"طوبي للغرباء": المهاجرون واللاجئون في أزمنة الكرونا

أميرة أحمد / وائل محجوب - 21-06-2020
"طوبي للغرباء": المهاجرون واللاجئون في أزمنة الكرونا   | أميرة أحمد / وائل محجوب
إعادة النظر للعالم.. زيارة أولى لخرائب "فوكياما" وصحبه..!
"طوبي للغرباء": المهاجرون واللاجئون في أزمنة الكرونا
الحلقة الثانية
اقرأ الحلقة الأولى من الموضوع

يقال أن كل كارثة هي من صنع البشر، حتي ما نعرفه إصطلاحاً بإسم الكوارث الطبيعية لا تحدث إلا نتاج لعبث البشر المفرط بالطبيعة والتوازن البيئي.
حركات الهجرة والنزوح واللجوء عبر التاريخ هي دائما نتاج لأزمات وحروب وكوارث كبري، حيث يدفع المهاجرون أثمان باهظة نتيجة واقع الإغتراب والمعاناة والشوفونية التي تمارس عليهم، ولكن هذا الثمن المبذول مقدماً لا يعفيهم من أن يتحملوا تبعات وآثار أكثر فداحة عند حلول أزمات جديدة لتضاعف معاناتهم، "طوبي لمن أدرك أن الألم ليس إكليلا للمجد".
الآن والعالم يمر بجائحة الكرونا ويسعي البشر سعياً حثيثا للنجاة، يجب أن تعلو قيمة الإنسان مجردة في خلقه فوق كل قيمة، ومن الضروري إتخاذ المناسب لشمل الجميع بالرعاية الصحية والإقتصادية والإجتماعية والقانونية، دون تمييز أو تفضيل. وتستمر الجيوش البيضاء في تقديم عطاءها لتضميد جراح المرضي ومقاتلة المرض اللعين، الذي فتك بأعداد من الأطباء والممرضين والعاملين الصحيين كان من أوائل من زاد بروحه فداء لحياة الآخرين أطباء مهاجرين، فمثلا في المملكة المتحدة كان أول طبيب يفقد حياته أثناء أداء الواجب وإصابته بالكرونا هو الدكتور عادل الطيار السوداني الأصل والذي وصي بدفن جثمانه في مسقط رأسه، وتم بالفعل تنفيذ وصيته.
وبالرغم من أن الفيروس شديد العدوي كوفيد 19، لم يترك بلداً ولا فئة إجتماعية أيا كانت حظوتها أو مرتبتها إلا وأصابها، إلا أن النظرات السالبة وإلقاء اللوم والممارسات العنصرية البغيضة التي أبدتها كثير من الشعوب (تقريبا كل الشعوب)، تجاه بعضها البعض لهو أمر محير ولا يمكن تفسيره إلا في ما تحمله مخيلة الشعوب تجاه الآخر، الأخطر من ذلك أن هذه الأفكار والممارسات العنصرية قد تفاقم من معاناة المهاجرين، وتلقي بظلال وخيمة في خلق تراتبية غير أخلاقية تحدد أحقية الرعاية الصحية علي أساس العرق والهوية، وبالتالي حرمان المهاجرين من الوصول للنظام الصحي سواء بهدف الوقاية أو العلاج.

الهجرة، اللامواطنة والأوبئة

إكتسبت الهجرة إهتماماً غير مسبوق في السنوات الأخيرة من قبل الدول وصانعي القرار ومنظمات التنمية الإنسانية والحقوقية والباحثين والأكاديمين، في هذا السياق تفرعت مجالات عديدة للهجرة وأصبح مجال "الهجرة والصحة" حقلاً واسعاً تعقد له المؤتمرات والبحوث وتخطط له السياسيات، وأصبحت إجراءات "الأمن الصحي" تطبق علي حدود الدول في المطارات والموانئ، كما يخضع المهاجرون في كثير من البلدان لإختبارات خاصة، لا يتم بدونها تجديد عقود عملهم أو إقامتهم وربما تؤدي إصابة أحدهم بوباء أو مرض معدي لترحيله خارج بلد عمله أو إقامته. ولكن إزدياد الإهتمام بسياسات الهجرة لم يكن دافعه تحسين الوضع الصحي للمهاجرين، بل يحدث في المقام الأول بغرض حماية وإدارة حدود الدولة من "اللا مواطنون" الغرباء.
ثم رأينا فيما بعد كيف أن قام الخطاب السياسي المعادي للهجرة بصياغة نمط سلبي شائع يربط بين الأمراض والأوبئة والمهاجرين، يشير إليهم دائما بأنهم مجرمين خطيرين وبأنهم "حاملي الأمراض" مثل السل والإيدز والكوليرا، بل يتمادي البعض لدرجة أن يلصقون بهم أمراضا قد انقرضت منذ زمن بعيد، ذلك أن الخطاب الشعبوي اللا عقلاني لا يكترث بالإستناد علي الحقائق والأدلة، بقدر ما يسعي لتأجيج لغة التعصب والكراهية وعدم قبول الآخر.
هناك العديد من الأمثلة التاريخية والمعاصرة التي تكرس لثنائية الغريب أو المختلف مع المرض والقذارة، فقد كان ينظر لليهود في أوروبا قديما علي أنهم مصدر الأوبئة، ونتيجة لذلك أبيد عدد كبير من اليهود أثناء جائحة الموت الأسود وإنتشار الطاعون.
أما في تاريخ الإستعمار الحديث، و "مع توسع الهيمنة الغربية على المجتمعات الأخرى، رسم الإستعمار صورة قاتمة لأماكن بعينها ولسكانها، كمصدر للمرض، فالهند وأفريقيا السوداء على الأخص تُصوَّران حتى اليوم في المخيلة العامة، كمناطق موبوءة بالأمراض المتوطنة والقذارة والعادات الصحية السيئة والحشرات الإيكزوتيكية، وهي كذلك ساحات لأبطال الروايات البيض، الذين ينقذون المرضي ويعانون من الحمى حتى الموت".
إستنادا علي هذا الإرث الثقافي البغيض، ومع تفشي الكرونا أصبح من السهل إستحضار النمط العنصري المعد سلفاً وإستخدامه تارة للتراشق السياسي، "الفيروس الصيني" كما يصر علي تسميته الرئيس الأمريكي ترمب على سبيل المثال. ولكن الأكثر مفارقة والأخطر هو محاولات التسابق بين الشعوب لإلصاق إنتشار الفيروس بغيرها، أول من تم إستهدافه كان الصينيون، حيث شكلت الصين المحطة الأولي لوصول الفيروس، وهناك أمثلة عديدة جدا تدلل على ذلك، نذكر منها علي سبيل المثال:

  • في مصر أجبر أحد سائقي سيارات الأجرة صيني علي النزول من السيارة في منتصف الطريق
  • الإستهداف العنصري الذي يلاقيه الأفارقة الذين يعيشون بالصين من قبل الصينين أنفسهم
  • في السعودية تم ترحيل عمال مهاجرون من أثيوبيا
  • إنتشرت صور العامل المهاجر من جنوب آسيا على الإنترنت كالنار في الهشيم، تظهره مرتديًا زي معقم لليد البشرية وقناع وجه لشركة أرامكو السعودية، ما أثار سخطًا عالميًا، واستشهد به كمثال آخر على "عنصرية فيروس كورونا"، واعتذرت الشركة فيما بعد عن الحادث

المهاجرون وتداعيات الكرونا

لم تترك الحالة الطارئة التي خلقها الإنتشار السريع لفيروس الكرونا أحدا إلا طالته، إلا أن تداعيات الأزمة تمس الأفراد والجماعات بأشكال متباينة، وعليه فإن الفئات ذات الوضع الإقتصادي والإجتماعي الأكثر هشاشة تصبح أكثر تعرضاً لمخاطر العدوي بالكرونا وصعوبة أو عدم الوصول للنظام الصحي وربما فقدان الحياة جراء ذلك. كذلك تحت مسوغ سياسات الحظر فإن العديد من الدول قد أغلقت أغلب الدول حدودها وأعلنت حالة الطوارئ الصحية وأصبحت سياسات الهجرة واللجوء معلقة، فمثلا:

  • في الولايات المتحدة الأمريكية، شددت إجراءات السفر وعبور المهاجرين خاصة القادمين من دول تصنف علي أنها موبوءة بالكرونا. كذلك فقد أغلقت الحدود مع المكسيك أمام المهاجرين، وتم ترحيل أكثر من 6300 مهاجر غير نظامي. ولكن وللمفارقة، فقد أعلنت الإدارة الأمريكية عن تسهيل إجراءات الدخول للأطباء الأجانب الراغبين في دخول أمريكا والمساعدة في الوقاية من وعلاج كرونا.
  • في إيطاليا، قالت الحكومة إن موانئ إيطاليا لا يمكن اعتبارها آمنة بسبب تفشي فيروس كورونا المستجد، لذلك لن تسمح برسو زوارق المهاجرين التابعة لجمعيات خيرية فيها. واتخذ هذا القرار بعد أن أنقذ مركب تديره جمعية "سي-آي الألمانية" غير الحكومية 150 شخصا قبالة ليبيا واتجه بهم صوب إيطاليا.
    وقد تفاقمت معاناة المهاجرين واللاجئين داخل بلدان المهجر وأصبح خطر الكرونا أقرب إليهم من غيرهم. تأزم الأوضاع المعيشية وعدم القدرة علي البقاء في المنزل وإغلاق المنظمات الخيرية التي تساند هذه الفئات كلها عوامل لها أثر مباشر في وضع المهاجرين لأن يصبحوا أكثر الفئات تعرضاً لخطر الكرونا، ففي المملكة المتحدة مثلا أطلقت النداءات خوفاً من أن حوالي مليون مهاجر يخشون الموت بالجوع.
    كما أن الأوضاع غير الصحية في معسكرات اللاجئين وأماكن الإحتجاز تزيد ما سرعة إنتشار الكرونا، مثلا فقد أصيب 27 طفلا من المهاجرين بالكرونا في أمريكا، كانوا محجوزين في أحد مراكز الحجر الحدودية التي دائما ما تكون مكتظة وتفتقر لأساسيات الرعاية. ويتفاقم الوضع سوءا بالطبع في دول العبور أو اللجوء المؤقتت مثل: في تركيا . ولا يشكل المهاجر أو اللاجئ أولوية لمقدمي الرعاية الصحية، وكما رأينا مشاهد تفضيل الحياة علي الموت في الدول التي إنهارت أنظمتها الصحية أمام شبح الكرونا، ومنح الحق في الحياة العلاج للشباب علي حساب كبار السن، لن تكن حياة المهاجر ذات أفضلية مقارنة بحياة المواطن.

وبالنظر لهذه الوقائع المتعددة يبدو العالم بحوجة لإتباع خطوات وإجراءات هامة منها:

  • الحفاظ على الحق في الرعاية الصحية للجميع بغض النظر عن الهوية، بما يشمل المهاجرين.
  • علي الدول أن تتبع برتوكول منظمة الصحة العالمية الصادر في 20 يناير 2020 حيث أصدرت لجنة الطوارئ التابعة لمنظمة الصحة العالمية، بيانًا تنصح فيه جميع البلدان بأن تضع في اعتبارها "مبادئ المادة 3 من اللوائح الصحية العالمية" -والتي تعتبر حسب منظمة الصحة العالمية إجراءات احترازية من (الأعمال التي تعزز الوصمة أو التعصب) ، عند اتخاذ تدابير وطنية استجابة لتفشي المرض.
  • يجب ألا تتحول حالة الطوارئ الصحية الاستثنائية الي قاعدة مستقرة وهذا من المسائل الهامة، إذ أن إستمراره سيكرس لكل المخاوف التي عرضنا اليها كقاعدة تستمر لوقت طويل.
  • إعفاء جميع المهاجرين العمال والطلبة من عقوبات التأخير في تجديد الإقامات أو مغادرة البلد (الكويت فعلت ذلك).
  • تسهيل حركة تحويلات المغتربين لبلدانهم الأصلية أثناء الحظر.

وبالمجمل تعزز الوضعية الراهنة للعالم وانهياره الإقتصادي وفي قطاع الصحة من المخاوف حول عالم ما بعد الكورونا.. فالعالم لم يكن مرحبا بالغرباء والمهاجرين.. وها قد زادت الفوبيا.. كما تضاعفت الخسائر للحد الذي سيكون من العسير لهذه الدول أن تنهض من جديد، وبالتالي ستصبح أكثر تشددا وهي التي كانت تطلق برنامجا أمنيا على مستوى اوربا لمحاصرة الهجرة (غير الشرعية) يمتد حتى لدول العبور في افريقيا، فإنها ستصبح أكثر تشددا لأنها بالأساس ستصبح عاجزة عن إستقبال المهاجرين اقتصاديا، وستتضائل الفرص فيها، تبعا لهذا الإنهيار.
لقد خسرت الدول مليارات الدلارات بسبب ضعف قطاعاتها الصحية وبسبب خلل انفاقها لسنوات وتجاهل الاولويات، وستواجه اوضاعا اكثر صعوبة من مواطنيها، الذين كشفت لهم هذه الجائحة انهم بلا سند، وسيسألون عن أسباب الخلل، وسيحاسبون من تسببوا لسنوات في تبديد المليارات في إنفاق جنوني على سباقات التسلح، وسيبدو العالم موحشا وستقل الفرص أمام المهاجرين، حيث ستعلو المشاعر القومية وسيزداد إنغلاق الدول والحدود بالقوانين والإجراءات، فالعالم لم يكن حفيا بالمهاجرين وسيصبح أكثر رفضا لهم.. فطوبى للغرباء.. وللمهاجرين.. ولكن البشر سيشقون طريقهم بعدها وستفرض الشعوب قواعدها لعالم أكثر أنسانية على الرغم من كل ذلك.



الكاتب: أميرة أحمد / وائل محجوب

وائل محجوب كاتب صحفي وعمل مديرا لتحرير لصحيفة الأيام السودانية أميرة أحمد، أستاذة بالجامعة الأمريكية بالقاهرة، متخصصة في قضايا الهجرة واللاجئين.