إحدى فوائد التأمل في أمراض الواقع المادي المعاش لنا كسودانيين تحسبُ وتعدُ في أساليب وأنواع ونتائج التفكير المتخذة نحوه وتجاهه. والتفكير بوصفه عملية ذهنية تعنى بتحليل المعلومات، واستخلاص النتائج المرجوة في أصل أشكاله ووظائفه معنى وبصفة أساسية بمرحلة الإدخال الصحيح للمعلومات، أو المدخلات المعرفية. وبالقدر الذي يمكن فيه أن تصبح المعلومات أو المدخلات المعرفية القاعدة والمنصة لانطلاق وصناعة الحلول فإنها قد تصير القاعدة والمنصة لانطلاق التصورات والمفاهيم والأحكام الخاطئة المخلة في تحليل الواقع وفهمه بصفة جيدة. ولا غرو أن الكثير من النتائج الخاطئة تعود إلى البدايات والتأييدات الأولية الخاطئة، غير المتزنة أو المتوازنة. وأجد أن من أهم مشكلات العقل النقدي السوداني في المجالات كافة وخاصة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية خلوه من المدخلات المعرفية الصحيحة الدقيقة المتوازنة المحققة علميًا. إنها وبعبارة أخرى مشكلة صناعة المعلومات اللازمة لإجراء التفكير كعملية. فالمعلومات أو البيانات باللغة المحدثة، وفي حقول ومجالات شتى لا تتصف بعدم التوازن العقلي فقط بالنحو الذي لا تتوفر فيه. وسأتخذ مثالاً عملياً هنا بأخذ فكرة التغيير كمشترك بين أعداد ضخمة من السودانيين في ظروف مثل ظروفنا الراهنة.
أقول إن مشكلة التغيير ليست في آلياته، أو الأساليب المتبعة لتحقيق النتائج منه، بل في إدارة الأفكار التي يمكنها هي فقط من إعطاء وتوفير المطلوب والمستحق منه. فإدارة الأفكار المستحقة من التغيير لا تعني وضع واعتماد (الإنقاذ) كظاهرة تتطلب التخلص منها بقدر ما التخلص وفق معلومات أو بيانات دقيقة تفي وصناعة المعلومات التي ترقى إلى مستوى المدخلات المعتمدة، القمينة بالاعتماد أو القبول لإجراء التغيير كهدف مستمر ومستدام للواقع الاجتماعي بتنوّعه وكلياته. ذلك يعني السيطرة المعلوماتية المحكمة التي تقود إلى تفكيك الظاهرة من كل جوانبها وعلاقاتها التركيبية، وهو ما لا يحفل به أو يضطلع بمهمته العقل السياسي غير الآبه بأهمية التفكير النقدي العلمي. فالعقل السياسي غير مهتم بمحو ظاهرة الإنقاذ وتصفيتها كظاهرة ضارة بالقدر الذي يهتم فيه بإحراز نتائج ديماغوغية، آنية، ونفعية مجزأة ما قاد ويقود إلى حسن صنعة وصناعة المتاهات السياسية، وتسريب الخذلان بعدم تحقيق الأهداف المباشرة من التفكير النقدي وخلق البدائل ومنها الواقع البديل.
السيطرة أو حسن التحكم والإدارة لتصفية الإنقاذ كظاهرة يعني إخضاعها إلى جهد معلوماتي وفير، بالغ الثراء يمكن أن يساعد على الوصول إلى النتائج البديلة.
وإذا ما أردنا أن ندلف إلى لب القضية كقضية إدارة معلوماتية نجد أن المتسبب والفاعل المعلن والخفي في تخلقها وتشكلها يتمثل وقبل كل شيء في غياب المكاتب أو المكتب القائد للتفكير الذي يمكن وفي نهاية المطاف أن يصبح معنياً بإنتاج نظرية التغيير أو الثورة نفسها.
إن ثورة ديسمبر المجيدة وعكس ما يتسم به تفكير الحادبين عليها وعلى إحداث التغيير لا تحتاج إلى كاريزمات فردانية بقدر احتياجها إلى توافق جماعي يقود لتشكيل المكتب القائد للتفكير والعمل بنتائج تفكيره بتحويله إلى خطط وقرارات قابلة للتنفيذ. فالإنقاذ كظاهرة سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية ونفسية يجتمع معظم السودانيين من مستنيرين وغيرهم على عمق سيئاتها وفداحة أخطارها ومخاطرها في الماضي والحاضر والمستقبل دون اختلاف أو تصدع في الموقف العام منها. ولكن وعندما يبدأ العمل (كما رأينا) من حاضنتنا السياسية وجهازنا التنفيذي أو حكومتنا الانتقالية المنوط بهم تحقيق البديل الديمقراطي الثوري البديل ستختلف النتائج وتتصادم الرؤى ويختلف الناس مما يشير إلى وقوع النكبة في الجانب الاستراتيجي المتخذ. وتتنكب الاستراتيجية ليس بسبب تعدد القوى والمصالح وتداخلاتها المتفاقمة المتعاظمة فقط بالقدر الذي يحدث فيه ذلك بسبب المدخلات المعرفية النقدية المُخلة عنها كظاهرة والذي تلعب فيه زاوية النظر، ودرجة عمق أو شكلية المصلحة دورًا به.
ذلك ما لم يجد التحليل الكافي الدقيق مما يحول الجهد والمجهودات القائمة لدحر الإنقاذ إلى آفة إضافية تضاف إلى الموضوع الأصل كآفة شكلت انطلاق الجهود الثورية للقضاء عليها بالأصل. هنا تتشتت الأفكار وتتبدد الطاقات، وبدلاً من أن تنتظم وتستهدف اتجاهات التفكير النقدي لدى القوى الراغبة في صياغة مستقبل ساطع بديل تذهب اتجاهات ومضامين التفكير السياسي لدى تلك القوى إلى نقد الفروع والمتفرعات ومصارعة بعضها البعض بالخصومة والاختصام فيما أعتبره ثمراً قد حان وقت نضجه واقتسامه. فنحن لم ننجز الثمر بعد ولم نوفر المعلومات والبيانات الضرورية لنمو أشجاره وهذا ما تفسره ظاهرة الصراع والاختلافات السياسية بين القوى ذات المصلحة في التغيير وتحقيق أهداف الثورة بما تنتجه من نتائج ضارة يكون المستفيد منها هي (الإنقاذ) الظاهرة الأُم – الموضوع للتفكير النقدي والعمل الثوري بالبدايات.
هنا تتم صناعة الرسائل المضادة بضرب الوحدة النفسية للثورة وقواها بتوفير كافة أسباب القتل والاقتتال وزرع الفتنة فيما بينها.
المطلوب عاجلاً وليس آجلاً تمثيل كافة قوى الثورة بمكتب قائد للمعلومات والبيانات يغذي الحكومة الانتقالية بالوصفات الإستراتيجية للتغيير على أن تتكون له مكاتب استشارية متخصصة بكل المجالات تعنى بالتفاصيل وبحيث يمثل في كل ذلك بأفضل السودانيين من حيث القدرات والمواهب والإنجازات في التفكير العلمي العملي وليس مجرد القدرات في التنظير المجرد العام والعمومي كغاية مبتغاة من ذلك.
نحن بحاجة ماسة اليوم قبل الغد لإجراء هذا التمثيل، هذا التكوين الذي يجب أن يضم مرشحين من كل قوى الثورة بما فيهم الحركات المسلحة والقوات المسلحة والأمنية والشرطية بأن يتحول إلى مكتب ملزمة بحوثه وقراراته وسلطته المعرفية في نقد مخلفات الإنقاذ وإزالة واقعها الكالح الذي خلفته وأورثته لنا بكافة حلقات الواقع المادي المعاش، كما كذلك بنيات التفكير التحتية الضارة التي كثيراً ما نخطئ بالانطلاق منها للهجوم عليها وهو عمل أقرب إلى أكل النفس واقتراح عض الأصابع على جماهير الثورة بشق صفوفها والمناداة والإيذان بفرقعتها، أكثر من أي عمل آخر يمكن أن يمت للثورة والتغيير بعلاقة بناءة.
إننا وفي كل ذلك نتوهم أباً زائفاً دون وعي ونعمل على قتله فننسى وفي غمرة ذلك مهمة المهام وروح الثورة بتحسين تعارفنا، وتعرفنا على التفكير العلمي المستقر، المنتج المغري بتحسين النسل وليس قتل الأب عبر إجراء عمليات ثورية عميقة ومؤلمة في عادات وتقاليد ونظم التفكير المتبعة لدينا في العمل السياسي وعلم إدارة الدولة وتحويل الواقع إلى واقع ملهم وجاذب وجدير بنا وبالحياة لمن يأتون من بعدنا من أجيال تستحق بذل كل غال ونفيس، وفي مقدمته نقد الذات بتحديث بناء العقل السياسي إن لم نقل بإعادة تركيبه، وفي ذلك كلمة سر الخلاص من أزماتنا الوطنية المتتالية.
wagdik@yahoo.com
شارك هذا الموضوع: