثال جان بول سارتر ( Jan Paul Sartre) صاحب مقولة " الجحيم هم الاخرون Hell is others)، وبين مناهضين متطرفين للفردية بوجه عام بإعتبارها من ضروب " الذّرية Atomism" التي تدعوا لإستخدام الفرد منهجاً لفهم الظواهر الإنسانية. وخير ممثل لهؤلاء المتطرفين هو الفيلسوف الإجتماعي الألماني فريدريك هيجل ( Fredrick Hegel) الذي طالما انتقد مناحي "التنويريين" و" النفعيين" بأنها تميل لإعلاء حقوق الفرد على حقوق الجماعة وتعرّض الفرد لمعاناة الإغتراب عن مجتمعه. كما اعتقد بأن الدولة العلمية والعلمانية هي فوق الأفراد بمؤسساتها التي لا بد من أن تميّز بين حق الفرد في خصوصيته المشروعة تاريخياً وانسانياً (Subjectivity) ونزعته للإستقلال والإنطواء ( Subjectivism). وفي رأيه ان الدولة القوية هي التي تبيح المنحى الأول كمطلب انساني و تحارب المنحى الاخير لكونه قد ينمو ليصبح رؤى كونية ضارة بالمسيرة الحضارية للدولة. وقد انتقد هيجل دعوة سقراط لمعرفة الذات بإعتبارها دعوة للأنانية إلا انه بررها بواقع الضعف والإنهيار الديموقراطي الذي طرأ على اثينا ايام سقراط. فالضعف يولّد في نظرهالجنوح الى الذات والأنانية والإغتراب.
وفي اعتقادي هيجل يساوي بين سقراط و الصوفيين أو الرهبان المسيحيين في ميولهم الإنسحابية والأنانية للخلاص بانفسهم فقط من عذاب الآخرة. لذلك فإنه يعتبرهم خطراً تاريخياً على مسار الحضارة الإنسانية جمعاء. وغاية هذا المسار في الفكر الهيجلي هي تحقيق المزيد من علمنة الدولة في اطار الروح الجماعية العامة ( Volksgeist) دون السقوط في هوة الذات أو الأنطولوجيا ( Descent into the self).
ومن هنا يتضح ان موقف هيجل من الفردية كان اكثر تماسكاً و تناسقاً من موقف دو توكوفيل الذي تأرجح كثيراً ما بين الذم والإطراء رغم غياب تعريفات محددة ودقيقة للمفاهيم آنئذ ما اوقعه شخصياً في كثير من التناقضات،فهو ضد الفردية الامريكية ومؤيد لما اسماه "الحرية الرجولية- Manly liberty" المتمثلة في الشجاعة والإقدام وإقتحام المخاطر. وهو نفسه المؤيد لقوانين الحِد من حرية الصحافة والحريات السياسية وإقامة الأندية في فرنسا عام 1848/1849م ( Wikipedia, 2007). وعلى الرغم من تطرّف مواقف هيجل و توكوفيل تجاه تعبيرات الفردية سواء في امريكا او اوروبا فإن بالإمكان القول بأن كليهما متفقان على أن الظاهرة جزء من الثقافة الغربية و إن كانت سلبية في الغالب حسب فهمهما لها.
وبالطبع لا يمكن منطقياً ولا فعلياً تصوّّر وجود منفصل تماماً للفرد عن وجود الجماعة. هذه قضية محسومة منذ الأزل ولا يمكن دحضها بأية وسيلة او حتى مجرّد الجدال حولها. فالفرد جزء من الجماعة ويتدرّج اعتماده على الاخرين في البقاء من الإعتماد الكلّي خلال السنوات الاولى من العمر الى الإعتماد الجزئي على الاخرين في السنوات التالية وحتى الموت. و لا جدال ايضاً حول حقيقة ان مقدار هذا الإعتماد النسبي على الاخرين جرّاء تباين المجتمعات والثقافات مضموناً وديموغرافياً وجغرافياً. بيد ان الفارق الأعظم بين الثقافات يكمن ليس في مقدار الإعتماد فحسب بل في مظاهر نفسية وسلوكية ترتبط بمدى الوعي بالذات كمكوّن مستقل الى حد ما عن سلطة الجماعة بحيث تصبح تفاعلات الذات مع الاخر ليست عفوية و تلقائية بالكامل بل قائمة على اسس مدروسة سمّاها دو توكوفيل (فن الإرتباط Art of association" في دراسته عن تفاعل الأفراد في المجمعّات الامريكية ( American communities) في القرن التاسع عشر. وفي سياق هذه التفاعلات اليومية بين الذات والاخر ينصّب حديث المفكرين دائماً في مسائل من نوع مدى الإرادة الشخصية ومدى الحرية في التفاعل اوالإنسحاب منه، وحق الفرد في اختيار نمط حياة خاص به، وحقه في إصدار الأحكام وإتخاذ قراراته الخاصة. كل هذه المسائل تم حسمها بالتدريج في معظم ارجاء الثقافة الغربية منذ عصر النهضة ( The Renaissance) في القرن السابع عشر، واصبحت منذ حوالي قرن تشكّل تحديات بالنسبة للثقافات الاخرى غير الغربية التي تسعى لتحقيق النمو الحضاري من خلال الأخذ بالخبرة الاوروبية. وبإمكاننا الجزم الآن بأن جميع الإنجازات الفكرية التي تحققت في اوروبا خلال عصر النهضة وعصر التنوير أو العقلانية قد وجدت طريقها الى جميع ثقافات العالم سواء بواسطة الإستعمار الغربي أو الإستقطاب الحر. ولكن تطبيقاتها الفعلية تتيابن تبعاً لإختلاف البيئآت الثقافية المستقبِلة. ولا أظن أن ثمة إرادة غربية كانت دوماً وراء إانتقال تلك الإنجازات الى الثقافات الاخرى ودليل ذلك أن كثير من المفكرين الغربيين " المهووسين" بفكرة الحريات و الديموقراطية خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر بمن فيهم توكوفيل وفولتير ظنوا ولو لحين أن أفكارهم خاصة بالحضارة الغربية فقط ولا تنسحب على أعراق اخرى مثل الزنوج وهنود امريكا بإعتبارهم متخلفين حضارياً عن الاوروبيين.ولعل بعض الفلاسفة الالمان وعلى رأسهم امانيول كنت ( Immanuel Kant) و يوهان وولفجانج جوته ( Johann Wolfgang von Goethe) كانوا ضمن قلة من التنويريين الذين كتبوا وأسهبوا حول مثالية وكونّية القيّم الإنسانية وبخاصة حرية الفرد أينما كان.
ففي مقال رائد عام 1784م بعنوان " ماهو التنوير؟ What is Enlightenment?" يستهل كنت بالقول: " التنوير هو إنعتاق البشر من ربقة الوصاية المفروضة ذاتياً. والوصاية ( Tutelage) هي عجز المرء عن إاستخدام حججه ( Own reason) دون توجيهات من الاخرين. وتصبح الوصاية فريضة ذاتية عندما لا يكون سببها هو انعدام الحِجا بل الإفتقار الى التصميم والشجاعة لإستخدامها دون توجيهات الاخرين. كن شجاعاً نشِط الحِجا. هذا هو شعار التنوير " Bramann, 2006)).
" والإستقلال الأخلاقي الذاتي ( Moral autonomy) كان هاجس كنت و قضيته الاولى. هو أراد أن تكون أخلاق الفرد داخل ذاته وليس إملاءً من الخارج. ….. من الكنسة مثلاً. وأراد للفرد أن يمارس الأخلاق لا خوفاً من عقاب أو لمنفعة لكن من أجل ذاتها كقيمة انسانية عليا. و آمن بأن الركون للعدالة الكونية يحقق المساواة بين البشر في الحقوق وبأن القدرة على التوحّد الوجداني ( Empathy) هي الضامنة لحرية الفرد وإستقلاليته ككيان أخلاقي واعي بذاته وغير مسيّر ومقتاد بالاخرين. واعتقد كنت أن العقلانية وليس الذكاء هي القوة الدافعة للفرد نحو السمو المعرفي والأخلاقي لاسيما وأن الذكاء وحده يمكن أن يُستخدم في العدوان على الاخرين ويصبح بمثابة المخالب لدى الحيوان الضاري.
و مثالية امانويل كنت صارت خلال القرنيّن التاسع عشر والعشرين وربما حتى اليوم مصدراً لإلهام كثير من المهتمين بالنمو المعرفي و الأخلاقي لدى الأفراد، ولعل من مشاهير المفكرين في هذا المضمار في القرن الماضي العلاّمة السويسري جين بياجيه ( Jean Piaget) والامريكي لورانس كولبيرج ( Lawrence Kohlberg). كلاهما تابع بشغف علمي شديد نمو الذكاء والمعرفة لدى الانسان من الطفولة الى البلوغ؛ وتوصلا الى أن الخاصيتينّ تبدآن في النمو من مستوى الوعي بالمحسوسات فى البيئة المحيطة وتتدرجان صعوداً الى مستوى الوعي المجرّد من المجسّمات (من الإدراك الحسي الى العقلي) بحيث يصبح الحكم والتحكّم على الأشياء نابعّين الى حد كبير من ذات الفرد. ولهذا المسار حد معلوم لدى الأفراد و الجماعات تحدده الثقافة السائدة في المجتمع بحسب تأريخها و نوعية مؤسساتها وخبراتها. و من المعروف أن الثقافة الغربية بحكم مكوّناتها المختلفة تتيح قدراً أكبر من هذا النمو وتبيح حداً أعمق للمسار مقارنة بالثقافات الاخرى. ودليل ذلك وجود تمايز بين الذات والاخر في الغرب أكثر وضوحاً من ما في الثقافات الاخرى. ولم يفلح الغرب في تحقيق التمايز فحسب بل أفلح كذلك -منذ القرن التاسع عشر -في تنمية وسائل علمية لوصفه وقياسه من اجل التعديل والتطوير. وذلك بإعتبار ان تمايز الأفراد و المؤسسات والأشياء عن وعي وعقلانية هو اساس النهضة الإنسانية الحقيقية بعيداً عن أغلال العادات والتقاليد وإجترار الخبرات ووأد الحريات خوفاً و توجساً منها. وثمة مفكّرين كُثر في الغرب أسهموا بغزارة خلال القرنيّن الماضيين في تعميق مفهوم الفردية وتأكيد أهمية الذات المستقل في تقدّم الحضارة الإنسانية. فبجانب امانيويل كنت نجد جوته وفريدريك نيتشه والوجوديين والإنسانيين والفلاسفة التربويين من امثال جون ديوي، والإجتماعيين من أمثال ماكس فيبر. أشترك كل هؤلاء في فكرة أن الفرد هو بمثابة وحدة التحليل الأساسية لفهم التقدّم الحضاري والأدآة الرئيسة لتحقيقه.
أُطر وأفكار ومفاهيم متباينة:
لا يختلف اثنان اليوم في أن الفردية بكل تعبيراتها هي ظاهرة مميّزة للثقافة الغربية، وسوف نأتي لاحقاً الى توضيح مواقف ثقافتنا العربية من هذه الظاهرة. وحسبنا الان التأكيد على ما ذكرناه سلفاً من أن المفهوم ظل منذ القرن الثامن عشر مثيراً لكثير من المغالطات والتراشقات الفكرية بين المثقفين لاسيما في اوروبا الغربية. ففي فرنسا عند مطلع القرن التاسع عشر كان رجال اللاهوت و السيمونيين ( Saint Simonians) هم اكثر الفئات توجساً من الظاهرة واصفين إياها بأنها إعادة إحياء لمذاهب فلسفية إغريقية قديمة مثل الأبيقورية ( Epicureanism) التي دعت الى حب الشهوات والإنغماس قي الملذات، و الرواقية ( Stoicism) الداعية الى عدم إبداء الفرد لمشاعر الحزن أو الفرح. أي ان جوهر الفردية هو الأنانية المفرطة وحب الذات و الإنشغال به عن غيره. وهكذا كان رأي الإشتراكيين الفرنسيين من امثال ليرو ( Leroux) وكابيه ( Cabet)). أما بالنسبة للمحافظين الفرنسيين مثل دو ميستر ( de Maistre) فقد إعتُبرت الظاهرة مصدراً يهدد بالتقويض التقاليد الفرنسية و النظام الإجتماعي الهرمي. وإختلف عن هؤلاء ليبراليون من امثال توكوفيي المشار اليه سلفاً و الذين اعتبروا الظاهرة شراً لا بد منه في ممارسة الديموقراطية وإيفاء استحقاقات الحرية. فقط في المانيا نجد في هذه الحِقبة ميلاً لإعتبار الفردية كقمة لإنجازات اوروبا في الإرتقاء الحضاري و المعرفي. رومانسية فكرية جاءت كإمتداد لثقافة عصر النهضة و تجلّت في كتابات ويلهلم جوته و بخاصة في روايته الشهيرة " فاوست Faust" وأشعاره وبخاصة الفريدة " بروميثيوس Prometheus". كما تجلّت النظرة الرومانسية الالمانية للفردية في أفكار فريدريك نيتشه ( Friedrich Nietzsche) ولاسيما تلك المتعلقة بهدم القيّم البالية وخلق قيّم جديدة ( Revaluation) من أجل انسان جديد قوي وشجاع وحر من استعباد الآلهه له منذ أزمان بعيدة. وبعكس إنشغال المفكرين الليبراليين قي الغرب آنذاك (القرن التاسع عشر) بفكرة الفردية من نواحي كمية- أي مدى الإستقلالية عن سلطة الجماعة، وكمية الإستحقاقات الفردية- سواء قانونية أو طبيعية- فإن المفكرين الالمان كانوا أكثر ميلاً الى إعلاء النوعية أي الخبرات والتجارب الذاتية.
يشير قاموس تاريخ المفاهيم ( Dictionary of the History of Concepts) الى حقيقة ان المؤرخين وعلماء الإجتماع الغربيين قد إستخدموا مصطلح "الفردية" في أُطر متباينة. فمنهم من يراه مرتبطاً بالمسيحية البدائية والإنجيل الجديد بحكم أن الإنجيل القديم أو التوراة لم يشر إطلاقاً الى مصطلح من هذا النوع وإن سرد معاناة الأنبياء كأفراد من نزاعات مع اقوامهم والشيطان وابتلاءآت رب اسرائيل لهم. ومن المفكرين من ينسب المصطلح لحركة النهضة في ايطاليا. واخرون من امثال الفيلسوف الإجتماعي ماكس فيبر ( Max Weber) يرجعونه للبروتستنتانية و بخاصة الكالفينية ( Calvinism) من جهة، و من الجهة الاخرى لظهور الرأسمالية وإقتصاد السوق الحر في انجلترا القرن السابع عشر. كذلك يُرجع البعض مفهوم الفردية لظهور نظرية القانون الطبيعي ( Natural Law Theory) منذ منتصف القرن السابع عشر وحتى مطلع القرن التاسع عشر حيث انتشرت الأفكار الداعية الى مراعاة الحقوق الطبيعية للإنسان كبشر ( أي الحق في الحياة وفي الحرية وفي التمّلك،وقد إستُبدلت لفظة " تملّكك" -التي اتى بها المفكر الانجليزي جون لوك John Locke – بعبارة " السعي لتحقيق السعادة " Pursuit of happiness" في وثيقة إعلان الإستقلال الامريكي بصياغة توماس جفرسون. وثمة اخرين ينسبون الفكرة للحِقبة الومانسية التي اعقبت حِقب التنوير والعقلانية. و فئة اخرى تربط المفهوم بآيديولوجيا الإقتصاد الحر Laissez-faire ودعاتها من أمثال المدرسة النمساوية الليبرالية و الامريكية. أما المبادىء والأفكار المكوّنة لمفهوم الفردية فإن بالإمكان توضيحها كما يلي وفق قاموس تاريخ المفاهيم، وججدير بالذكر ان هذه الأفكار ليست منفصلة تماماً عن بعضها البعض، اذ ثمة تداخلات تتفاوت في المدى ولكن التمايز واضح:

مبدأ القيمة الذاتية والأخلاقية العُليا للفرد:
بعكس الإغريق الذين اعطوا الفرد اهمية كبيرة كان الرومان يرون ان الفرد ليس بذي قيمة كلّية في حد ذاته سوى كونه جزءً من المجتمع ووسيلة لتحقيق غايات المجتمع. وقد تماشت هذه النظرة مع ما جاءت به العبرية في هذا الخصوص. أما الإنجيل الجديد (و الهندوسية الى حد ما) فقد اتى بنقيض ذلك واضعاً الفرد في موضع المتميّز بحسب حكمة الرب فيه وإن ماثل غيره في كون الجميع صورة من الخالق ذاته. وعلى مثل هذه الأفكار ولكن من دون البُعد اللآهوتي أسست عصور النهضة والتنوير فلسفاتها عن قيمة الفرد و كرامته و حقوقه المقدّسة في الحرية والإستقلالية. بل إعتبار المجتمع نفسه مجرّد وسيلة لتحقيق غاية الفرد في التفوّق و التسامي.
مبدأ تنمية و تحقيق الذات من الداخل:
فكرة تعود لعصر النهضة قي ايطاليا خاصة فى أوساط المبدعين ثم تنامت الى الليبرالية في القرن التاسع عشر و نظريات تحقيق الذات في القرن العشرين.وهي ليست معارضة للمجتمع لدرجة أنها توافرت حتى في الفكر الشيوعي حيث يشير كارل ماركس الى أن الفرد في ظل الشيوعية " ينثر مواهبه في كل الإتجاهات".
مبدأ توجيه الذات و الإستقلالية:
فكرة توافرت لدى ارسطوطاليس، و توماس اكويناس، ومارتن لوثر، و كنت، وسبينوزا، وديفيد ريسمان وغيرهم ممن اعتقد بحرية إرادة الفرد وحقه الطبيعي في التصرّف والإختيار من دون ضغوط خارجية على الفرد.
مبدأ الخصوصية ( Privacy):
فكرة حديثة نسبياً تؤكد حق الفرد في حيّز نفسي ومكاني داخل المجتمع يمارس فيه خصوصيته في الفكر و السلوك بحرية كافية دون تطفّل أو تدخّل من الاخرين. وقد تجلّت هذه الفكرة كما رأينا في وصف توكوفيل لنمط حياة الأفراد في امريكا خلال القرن التاسع عشر. وعلى حين يصرّ الليبراليون على القيمة الجوهرية لهذه الخصوصية في حياة الأفراد، يصفها الفيلسوف السياسي المعاصر السير ازايا برلين ( Sir Isaiah Berlin) بأنها "حرية سلبية" ( Negative Liberty) لا تخدم القيّم الإجتماعية العُليا بشكل وافيٍ. بيد أن غالبية الليبراليين ترى أن المُتعة الحقيقية في الحياة تكمن في هذا الحيّز الخاص بالفرد سواء على إنفراد أو مع أُسرته أو اصدقائه المقربين.

فكرة الفرد المجرّد ( Abstract individual):
سادت هذه الفكرة ما بين منتصف القرن السابع عشر وبداية القرن التاسع عشر وسط زخم الأفكار حول مفاهيم العقد الإجتماعي ( Social Contract) التي اثارت جدلاً و سجالات ساخنة في اوروبا آنذاك. و مضمون الفكرة ان المجتمع ومؤسساته لا تعدو ان تكون سوى ترتيبات وضعها أفراد من اجل تلبية حاجاتهم الخاصة سواء فطرية أو مكتسبة. و أن العلاقات الإجتماعية ما هي إلا مظاهر خارجية تخدم إرادة الأفراد وحاجتهم للحماية وإشباع الرغبات الخاصة. و يعني هذا في التحليل النهائي ان الفرد ليس إجتماعياً بالفطرة و انه في جوهره كيان مجرّد لا يمكن فهمه على اساس المعطيات الإجتماعية فقط لاسيما و ان تلك المعطيات من مخلوقاته. أطلق البعض على هذا المفهوم اسم " الفردية المجتمعية Sociological individualism) وقد عارضه بشراسة كثير من مفكري القرن التاسع عشر بمن فيهم الشيوعيون و اللآهوتيون و الوضعيون.
فكرة الفردية المنهجية ( Methodological individualism):
رغم اختلافها عن الفكرة السابقة إلا انها تُعتبر احياناً بمثابة خطوة تطبيقية لها، أي لفكرة الفرد المجرّد. و من اهم دعاتها المعاصرين الفيلسوف البريطاني السير كارل بوبر ( Sir Carl Popper) القائل بأن " جميع الظواهر الإجتماعية وعلى وجه الخصوص تلك المتعلقة بوظائف المؤسسات الإجتماعية لا بد أن يتم فهمها على اساس انها نواتج قرارات وأفعال و ميول و إتجاهات الأفراد. وعلينا دوماً ان لا نرضى بتفسير قائم على تجميعات ( كُتلات) ( Collectives).
و لعل أول من طرح فكرة الفردية المنهجية بوضوح هو الفيلسوف البريطاني توماس هوبس ( (Thomas Hobbes وهو القائل بأن الفهم الأفضل للظواهر عموماً يتأتى من خلال فهم مكوّناتها، والمكوّنات في حالة الظواهر الإجتماعية هي الأفراد. ولكن منذ بداية القرن التاسع عشر تعرّضت الفكرة لمواجهة قوية في فرنسا والمانيا من قِبل اللآهوتيين ( سانت سيمونز) والوضعيين ( كومت) والإجتماعيين ( دوركهايم) و الشيوعيين ( ماركس وهيجل). ولم يؤيدها ويدافع عنها غير النفعيين ( Utilitarians) وعلى رأسهم الفيلسوف البريطاني جون ستيووارت ميل ( John Stuart Mill) واخرين من روآد العلوم الإجتماعية و النفسية والفيسيولوجية.

الفردية السياسية ( Political individualism) :
عبارة عن مجموعة رؤى متباينة تجتمع فيما بينها على ان جميع أنماط الأنظمة السياسية تستمد شرعيتها وأسباب وجودها من اغراض الأفراد فيها و توقعاتهم منها. و بالإمكان إعتبار هذا النوع من الفردية أيضاً ممارسة تطبيقية لفكرة " الفرد المجرّد". وقد قصد بها توماس هوبس أن السلطة السياسية تأتي من الأفراد وليس بصك لاهوتي مقدّس او طائفة دينية. وقد ارتبطت هذه الفكرة التي سادت خلال القرن الثامن عشر إرتباطاً وثيقاً بالإقتصاد.
الفردية الإقتصادية ( Economic individualism):
ظهرت في البداية كفكرة مناهضة لتدخلات الدولة والكنيسة في نُظُم و ترتيبات الإقتصاد. و تبلورت كنظرية منذ منتصف القرن الثامن عشر بفضل كتابات الفيلسوف الإقتصادي البريطاني ادم سميث ( Adam Smith) واخرين في فرنسا مثل ترجو ( Turgot) و ماركيز دو ارجيسون ( Marquis de Argeson). و تنحاز النظرية الى فكرة قيام نظام اقتصادي عفوي ( Spontaneous economic system) يساند ويقوي الملكية الفردية وحرية السوق والإنتاج، والتبادل العِقدي، وحرية المصالح الفردية. و يُعتقد أن هذا النظام هو الأمثل والأفضل والأقدر على التقدّم و توفير اقصى الرضا للأفراد.
وقد تطورت النظرية كثيراً خلال القرن التاسع عشر على يد علماء الإقتصاد الليبراليين الذين إنقسموا فيما بينهم بحيث حبذ البعض نظاماً يدعو لعدم تدخّل الدولة في تفاصيل الشئون الإقتصادية ( Laissez-faire) و البعض الاخر حبّذ تدخلات إنتقائية ( Selective interventions). و جدير بالذكر أن الفيلسوف و المؤرخ الإقتصادي ماكس فيبر قد ربط بين ظهور الفردية الإقتصادية وقيام البروتستانتية ( Protestantism) في غرب اوروبا. و أسهب في كتاباته في بداية القرن العشرين عن "الخُلق البروتستانتي Protestant Ethics" كدافع قوي وراء تطور الرأسمالية الغربية ومن ثم النمو الإقتصادي الغربي ككُل.
الفردية الدينية ( Religious individualism):
ساعدت حركات الإصلاح الديني في اروبا وبخاصة الكالفينية ( Calvinism) على ظهور و تبلور فكرة الفردية الدينية، و ذلك من خلال التركيز على امرين: أولهما عدم حاجة الفرد لوسيط مثل الكنيسة أو القديسين أو القساوسة من أجل الخلاص و الوصول الى الخالق. و الامر الثاني أهمية ما أسموه " النور الداخلي Inner light" أو الضمير الشخصي غير الآبه بالثواب والعقاب من الخارج في تحقيق النقاء الروحي للفرد. ولعل خير ممثل للفردية الدينية هم بعض المتصوفة وبعض الوجوديين المتدينين من امثال سورين كيركجارد ( Soren Kierkegaard 1813-1855) والفيلسوف السويسري-الألماني كارل جاسبيرس ( Karl Jaspers 1883-1969) ، وهذا الاخير ليس ثيولوجياً بل طبيب نفسي وفيلسوف وجودي متديّن.
الفردية الأخلاقية ( Ethical individualism)
تتلخص في أن الفرد في الغرب هو مصدر القيّم والأخلاق والمعايير الخاصة بها. وحول هذا المفهوم جدال وسجال مستمرين حتى يومنا هذا. ففلاسفة الأخلاق البارزين في الفكر الغربي من أمثال امانيول كنت وديفيد هيوم لم يفلحوا تماماً في توضيح الأمر بالشكل الذي يفهمه القارىء العادي. فقد إنشغل كنت بقضية الأخلاق من منطلق مثالي غير شخصي، على حين اعتقد هيوم بالوحدة الأخلاقية بين البشر اجمعين ( Moral uniformity of mankind). بيد أن الخلاصة المنطقية النهائية لموقفيهما تُبرز الفرد كمرجعية عُليا للأخلاق.
وقد إستفحلت حِدّة السجال حول الفردية الأخلاقية خلال القرن العشرين خاصة بعد كتابات فلاسفة كبار من امثال نيتشه وفيبر عن اذمة الأخلاق لدى الناس. فقد دعا نيتشه للحرية الأخلاقية وإنعتاق الأفراد من عبودية القّيم البالية الموروثة ومن التقاليد المهينة لكرامة الإنسان. أما فيبر فقد نصح كل من يواجه مواقف أخلاقية متضاربة أن يقرر لنفسه أيهما لله وأيهما للشيطان. وبين المفكريّن يقف الوجوديون الملحدون امثال سارتر مساندين لفكرة الفردية الأخلاقية ولكن ليس بالدرجة " النتشية".
الفردية و نظرية المعرفة ( Epistemological individualism):
تتعلق بطبيعة المعرفة في علاقتها بالفرد. و بالإمكان إعتبار الإمبريقيين ( Empiricists) وهم اولئك الذين يعتقدون بأن المعرفة الحقيقية هي تلك الناجمة عن الأحاسيس. فهؤلاء من اتباع نظرية المعرفة الخاصة بالفردية، اذ يرون ان هنالك فروق فردية فى الإحساس والإدراك وبالتالي في فهم الأفرد للحوليات و الظواهر المحيطة بالفرد. و هؤلاء – من ناحية اخرى يعارضون نظريات اخرى في المعرفة تطرح أُطراً عامة ومحكّات كونية للمعرفة مثلما لدى دوركهايم و ويتجنشتاين بعكس جون لوك و ديفيد هيوم.
الفردية و الحداثة ( Modernity):
كما اسلفنا، ظاهرة الفردية بمفاهيمها وممارساتها متغلغلة في كل شعاب الثقافة الغربية ومؤسساتها، ولا يخلو أي مكوّن من مكوّنات الثقافة الغربية سواء نفسي أو سلوكي أو إجتماعي من آثار الظاهرة. ولا شك ان الحداثة بمفهومها الثقافي هي ايضاً من نواتج الغرب وهي بمثابة إنعكاس للحِراك الحضاري الغربي في كل زمان و مكان. فحِقب النهضة و التنوير والتصنيع و التكنولوجيا والمؤسسية و الليبرالية بكل تجلياتها بدأت و ترسخت أولاً في اوروبا الغربية ثم إنتشرت بواسطة الغربيين انفسهم الى اماكن وثقافات اخرى خلال القرنين المنصرمين. و من الواضح الجلي الان ان هذه المعطيات الاوروبية لم تُؤخذ على عواهنها في الثقافات غير الاوروبية بل تباينت الشعوب في إستقبالها وإستيعابها وتبنّيها بالكامل، و ذلك لأسباب مختلفة لعل اهمها أنها ليست من صلب تلك الحضارات بل دخيلة عليها و غريبة عنها. ولذلك إستوجب تعلّم تلك المعطيات توافر عدد من المقوّمات الأساسية،أولها القبول المبدئي عن فهم و مقاربة،وإختيار الأثر مواءمة مثل مناهج التعليم التقني والصحة والإقتصاد والصناعة والنقل والإتصالات واللغة وغيرها من العلوم التي برع فيها اهل الغرب. و الثاني، توافر عنصر التدريب على إتقان هذه العلوم والمهارات، و الثالث، وهو الأصعب_ التضحية ببعض التقاليد و الموروثات لإفساح المجال لإستيعاب المستجدات. وعلى الرغم من أن كثير من الثقافات غير الاوروبية قد إستوفت المتطلبات إلا انها ادركت أيضاً في النهاية أن تلك المعطيات ليست مجرّد منقولات يمكن اخذها خالصة من متعلقات غير متناهية، بل هي مرتبطة ببيئتها الأُم ولا تثمر نفعاً دائماً إلا في تربتها الأصلية التي هي تربة القيّم الاوروبية، و سمادها تلك الخصائص المميّزة التى ذكرناها سلفاً. ورغم ذلك نجحت بعض الثقافات فى الإختيار الإنتقائي الأمثل من الثقافة الغربية ومضت في تطوير نفسها دون الحاجة الى التخلّي عن بعض قيّمها. لكن من المرجّح في الأمد البعيد ان تتجه هذه الثقافات نحو مزيد من الأخذ بالنموذج الثقافي الغربي وبخاصة فيما يتعلق بقيّم حقوق الإنسان و الفردية والعلمانية والديموقراطية. و ذلك حفاظاً على مكتسباتها الحضارية.
لقد كان الفيلسوف ماكس فيبر من اوائل المفكرين الغربيين الذين إهتموا كثيراً بالعلاقة بين الحضارة الغربية والحضارات الاخرى من زاوية مواقف الاخيرة تجاه التأثيرات الحضارية الغربية عليها. وفي هذا السياق ميّز فيبر بين مظهرين إجتماعيين، احدها تقليدي عام ( Traditional) "موجود في كل المجتمعات في شكل افعال قائمة على إتجاه نفسي مرتبط بالحياة اليومية المعتادة وعلى الإعتقاد بالروتين اليومي كمعيار خفي للسلوك. و الاخر تقليدي خاص ( Traditionalistic) يميّز تلك المجتمعات التي تنحو الى بذل جهود عن وعي من اجل ترفيع قيّم وممارسات عفى عليها الزمن لمستوى معايير سلوكية حديثة" ( Weber in Hoselitz, 1966, pp. 14-15). ويرى فيبر أن المظهر التقليدي الخاص سائد في المجتمعات الإسلامية والآسيوية بوجه خاص ما يجعل هذه المجتمعات أكثر مقاومة من المجتمعات الاخرى للقيّم الغربية الحديثة.
مع نحسار الإستعمار الغربي بعد الحرب العالمية الثانية كثر الحديث عن نوع جديد من الحداثة وصُفت بأنها كونية ( Universal/ Global) وغير مرتبطة بالثقافة الغربية بشكل مباشر. و روآد الفكرة انفسهم من المفكرين الغربيين الذين تأثروا بهول الوحشية الاوروبية أثناء الحرب و اصبحوا ممن وُصفوا بالليبرالية و الرومانسية بسبب فقدانهم الثقة بعظمة اوروبا –على الأقل اخلاقياً وانسانياً- و بسيادتها المزعومة عاى العالم. و من ضمن هؤلاء إجتماعيون وعلماء انثروبولوجيا ولُغويون آمنوا بالنسبية الثقافية و الوظيفية والمساواة بين البشر وعدم منطقية الهرمية و التراتبية الثقافية.
و منذ خمسينات القرن الماضي اصبحنا نلحظ حماساً شديداً للحداثة الكونية. وذلك رغم تمسّك الكثيرين في الغرب بمفهوم ان الحداثة هذه ليست سوى شكل جديد من أشكال التغريب ( Westernization). و أن على شعوب العالم " إما ان تتبنى هذه الحداثة بوضوح أو تواجه مخاطر الإندثار" ( (Doob, 1966. ومقابل هذا التيار الفكري الذي بدأ في جامعة هافارد منذ الخمسينات ظهر تيار مضاد في نفس الجامعة يرى ان الحداثة ليست حكراً للغرب وأنها متوافرة لكل شعوب العالم القادرة على إستيفاء حقها من التعليم الرسمي وتكنولوجيا التصنيع والتمدّن. ولإثبات صدقية هذا المقال اجرى العالمان الإجتماعيان اليكس انكليس ( Alex Inkeles) و ديفيد سميث ( David Smith) خلال الستينات من القرن المنصرم سلسلة من الدراسات في ستة بلدان نامية كان الهدف منها قياس درجات الحداثة لدى الأفراد في تلك المجتمعات على مقياس سُمي " مقياس الحداثة الشاملة" ( The Overall Modernity Scale-OM) ( Inkeles, 1969). و من خلال التطبيق و التحليل في الست ثقافات توصّل انكليس وفريقه البحثي الى وضع تصوّر لما اسموه " الشخص العصري المثالي" ( The Ideal Modern Person) الذي يتميّز بالخصائص التالية:
الإنفتاح للتجارب و الخبرات الجديدة.
إبداء تميّز متزايد وإستقلالية عن سلطة الأشخاص التقليديين.
إعتقاد بكفاءة العلم والطب الحديث.
الطموح للذات و الأنجال في التحصيل وبلوغ غايات علمية و مهنية عليا.
الإنضباط في الزمن و التخطيط لبلوغ الأهداف.
إهتمام شديد بشئون المجتمع الخاصة والعامة.
متابعة الأخبار المحلية و العالمية.
وبحسب انكلس تجتمع كل الخصائص أعلاه لتكوّن زملة سمات سمّاها انكلس " زملة الحداثة Modernity Syndrome"، إذ ان معامل الترابط بينها تتراوح ما بين 75% و 87%. ولعل أهم النتائج هو ان زملة الخصائص هذه كونية تميّز بين الأفراد في اي مجتمع اينما كان.
و باحث اخر دؤوب أسهم كثيراً في هذا المجال على غرار إسهام انكليس وهو هاري ترياندس و فريقه من هارفارد أيضاً ( Triandis et.al., 1972)، وقد توصّل هؤلاء بدورهم خصائص للإنسان العصري مشابهة الى حد كبير لما ذهب اليه انكليس و رفاقه وهي كما يلي:
الإنفتاح للتجارب والخبرات الجديدة.
الإستقلال النسبي عن سلطة الأبوين.
الإهتمام بالزمن و التخطيط.
القدرة على إرجاء الإشباعات الآنية من اجل مكاسب اكبر لاحقاً
الإعتقاد بقدرة الإنسان تدريجياً على السيطرة على الطبيعة.
القدرة على التحّكم في التدعيمات الآتية من البيئة.
الإعتقاد بالعلم والحتمية.
تبنّي رؤى كونية ( Cosmopolitan) و التعامل مع مجموعات واسعة و متنوعة.
التنافس حسب معايير عليا.
التفاؤل تجاه إمكانية السيطرة على البيئة المحيطة.
لا شك في ان وجود بعض الخصائص المذكورة اعلاه في افراد لا ينتمون للثقافة الغربية امر لاجدال فيه، ولكن إصرار الباحثين علي فرضية ان تلك الخصائص لا تأتي فراداً بل في شكل " زملة" أو " حزمة" هو الشىء الذي يدعونا للشك في صدقية الفرضية. أضف الى ذلك ان وجود خصائص الحداثة بأي شكل كان لدى الأفراد لا يعني انها متأصلة في ثقافتهم. إذ يُلاحظ في كثير من الأحيان ان الفرد " العصري" أو " المتمدن" في الثقافات الاخرى قد يُظهر ايضاً سمات الحداثة على سطح رواسب ثقافية نقيضة و مترسّخة في شخصيته ما يعني ان تلك الخصائص الحداثية ليست في الحقيقة سمات نفسية و سلوكية متجذّرة بقدر ما هي مظاهر موقفية تتجلى في مناسبات بعينها. و عليه يمكننا القول بأن علماء الحداثة من أمثال انكليس و سميث و ترياندس لم يوفّقوا في محاولاتهم لإثبات ان خصائص الحداثة كامنة طبيعياً في كل الثقاقات و ليست مقتصرة على الثقافة الغربية بالتحديد. و لكنهم برهنوا قطعياً بأن في كل ثقافة يوجد افراد " متمدنون" و " عصريون" بسبب تعرضّهم لعوامل الحداثة الغربية و كذلك بسبب القابلية لديهم للإصابة بفيروس ( ان صح التعبير) الحداثة الغربية ولو بشكل سطحي ( McClelland, 1966). اما أن نذهب لحد القول بأن هؤلاء الأفراد قد اصبحوا " متمدنين نفسياً ( Psychologically modernized) بمعنى انهم استدخلوا ( Internalized) القيّم المثلى للحداثة الغربية ضمن تكوينهم النفسي بما فيها عنصر الفردية فهذا امر غير متوقع الحدوث ما لم يكن الشخص قد حظي بتدريب له أو رضخ لعمليات تطبيع إجتماعي وثقافي ( Socialization/acculturation) طويلة ومكثّفة. و عملياً نجد أن الغالبية العظمى من البحوث والدراسات المقارنة بين الثقافات حول متغير الحداثة ومن ضمنها دراسات انكليس و اسميث وغيرهما كُثر،اثبتت ان الدول الغربية دائماً تتصدّر قوائم الدول في جميع بنود الحداثة ما يعني أن الظاهرة غربية الأصل والأساس. كما يُستنتج من هذه الدراسات ان مفهوم " الزُملة" أي زملة الخصائص المميّزة للحداثي المثالي ( Ideal modern person)قد لا تتوافر مجتمعة إلا لدى اشخاص منتمين للثقافة الغربية ( وبالطبع ليس جميعهم). اما في بقية ثقافات العالم فإن بالإمكان الحديث عن وجود شخصيات " حداثية" أو "متعصرنة" ( Modern persons) أخذت من الثقافة الغربية جوانب مُنتقاه وهي في الغالب الأعم خصائص مادية وإجتماعية تلائم معطيات ثقافة الفرد التقليدية وليست نفسية/عقلية تتعارض مع تلكم الثقافة. ومن المعروف ان اوروبا الإستعمارية نفسها قد دأبت على الفصل بين الجانبين والتركيز على النواحي المادية و الإنتاجية على حساب الجانب النفسي/العقلي من اجل إستمرار سيطرتها على الشعوب الاخرى. وتحقيق منافعها المادية من وراء ذلك ( Clough, 1960; Benedict, 1934). ومعروف ايضاً أن الجانب المادي من اية ثقافة هو الأكثر قابلية للتداول في مواقف الإحتكاك بين الثقافات لكونه غير مترسّخ ومستقر بل يتسم بدينامية حركية على السطح.
الحداثة الكونية و الفردية الاوروبية:
الظاهرتان اوروبيتان من حيث المنبع. الحداثة الكونية نتاج الفكر الاوروبي ما بعد الإستعمار العضوي للشعوب الاخرى و مؤداها ان من شأن المعطيات الثقافية الغربية وبخاصة الصناعة و التعليم المساعدة على تحديث العالم من دون التأثير بالسالب على خصوصيات الشعوب الاخرى. وهذا صحيح من حيث ان العالم كله يستفيد من الإنجازات العلمية الغربية في شتى مجالات الحياة. ولكن تظل الإستفادة منقوصة لأسباب متعددة و من أهمها ما يلي:
تركيز الامم الاخرى على المنتج النهائي الغربي بحد ذاته من دون إهتمام بمنظومة القيّم الكامنة وراء تبلور المنتج. شأنهم في ذلك شأن الجمهور المبهور امام الساحر يريهم بضاعته في كمالها دون تفاصيل التكوين عقلاً و سلوكاً. ألا يكمن الشيطان والعياذ بالله في التفاصيل؟!
أهم القيّم الإنتاجية في الثقافة الغربية هي الفردية أو التميّز الشخصي قيمة لا تأتي تلقائياً مع صادرات الغرب للعالم إلا في حالات محددة تستوجب التدريب و التعليم لقلة من الأفراد تتسم علاقاتهم بثقافاتهم المحلية بالضُعف البائن.
تفشي الأُمية وضعف مؤسسات التعليم و انتهازية النُخب في غالبية البلدان غير الغربية تحيل الشعوب الى جماعات مستهلكة للمنتج الغربي كما هو من دون تحمّل عبىء المواءمة و التكييف.
بديهي أن قيّم الفردية والحرية الشخصية المسئولة الى حد ما عن الإنجازات الغربية لا تنمو ولا تثمر في المجتمعات والثقافات الشمولية.
كما هو معلوم أحدثت الثورة الصناعية في اوروبا طفرة هائلة في نمو المجتمعات الغربية. ولأن الصناعة بطبيعتها ترتكز في تطورها على آفاق جغرافية واسعة من أجل تأمين احتياجاتها فقد اصبح لزاماً على الغرب التمدد خارج نطاقها الجغرافي بحثاً عن المواد الخام و العمالة لمصانعها و مزارعها. وجراء الجهود الكبيرة التي بُزلت منذ القرن الثامن عشر لتطوير الصناعة و الإقتصاد في الغرب تغلغل النفوذ الغربي في معظم ارجاء العالم ، وتكثّف احتكاك الثقافة الغربية في شكلها المادي المركّز بالثقافات الاخرى. و نتج عن هذا الإحتكاك قيام مدن كوزموبوليتانية في انحاء مختلفة من العالم بما فيها اوروبا نفسها. و قامت شركات تجارية وصناعية ضخمة على أسس كونية ايضاً وليس فقط على اساس القيّم الغربية الصرفة التي انسحبت تدريجياً متحصّنة بالريف الاوروبي كملاذ آمن لها الى حين.
تلك الكيانات التجارية/ الصناعية ذات المنشأ الغربي كان من شأنها إعلاء و ترسيخ الجانب المادي من الثقافة الغربية على حساب الجانب النفسي من خلال تركيزها على الربح المادي مقابل إذهاق كرامة العمّال وإستغلال المستهلكين حتى في الغرب نفسه. وهذا مما حدى بكثير من المفكرين وفلاسفة غربيين من امثال كارل ماركس و هنري ثورو و جون ديوي واريك فروم انتقاد ذلك التوجه الجديد في مسلك الحضارة الاوروبية. ولكن هذا النوع من التصدّي لم يوقف سريان التيار المادي الاوروبي بعنفوانه المعهود حتى اليوم حيث نشهد طلائع مظاهر العولمة المادية مرفوعة على اكتاف شخصيات حداثية تتشارك في كونها هجينة من تلاقح الثقافة المحلية والمادية الاوروبية.
وفي اعتقادنا ان مثل هذه الشخصيات التي تتكاثر بشكل واضح في كل مكان بما في ذلك الغرب نفسه لا تستطيع الإسهام بفعالية و إيجابية في تنمية و تطوير ثقافاتها لكونها تفتقر الى الخاصية الإنسانية الضرورية للنمو و التطور ألا و هي " الفردية"المتمثلة في الإستقلالية الفكرية وحرية الإرادة، وإحترام حرية الاخرين، و التحكّم الذاتي، و الوعي بالذات، و الإعتماد على الذات، وتحمّل المسئولية الشخصية، و خدمة المجتمع، والتمسك بالقيّم الكونية( العدالة، المساواة) والحقوق الفطرية و المكتسبة. هذه بإختصار هي مكوّنات الفردية الغربية وليس الفردية الرقمية ( Digital individualism) التي تميّز الانسان المتمدن ( The modern person) عمن سواه في كل العالم. و نعتقد أن عبارة " الفردية الرقمية" مناسبة للغاية كوصف للشخصية الحداثية التي تستمد هويتها من كونها مجرّد رقم وظيفي في مؤسسة حديثة أو كما وصفها العلّامة النفسي اريك فروم ( Erich Fromm) " مجرّد وصلة ثانوية في آلة A cog in a machine".
الفردية و الثقاقة العربية:
تُعتبر الثقافة العربية ثقافة جمعية ( Collective Culture) من كل النواحي، وكذا المجتمعات العربية أينما وُجدت، يميّزها عن المجتمعات الغربية كونها مغموسة في محيط كثيف من العادات و التقاليد الراسخة ما يجعل الفارق بين الفرد و الجماعة مجرّد فارق عددي (كمي وليس نوعي). وقد اشار الى ذلك منوهاً عدد كبير من علماء الإجتماع بمن فيهم العلّامة ابن خلدون قبل حوالي اربعة قرون. و هذا على الرغم من وجود نصوص قرآنية عن قيّم الفرد و الفردية بجانب إعلاء مقام الجماعة في نصوص اخرى كثيرة. و من النصوص القرآنية المساندة للفردية ما يلي:
( قُل أغير الله أبغى رباً وهو ربُّ كُل شىء ولا تكسب كُلُّ نفس ٍإلا عليها ولا تزِرُ وازِرةُ وِزرْ أُخرى ثم الى ربكم مرجِعُكم فيُنبئكم بِما كنتم فيه تختلفون) ( الأنعام 164).
( من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه و من يضِل فإنما يضِل عليها ولا تزِر وازرة وِزر أُخرى وما كُنّا معذبين حتى نبعث رسولاً) ( الإسراء، 15).
( و أن أتلو القرآن فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه و من ضل فقل إنما أنا من المُنذرين) ( النمل 92).
رغم وجود تلك النصوص القرآنية فإن الثقافة العربية الإسلامية ترفض التمسُّك بها كممارسة طبيعية و تحارب الفردية في كل تجلّياتها الجوهرية بما فيها الصوفية " المغالية" في الفردية. وهذا بعكس ما يحدث في الثقافتين العبرّية و المسيحية اللتان هما الأقرب للثقافة العربية الإسلامية. فالإحتكاك طويل الامد بين العبرية والمسيحية ( بغض النظر عن سلبياته و ايجابياته) قد اتاح للعبرية ( اليهودية) مواكبة التطورات في الحضارة الغربية عن كثب بل والتأثير عليها من الداخل ولاسيما فيما يتعلق بالإقتصاد و السياسة ( الديوقراطية، العلمانية، الفردية). أما الثقافة العربية والإسلامية فقد توقفت تأثيراتها على الثقافة الغربية بعد ترجمة الفكر الإغريقي القديم الى اللآتينية في شراكة مع اليهود. ومنذئذ ظلت التأثيرات العربية على الثقافة الغربية خارجية وغير ذي بال بعكس اليهودية التي ما إنفكت تتفاعل مع الثقافة الغربية طوال الوقت رغم عوائق اجتماعية ودينية تظهر و تختفي منذ امد بعيد. و يبدو ان العرب خلال الثمانية قرون التي حكموا فيها اجزاء من اوروبا لم يستسيغوا قيّم الفردية الاوروبية وقضوا السنوات الطوال في النزاعات السياسية فيما بينهم و ممارسة الدسائس و المكائد والإغتيالات و محاولات تثبيت شمولية انظمة حكمهم. وقد لا نستثني انظمة الحكم الاوروبي السائدة آنذاك من ارتكاب مثل تلك الممارسات، لكن من المؤكد ان تلك الظواهر كانت اكثر غلواً لدى الحكّام العرب في " اندولوسيا".
الدليل القاطع على ان العرب لم يستسيغوا كثير من مظاهر الحضارة الغربية وبخاصة " الفردية" انهم لم يهتموا منذ القِدم بكتابة السيّر الذاتية ( Autobiography) كموضوع تاريخي أدبي مفيد في نمو و تطور الحضارة. فهذا النوع من الكتابة هو الأوثق إرتباطاً بالفردية إذ تتجلى فيه كل مكوّنات الفردية التي اشرنا اليها سلفاً. فيه قدر من حرية الإرادة والتعبير، و فيه إنعكاس للوعي بالذات والحكم الشخصي على الأحداث و الخبرات،وفيه إستقلال فكري و نقد للذات، وفيه تقييم للاخرين و تحكّم ذاتي على التفاعل الإجتماعي، وفيه خدمة للإنسانية، وفيه تاريخ و علم. فالغربي عندما يكتب سيرته الذاتية يكتب عن حياته كيفما عاشها وخصوصياته كيفما خبرها مؤكداً انه عاش حياةً كاملة ولا يهمه بعد ذلك ما يُقال عنه مدحاً أو قدحاً لأنها حياته هو وخبراته هو كفرد. فهو يكتب عن نفسه و لنفسه اولاً ثم للإنسانية بعد ذلك و يتحمل شخصياً مسئولية ما يكتب. وهكذا فعل اعداد كبيرة من مشاهير المفكرين الغربيين ومن ابرزهم: اوجستين ( Augustine) و ابلارد (Abelard) و كمب ( Kempe) و سليني ( Cellini) و كاردانو ( Cardano) و مونتين (Montaigne) و روسو ( Rousseau) و جوته ( Goethe) و بنجامين فرانكلين ( Benjamin Franklin) و بضعة آلاف من المحدثين المبدعين.
و منذ اواخر القرن الثامن عشر وحتى منتصف القرن العشرين كان إهتمام بعض المفكرين الغربيين لافتاً بظاهرة كتابة السيرة الذاتية و انتشارهافي الثقافة الغربية بدرجة تفوق في الكم و الكيف مقدار ما تنتجها الثقافات الاخرى ( Reynolds, 2001). و مفكّرون من امثال جوته و هيردر و ديلثي إعتبروا السيرة الذاتية من أهم مصادر التاريخ الإنساني بجانب قيمتها التاريخية. و اخرون من امثال جورجس جاسدورف ( Georges Gusdorf) و روي بسكال ( Roy Pascal) و جورج ميزش ( George Misch) و فرانز روثينثال ( Franz Rothenthal) قاموا بإجراء دراسات مقارنة بين الثقافات و بخاصة بين الثقافتين العربية و الغربيةحول كتابات السيرة الذاتية بحسب المعايير الغربية. و رغم قلة النصوص العربية التي تم فحصها خلص الباحثون الى ثلاث نتائج هامة وهي كما يلي:
كتابة السيرة الذاتية ممارسة نادرة في الثقافة العربية وهي قي الغالب الأعم لا تعكس مستوى الوعي بالذات لدى المؤلف بقدر ما تركّز حوادث وقضايا عامة.
السيرة الذاتية العربية تشكّل نصوصاً مبعثرة و متفرقة لا تجمع بينها رابطة منطقية و واضحة.
مضامين السيّر الذاتية العربية غالباً ما تكون خالية من مقاييس لمدى المصداقية.
بالإمكان ارجاع النواقص في كتابة السيرة الذاتية الى ثلاثة اسباب رئيسة ,هي في نظري:
انخفاض مستوى الفردية لدى المؤلفين وبالتالي النقص في الثقة بالنفس و في الجرأة والشجاعة الأدبية.
الرغبة الشديدة في القبول الإجتماعي و الخوف من عدم الإنسجام الاخلاقي الذي قد ينعكس بالسالب ليس فقط على المؤلف بل ايضاً على آله وصحبه.
غياب نموذج مثالي وعلمي عربي لكتابة السيرة الذاتية يضمن سلاسة السرد والمصداقية في آن واحد.
يتخذ المفكّرون الغربيون من كتاب القديس اوجستين " اعترافات Confessions" انموذجاً حياً لكتابة السيرة الذاتية. وقد نشأ القديس اوجستين في شمال افريقيا خلال القرن الرابع الميلادي و كتب عن الثلاثين سنة الاولى من عمره بالتفصيل.و هذا مما يقوّي في اذهان المفكرين الغربيين فرضية ان فن كتابة السيرة الذاتية تأصلت في الدين المسيحي بوجه خاص. علماً بأنه لم تصدر عن الثقافة الغربية المسيحية اي مؤلف مؤلف اخر مشابه بعد كتاب اوجستين الى ان جاء الفيلسوف الإسلامي الإمام الغزالي بعد حوالي ستة قرون بكتابه " المنقذ من الضلال" ومن بعده سموءل المغربي ( 1174م) و أسامة بن المنقذ (1188) و ابو شامة ( 1268م). ولكن لا يرى الباحث روزنثال وغيره في هذه المؤلفات ما يثبت أنها مطابقة للمعايير الغربية الخاصة بكتابة السيرة الذاتية. ليس هذا فحسب بل ان روزينثال ينتقد اعمال باحثين عرب معروفين في هذا المجال من أمثال احسان عباس و شوقي ضيف بأنها لم تفلح في وضع تعريف محدد للسيرة الذاتية العربية تسهّل عمليات المقاربة و المقارنة بالممارسة الغربية. و الى حين الوصول الى نقاط إلتقاء أو تمايز واضحة ستظل جميع المحاولات العربية لكتابة السيرة الذاتية حتى الوقت الراهن تقليداً و محاكاة للممارسة الغربية لا تُفضي لمنفعة لاحد.
الفردية و التنمية الإجتماعية.
من ضمن الحقائق المتفق عليها من قِبل الباحثين النفسيين و الإجتماعيين ما يلي:
وصول الإنسان الى طور في النمو الحضاري يستوجب محاربة عشوائية النمو والتنمية بكل اشكالها و يستلزم توخي التخطيط و التقنين و التدريب في كل شىء بما فيها التنشئة و الإنتاجية و الإبداع.
الفرد هو المكوّن الرئيس والأساس للمجتمع و لذلك لا بد ان ينمو و يحقق ذاته الى اقصى درجة ممكنة وفق خطط مدروسة وفي أجواء مساندة و مشجعة غير قامعة أو مثبّطة.
النمو السليم للمجتمع يتحقق بسلامة نمو الأفراد في كل مرحلة من مراحل العمر.
كثير من الدراسات العلمية اثبتت ان هنالك متطلبات نمائية لا بد ان تستوفى من اجل بناء الشخصية المنتجة.
داخل كل فرد طبيعي امكانات هائلة و مفيدة لذاته و لمجتمعه وان إستثمار المجتمع في التنقيب عن هذه الإمكانات و توظيفها يعود عليه بفوائد جمة. لذلك تعتبِر المجتمعات المتقدمة كل المعوّقات النمائية بما فيها الفقر و المرض والجهل كوارث كبيرة خاصة عندما تطال الصغار.
أقوى المؤشرات لنمو و تطوّر اي مجتمع هو فردية أفراده، لأي تمايز الأفراد بوضوح بحيث تكون لكل فرد شخصية مستقلة نفسياً عن الاخرين كما البصمة.
الفوارق البيولوجية بين الأفراد لا تحول دون تحقيق الذات لخدمة المجتمع.
مع التسليم بالحقائق المذكورة اعلاه نؤكد مرة اخرى ان ظاهرة الفردية هي ظاهرة ترسخت في الثقافة الغربية قبل غيرها وساعدت بطرق مباشرة على نهضة تلك الثقافة. ولا يعني هذا ان الثقافات الاخرى غير مؤهلة او قادرة على إكتساب الخاصية بل يحتاج الامر الى تدريب و تعليم خاصة في اطار التنشئة الإجتماعية داخل الأُسرة و المدرسة و المجتمع عموماً. و نستطيع الجزم بأن المبدعين و الموهوبين في اي مجتمع – مهما كان بدائياً هم في الأصل "فرديين" في شخصياتهم، إلا انهم يكونون بمثابة " نبت عشوائي" يدعونا دائماً للتساؤل: من أين اتى هؤلاء؟ ففي ثقافتنا العربية الإسلامية نجد دعوات مقدّسة من القرآن الكريم لممارسة الفردية بمعناها الصحيح " ولا تزِر وازِرة وزر اخرى" وليس بالمفهوم الشائع الذي يرتبط بالأنانية وحب الذات و الإستهلاكية التي تميّز الإنسان " المتمدن/ الحداثي The modern person" عن الإنسان الفردي أو الفريد ( The individual) الذي يمثله في نظري أشخاص من نوع المعرّي و ابن العربي وجبران خليل خبران وغيرهم كُثر.
ثمة فروق رئيسة بين "الإنسان العصري/ المتمدن" و "الإنسان الفردي" و نورد فيما يلي بعض الفروق التي لا بد ان تُؤخذ بعين الإعتبار عند تصميم برامج خاصة بالتعليم والتدريب على "الفردية":
الإنسان الفردي
الإنسان العصري/ المتمدن/الحداثي
حرية فكرية شخصية تحترم حريات الاخرين و آرائهم. ولا تتأثر بالخرافات و المجاملات و الإشاعات.
حرية فكرية لا تحترم حريات الاخرين و تتأثر بالخرافات و المجاملات و الإشاعات.
استقلالية في التفكير دون تأثر بالتقاليد وبمرجعيات فكرية عليا. ناقد موضوعي.
تبعية في التفكير و تقليد الاخرين و المحاكاة. ناقد غير موضوعي.
إنتاجية عالية قائمة على اساس الأخذ و العطاء.
استهلاكية عالية مع التركيز على الأخذ.
أخلاقيات كونية عن العدل و المساواة وضمير إنساني رقيب لا يتأثر بالثواب و العقاب الخارجيين.
أخلاقيات محلية متأرجحة تمليها المصلحة الشخصية، و ضمير غير ناضج انسانياً يحكمه الثواب والعقاب الخارجيين.
عدم انبهار بالإنجازات العلمية على اساس أن العلم عملية مستمرة و سلاح ذو حدّين في خدمة الخير و الشر ما لم يرتبط بالأخلاقيات الكونية.
إنبهار بالعلم بحسبانه الغاية العليا والوسيلة المثلى لتحقيق مكاسب مادية شخصية و مكانة اجتماعية.
ميل للعمل التطوعي لخدمة الاخرين وتبنّي
قضايا إنسانية وبيئية ملحّة
التكسّب و الترّبح من خدمة الغير.
تحمّل مسئولية القرار الشخصي.
إلقاء اللوم على الاخرين عند فشل قراراته.
ضبط النفس و التحكّم على المؤثرات الخارجية.
ضعف ضبط النفس و التأثر غير المدروس بالخارج.
إعتقاد بأن الزمن ماضيٍ وحاضر ومستقبل
الزمن حاضر و مستقبل.
إنفتاح إنتقائي للأفكار و الخبرات الجديدة.
إنفتاح عشوائي للأفكار و الخبرات الجديدة.
ثبات نسبي لخصائص الشخصية.
تقلّب مزاجي للخصائص.

المراجع
القرآن الكريم
Barnouw, W. (1963). Culture and Personality. Homewood, Il: The Dorsey Press.
Bellah, R. (1986). Individualism and Commitment in American Life. ( Lecture). Santa Barbara: University of California.
Bellah, R.; Madsen,R; Sullivan, W; and Tipton, S. (1985). Habits of the Heart. Berkeley: University of California Press.
Benedict, R.( 1934). Patterns of Culture. New York: The American Library.
Bramann, K. ( 2006). The Educating Rita Workbook. Retrieved June 15from: http:// faculty.frostburg.edu/phil/forum/kant.htm
Clough, S. ( 1960). Basic Values of Western Civilization. New York: Columbia University Press.
Doob, L.( 1960). Becoming More Civilized: a Psychological Explanation. New Haven: Yale University Press.
Dumont, L. ( 1992). Essays on Individualism: Modern Ideology in Anthropology lcal Perspective. Chicago: University of Chicago Press.
Fleming, J. ( 2007).Individualism. Retrieved June 23 from
http://faustasblog.com/labels/theology,html
Grab, E.; Baer, D.; and Curtis, J. (1999). The Origins of American Individualism: Reconsidering the Historical Evidence. Canadian Journal of Sociology, 24,4: 511-533.
Gramstad, T. ( 2003). POP Culture: Premises of Post-Objectivism. Retrieved September 15 from:
http://folk.uio.no/thomas/po/buddjectivism,html
Hoselitz,B.(1966). Main Concepts in the Analysis of the Social
Implications of Technical Change. In Industrialization and Society. B. Hoselitz and W. Moore (eds). Paris: UNESCO.
Inkeles, E. (1969).Making Men Modern: On the Causes and Consequences of Individual Change in Six Developing Countries. American Journal of Sociology, 75,2,pp. 208-225.
Cramer, H. and Kimball, B. (eds. 2002). The Survival of Culture: Permanent Values in Virtual Age. Chicago: Nat Book Network.
Lloyd,w. (1953). American Life: Dream and Reality. Chicago: University of Chicago Press.
Lispet, S. ( 1968). Revolution and Counter Revolution. New York: Basic Books.
Lukes,S. ( 1973). Individualism. Oxford: Basil Blackwell.
MacDonald, K.( 1980). What Makes Western Culture Unique? The Oxidental Quarterly, 2,no. 2, pp.1-22.
Macfarlane, A. (1979). The Origins of English Individualism. Oxford: Basil Blackwell.
McClelland, D.( 1966). The Impulse of Modernization. New York: Basic Books.
Nisbet, R. ( 1980). History of the Idea of Progress. New York: Basic Books.
Renaut, ( 1999). The Era of the Individual. Princeton , NJ: Princeton University Press.
Reynolds, D. (ed. 2001). Interpreting the Self: Autobiography in the Arabic Litrary Tradition. Berkeley: University of California Press.
Runner, L. ( 2006). Done with Mirrors. Retrieved June 10 from:
http://vernondent.blogspot.com
Origins of American Political Thought. Princeton: Princeton University Press.
Thinkarete (1980). Life and Teachings. Retrieved May 23 from:
http://thinkarete.com/wisdom/works/notes/1431/
Triandis,H.; Vassilion, G.; Tanaka, Y.; and Shanmugam, A. (1972). The Analysis of Subjective Culture. New York: Wiley & Sons.
Wikipedia (2007). Liberalism. Retrieved September 12 from:
http://wikipedia.org/wiki/liberal