يقترب يوم الثامن عشر من هذا الشهر كذكري مؤلمة لاعدام الاستاذ المفكر والمجدد الديني محمود محمد طه. وتأتي المناسبة هذه المرة على غير سابقاتها على ما ارى وبحيث تتطلب الاحياء بهذا العام على نحو شعبي ضخم وبشكل غير مسبوق بعد ان تأكد وبعد مرور ٣٨ عاما على الجريمة التي اعدت وطبخت بواسطة الممثلين الفكريين والسياسيين للاسلام السياسي والسلفي. واكدت كل القرائن والوقائع بانها كانت مخططا اجراميا مكتمل الاركان لم يقع بتلك الوحشية والفظاظة بغرض ورغبة التخلص الفيزيائي فقط من المفكر الرمز بقدر ما رمت الى قتل افكاره ومضامين دعوته التحررية والتحريرية للعقل وتمجيد دوره في حياة المسلمين ومجتمعاتهم بهدف منحها الاستحقاقات اللازمة للمشاركة الفاعلة في حركة التطور بعدم التخلف والنكوص عن اخذ زمام مبادراتها ومساهمتها الممكنة والمأمولة. فقد راى الاستاذ اهمية قصوى لرد الاعتبار للتفكير العقلاني بتحرير الاسلام من التشوهات التاريخية المتصلة بوصمة التفكير الاسطوري والخرافي والوظيفي السياسي غير النقدي بحقائقه وغيرها من علل وأسباب تصدى لها طه ضمن ما وسمت بالرسالة الثانية او الفكرة الجمهورية، والبعث الإسلامي والتجديد والاحياء للسنة وغيرها من جهود ومجهودات عميقة رمت لوضع التصورات المعاصرة لعلاقة الدين بالحياة والدولة في متنوع قضاياها مثل العلاقة بالديمقراطية وقوانين الاحوال الشخصية، والمراة، والتعليم، والفنون على سبيل المثال لا الحصر. غير ان الخدمة العظيمة في مشروع الاستاذ محمود وفيما خص مجريات السياسة السودانية قد اتصلت بتصويبه نيران النقد وفضحه لاساسيات ومنطلقات واغراض الفكر الاخواني او الاسلام السياسي بما ظل طامحا وراغبا عليه لحكم السودان واستخدام القوانين المدنية او الوضعية باسم قوانين الشريعة ١٩٨٣ كاداة للقهر والتقييد والحرب السياسية على الخصوم السياسيين والفكريين ودعاة مشروع الديمقراطية والتحديث والحداثة، تماما مثلما وصفها الاستاذ في تعليقه الاعتراضي والمعترض عشية اطلاقها بانها قوانين تستهدف قهر الشعب واذلاله. الان، وبعد مرور كل هذه السنوات على جريمة العصر وكما سميت يتعاظم الاهتمام اقليميا ودوليا ويحتفي مفكرو ونقاد الدولة الدينية بمساهمة محمود محمد طه ودوره النوعي المتقدم في مهمة تحرير العقل الديني بالاعتراف بصواب افكاره وموقفه السديد المناهض للاسلام السياسي وفكر حركة الاخوان المسلمين التي خاطبها وفحصها نقديا من مبنى المعرفة ودهاليزه الدقيقة بمعرفة عالمة ومحيطة بالاسلام كرسالة وظاهرة دينية تاريخية وهو ما يقع في سياق البحث الثقافي المقاوم وليس السياسي فقط كما فهمته مؤسسة السياسة الدينية البغيضة. وبدلا من يصنف ما قدمه نقدا جائزا ويجوز فيما يعرف بصراع الافكار ذهبت السلطة التنفيذية والدينية بزعامة الحاكم بالشيخ وللمرة الثانية بتاريخه الى ما عرفت بمحكمة الردة ليوعز المخلوع (الاصل) جعفر محمد نميرى وقتها باصدار الحكم المخزى باعدام المفكر في محاكمة اجتمع الراى على وصفها بالصورية. لقد استمسك الجمهوريون طيلة المرحلة السابقة بالاحتفال بالمناسبة في اطار مجتمعهم الخاص ودار الاستاذ محمود بمبادرات ثابتة من الاستاذة اسماء محمود ومجموع مخلصيه وعارفي فضله التنويري من تلامذته . هذه المرة وفيما ارى مختلفة وبحيث يحق لكافة السودانيين احياء الذكرى باعطائها الحق المستحق واعلان محمود محمد طه كرمز تاريخي لحركة التنوير الديني والمقاومة لتيارات الاسلام السياسي. فالاستاذ محمود لم يكرس حياته فقط في خدمة التنوير الديني منذ نهاية الاربعينيات وتاسيسه مع اخرين فيما بعد للحزب الجمهوري بل عرض نفسه لخطر التكفير والمحاكمة السياسية والاعتقال ومن ثم مواجهة الموت بالاعدام شنقا في واقعة يقشعر لها البدن لقتل شيخ في الخامسة والسبعين من عمره بالشنق حتى الاعدام في محاكمة مستعجلة وعاجلة كمنت فكرتها واختصت لارضاء رغبات المستبد الحاكم المطلق بعد ان تمت هندستها ووجدت تأييدها من قادة وجمهور الاسلام السياسي وما يمكن تسميتهم بغوغاء الاسلام السياسي من الإخوان المسلمين والجماعات السلفية وتوابعهم والذهاب مباشرةً الى الاقرار بالتكفير وقرار الاعدام. اليوم وعلى اعتاب الذكرى الثامنة والثلاثين تبدو ثمة سانحة عظيمة وفرصة ثمينة لاعادة الاعتبار شعبيا وثوريًا للرجل بوصفه شهيدا استثنائيا للفكر والدعوة للتحرر والتحرير والثورة على سلطة ألدولة الاسلاموية بعد مرور ثلاث سنوات على ثورة الشعب - ثورة ديسمبر المجيدة وتاكيدها القوى على صحة الموقف النقدي للاستاذ الذي دفع حياته ثمنا له. ان تاريخ الثامن عشر من يناير لهذا العام ياتي كذكرى اعدام معلن افصح فيه دعاة الدولة الدينية عن ترجيح شهوة الحكم الدنيوي على حقائق الدين والتاريخ في علاقته بالدولة وعلاقة الدولة به مما يشكل مناسبة وطنية حزينة وقراءة في اهمية المقاومة المعرفية والثقافية للاخوان المسلمين وتنظيمات الاسلام السياسي المتنوعة اللافتات ذات المحتوى الواحد في وصفات التطبيق الرامي لاخذ السلطة بالقوة والدولة لخداع والمخادعة باسم الدين والاتجار به في سوق المنافسة والتنافس على نهب او سرقة الشعوب مواردها وثرواتها وهو ما ثارت ضده الشعوب والمجتمعات السودانية في ثورتها الاخيرة ولا تزال تبذل مقاومتها للقضاء على مخلفات المشروع المضاد لحقوقها ورغباتها في الحياة الكريمة الحرة. ان مناسبة الاحياء الاستثنائي تاتي هذه المرة باحياء دور المقاومة للتفكير النقدي العقلاني وتحرير العقول من التقييد بوضع القوانين باسم الدين كترسانة مضادة لانطلاق عمل العقول بتحريرها واعطائها الألق المطلوب والقدرة الخلاقة على التجاوز بهدف تاسيس الاستقلال الثاني والجمهورية الجديدة والتي ثبت ويثبت يوما بعد يوم انها لن تؤتي اكلها بالشعارات الثورية ومغامرات الناشطين السياسيين اذا لم تسند وتتوافق باعتراف وعمل مواز جاد وجبار ومسهب في تفكيك خطاب الاسلاموية ونقد العقل الاخواني الاجرامي والديني السلفي كخطر دائم على الحياة السياسية والتطور الجمعي للسودانيين وبقية المجتمعات المسلمة في سعيها الدؤوب لتحقيق دولتها الديمقراطية المبتغاة.
شارك هذا الموضوع: