إعادة النظر للعالم.. زيارة أولى لخرائب "فوكياما" وصحبه..!

أميرة أحمد / وائل محجوب - 13-06-2020

مقال مشترك؛ وائل محجوب- أميرة أحمد*

تصور بعض النافذين من مفكري عهدنا الراهن في عالمهم الجديد مثل فرانسيس فوكوياما "نهاية التاريخ"، وأن العالم قد حسم مصيره، وأن الديمقراطية الليبرالية بهيمنتها المسيطر عليها من الدول الرأسمالية على شعوب الأرض، هي خاتمة الأيديولوجيا والتاريخ وطوي السجل للناس، وأسمى ما يمكن أن يبلغه العقل الفلسفي، وبإدراكها يصبح بمقدور الإنسان أن يواصل مسعاه في سبيل التطور الحضاري والتفوق العلمي الذي يضمن سلامة ورفاهية البشر "نحن في نهاية التاريخ" وفق القيم الليبرالية المدعاة.
وانطلاقا من هذه النظرة القاصرة مضى العالم محفوفا بالضغوط والحروب في التخلص من أهم مسئوليات الدول في الصحة والتعليم وكل ما يتصل بحياة البشر لصالح إنتاج مجتمعات القلة المتنفذة والمتحكمة في خيرات وموارد البلدان.
وها نحن في نهاية التاريخ فعليا ليس باعتباره توقفا للأحداث، بل لعدم وجود نظام في المستقبل لما بعد الديمقراطية الحديثة والرأسمالية كما يقول صاحبنا فوكوياما.. نهاية تاريخ وبداية آخر يخرج من نسل هذه الجائحة ويفتح الباب لتغيير تلك القواعد المختلة التي تم ارساءها.

التزمت المؤسسات الدولية بهذا الفكر الذي فتح الباب علي مصراعيه أمام الاقتصاد الرأسمالي العالمي واقتصاد السوق الحر وتوغل نظام الملكية الخاصة علي الملكية العامة، وأجبر العالم علي السير في طريق خصخصة مؤسسات الدولة وبيعها بل تصفيتها لصالح منتفعين من الدول نفسها أو لواجهات لأذرع عابرة للقارات والمحيطات، مما أدي إلي تراجع وتقويض دور الدولة في التحكم باقتصادها، وتأمين الحقوق الأساسية لمواطنيها مثل حق السكن والتعليم والصحة.

• وها وقد دقت الفاجعة، وضع فآيرس لا يرى بالعين المجردة النظام الدولي بكل جبروته وقوته وضعفه وتناقضاته في أقسى امتحاناته، وصار البشر في مواجهة معضلة لم ينج منها الاغنياء ولا الفقراء، وعرضت الحكام نفسهم لامتحانات الوباء والمرض.
• تطل الكورونا برأسها القاتل لتذكر فوكوياما وزمرته أن تاريخ العقل البشري لم ينته علي صخرة الرأسمالية، وأنه لابد من فكر بديل ليقوم بإصلاح ما أفسده خطابها ومؤسساتها، حين أثبتت سقوطها في حماية العالم من خطر ماحق يكاد يعصف به.

هل سقطت الديمقراطيات الغربية؟

كيف تكون الدول التي تنفق أغلب دخلها للتسليح وشراء الجواسيس عرضة لانهيار داخلي بسبب تعرض البشر لفيروس يقضي علي حياتهم؟ هل تأتي النار حقاُ من مستصغر الشرر؟ في زمان مضي قال شاعر سوداني،
فإذا أدخرت إلي الصباح بسالة
فأعلم بأن اليوم أفضل من غد

كيف مضي العالم في مشروع يخص القلة؟ بفضل قوتهم وهيمنتهم واسعة النطاق والتي دمرت قدرات الشعوب ووعيها، وحاصرتها حتي لجأ بعضها لتسخير أي قدرات تخصه لمشروع لا ينتمي إليه فقط لأن ذلك هو المتاح أمامه.

تصبح الديمقراطيات الغربية بتبنيها للمنهج الرأسمالي، بعيدة عن ما تحب أن تنعت نفسها وتزهو به: الديمقراطية.
فهي قائمة علي مشروع شمولي مستبد يعمل لصالح قلة مهيمنة، ولكنه يستتر خلف مؤسسات كبري تسيطر علي رأس المال العالمي، تضمن بقاءها من خلال الأيدولوجيات المتشددة والنفوذ السياسي، ولا تعبأ إذا جاء إلي الحكم ما يراه الناس "مهرج" مثل ترامب أو"حكيم" مثل أوباما.
إن مؤسسات العولمة الرأسمالية هذه الطامحة لتحقيق الربح وأعلي معدلات الإنتاج علي حساب حقوق العمال هي المعضلة، وتأثيرها هو ما نراه الآن يتجلى في فشل للنظام الصحي.

عمدت النيوليبرالية الديمقراطية أن تصنع خطاب لحقوق الإنسان يأخذ في الاعتبار حقوقا بعينها لا تمس مصالح رأس المال كثيراً ويتغافل عمدا عن حقوق أخري.
الحقوق "الناعمة" إذا جاز التعبير، أصبح سلاح الدول المهيمنة المسلط علي الرقاب، تمارس من خلاله ابتزازها علي الدول المعادية أو الأقل قوة، وتمنحها النقاط صعوداً وهبوطاً وتعاقب من تشاء وتترك من تشاء، بحسب قدرتها على النفاذ اليها أو تجافيها لأفكارها، واستنادا علي معاييرها هي الخاصة، ولكنها عمدت في ذلك لأن تتغاضي عن "الحقوق الصلبة" مثل الحق في السكن و العلاج والتعليم والعمل.

أثبتت جائحة الكورونا أن البشر ليسوا بأمان في ظل الأنظمة الرأسمالية، وتبدو المؤسسات الرأسمالية المتحكمة في الاقتصاد العالمي حاليا ضعيفة هشة وعلي وشك السقوط، فاقتصاد السوق الحر الذي يعتمد علي التبادل وحرية الحركة والتنقل أصبح مشلولاً الآن بعد أن أغلقت الدول حدودها وسخرت كل طاقاتها لمصارعة الجائحة وإنقاذ ما يمكن إنقاذه، وأصبح رأس المال بحاجة لمن يديره، هل تقضي الامبريالية كأعلى مراحل الرأسمالية علي نفسها كما تنبأ ماركس؟ هل هذه هي نهاية الرأسمالية والتاريخ..؟

إن التفوق العلمي الذي تتفاخر به الديمقراطية الغربية لم يثبت نفسه أمام اختبار الجائحة، عكس الصين وكوريا وسنغافورة مثلا على سبيل المثال.. التي نجحت أنظمتها الصحية في التعامل معها، وأثبتت الصين أنها قوة عظمي، بالرغم من انها أو ربما بسبب اجتياح الفيروس لها قبل أي دولة أخري، وشح المعرفة العلمية عن الفيروس وطرق علاجه واحتوائه.. لكن واحدة من أهم الأسباب التي لا يتطرق اليها أحد هو تحكم الدولة في القطاع الصحي.. ومجانية العلاج المشاعة للقاعدة العظمى للبشر فيها.

انطلقت الجائحة في دول كبري مثل إيطاليا، فوقفت موقف العاجز وذرفت دموع سياسيها ومواطنيها، عند مشهد الموت حين ينتصر علي الحياة، وأعلنت بريطانيا أن لا طاقة لها بالقضاء علي الفيروس بل التآلف معه حتي ينتهي عن طريق منهج "مناعة القطيع"، وطلب رئيس الوزراء من مواطنيه أن يودعوا أحبابهم، فغافله الدهر بالإصابة بها هو نفسه، وانطبق عليه ما تقوله جدة في أقاصي السودان "الفال معقود تحت اللسان".
والأن تطلق الولايات المتحدة نداءات استغاثة لدول العالم لتدعمها بما توفر من مواد الوقاية من الفيروس، حتي البسيط منها مثل المطهرات والكمامات وغيرها وتسطو الدول وتتقرصن على شحن الأدوية والمطهرات المارة عبرها، وتفقد حتى قدرة توفير الآسرة في المستشفيات، بينما يختبئ العالم في المنازل وهو تحيط به فكرة النهاية ويختبر النوازل.. حينما يودع الناس احبائهم بلا تحية أو كلام عابر.
والمدهش بحق هو انهزام غطرسة الإدارة الأمريكية وتراجعها عن خطابها المعادي للمهاجرين والحائط الشهير – ولو مؤقتاً – بأن تفتح حدودها لاستقطاب الكوادر الطبية المهاجرة حتي تأتي للمساهمة في التعامل مع الفيروس القاتل، ولا يغيب عن العقل تعنت الإدارة الأمريكية في مقاومة أي قوانين أو سياسات تدعم حق المواطنين في التأمين الصحي، وليس بمستغرب أن يفقد احدهم حياته لأنه لا يملك ثمن العلاج.
• السؤال الذي سيسأل بعد حين.. هل ثمة طريق ثالث؟
• الرأسمالية هي فكرة، شأنها شأن الاشتراكية، وقد كان رحمة للإنسان أن الفكرتين تصارعتا عياناً بياناً فقد كان في ذلك خير للبشر، وما كان لواحدة منهما أن تنتصر انتصارا كاملا، لأن في انتصار أيا منهما الكامل مضار للآخرين في غيبة الآخر، فإذا انتصرت الاشتراكية بانغلاقها ذاك القديم الذي جسدته تجربتها السابقة قهريا فغابت الديمقراطية، وإذا انتصر الفكر الرأسمالي بنهمه وجشعه وتبديده لقيمة الإنسان، غابت الديمقراطية وغابت قيمة الإنسان لصالح المال، وحارت البشرية فإلي أين المفر.
ثمة طريق ثالث بين الفكر الديكتاتوري القابض والفكر الليبرالي عديم الرحمة بصورته الراهنة، لكنه في كل الأحوال طريق فيه بعض روح اشتراكية يعزز وعيه فكرة أننا شركاء في الماء والنار والكلأ.
ولو استوعبنا تلك القيمة لفهمنا بالضبط أسباب عجز الدول الراهن عن مواجهة الجائحة، هذا العالم بحالته الراهنة التي وضعت البشر درجات وهي التي قسمتهم حسب قواعدها، وهي التي حولت العلاج لحالة مستعصية، لا تتم إلا بحسب القدرة المالية للبشر، وحولت الطب لعائد مادي، وصار لأسرة المستشفيات ثمن ونجوم، ثم إذا أطلت الجائحة فقد العالم ضميره، فقرر الأطباء حينما لم يعد بمقدورهم شيئا أن يهملوا كبار السن انصرافا لعلاج الشباب الواعد، في مخالفة لقسم ابي قيراط الشهير في الطب، الذي قال بتوفير العلاج لكل محتاج للتطبيب، وهذا هو العالم الذي سعى له الفلاسفة الصغار امثال فوكوياما، فكيف لا يهلك الناس حينما تداهمهم الجوائح؟
هل ثمة أمل.. نعم.. ستعبر البشرية امتحان الجائحة الذي يختبرها في أهم ما تملك.. روحها.. وبعد أن تخرج منه.. ستفتح النوافذ وتعيد ترتيب البيوت وتصلح أنظمتها وتحررها من نهم التجار الجشعين الذي كادوا أن يغرقوا المركب بجميع ركابه.. لكنها ستتذكر ولأجيال أناس كثر فقدوا حياتهم بسبب انعدام الرعاية الصحية.. وأن الدول التي تمتص عرقهم حتى النهاية.. لم يكن بمقدورها أن توفر لنفسها الحماية قبل أن توفرها لهم.. وسينتصر الناس لغد أفضل بكل اوجاعهم ومخاوفهم ويأسهم وجرعة الحياة القادمة.. وقد صدق بلبلنا الشادي حينما قال..
ما بتحمي المقدور وقاية
وقد صدق حسن ابو العلا وما اعذب الفنان.. وبالتأكيد سنمضي لعالم جديد.



الكاتب: أميرة أحمد / وائل محجوب

وائل محجوب كاتب صحفي وعمل مديرا لتحرير لصحيفة الأيام السودانية أميرة أحمد، أستاذة بالجامعة الأمريكية بالقاهرة، متخصصة في قضايا الهجرة واللاجئين.