يقال أن كل كارثة هي من صنع البشر، حتي ما نعرفه إصطلاحاً بإسم الكوارث الطبيعية لا تحدث إلا نتاج لعبث البشر المفرط بالطبيعة والتوازن البيئي.
حركات الهجرة والنزوح واللجوء عبر التاريخ هي دائما نتاج لأزمات وحروب وكوارث كبري، حيث يدفع المهاجرون أثمان باهظة نتيجة واقع الإغتراب والمعاناة والشوفونية التي تمارس عليهم، ولكن هذا الثمن المبذول مقدماً لا يعفيهم من أن يتحملوا تبعات وآثار أكثر فداحة عند حلول أزمات جديدة لتضاعف معاناتهم، "طوبي لمن أدرك أن الألم ليس إكليلا للمجد".
الآن والعالم يمر بجائحة الكرونا ويسعي البشر سعياً حثيثا للنجاة، يجب أن تعلو قيمة الإنسان مجردة في خلقه فوق كل قيمة، ومن الضروري إتخاذ المناسب لشمل الجميع بالرعاية الصحية والإقتصادية والإجتماعية والقانونية، دون تمييز أو تفضيل. وتستمر الجيوش البيضاء في تقديم عطاءها لتضميد جراح المرضي ومقاتلة المرض اللعين، الذي فتك بأعداد من الأطباء والممرضين والعاملين الصحيين كان من أوائل من زاد بروحه فداء لحياة الآخرين أطباء مهاجرين، فمثلا في المملكة المتحدة كان أول طبيب يفقد حياته أثناء أداء الواجب وإصابته بالكرونا هو الدكتور عادل الطيار السوداني الأصل والذي وصي بدفن جثمانه في مسقط رأسه، وتم بالفعل تنفيذ وصيته.
وبالرغم من أن الفيروس شديد العدوي كوفيد 19، لم يترك بلداً ولا فئة إجتماعية أيا كانت حظوتها أو مرتبتها إلا وأصابها، إلا أن النظرات السالبة وإلقاء اللوم والممارسات العنصرية البغيضة التي أبدتها كثير من الشعوب (تقريبا كل الشعوب)، تجاه بعضها البعض لهو أمر محير ولا يمكن تفسيره إلا في ما تحمله مخيلة الشعوب تجاه الآخر، الأخطر من ذلك أن هذه الأفكار والممارسات العنصرية قد تفاقم من معاناة المهاجرين، وتلقي بظلال وخيمة في خلق تراتبية غير أخلاقية تحدد أحقية الرعاية الصحية علي أساس العرق والهوية، وبالتالي حرمان المهاجرين من الوصول للنظام الصحي سواء بهدف الوقاية أو العلاج.
إكتسبت الهجرة إهتماماً غير مسبوق في السنوات الأخيرة من قبل الدول وصانعي القرار ومنظمات التنمية الإنسانية والحقوقية والباحثين والأكاديمين، في هذا السياق تفرعت مجالات عديدة للهجرة وأصبح مجال "الهجرة والصحة" حقلاً واسعاً تعقد له المؤتمرات والبحوث وتخطط له السياسيات، وأصبحت إجراءات "الأمن الصحي" تطبق علي حدود الدول في المطارات والموانئ، كما يخضع المهاجرون في كثير من البلدان لإختبارات خاصة، لا يتم بدونها تجديد عقود عملهم أو إقامتهم وربما تؤدي إصابة أحدهم بوباء أو مرض معدي لترحيله خارج بلد عمله أو إقامته. ولكن إزدياد الإهتمام بسياسات الهجرة لم يكن دافعه تحسين الوضع الصحي للمهاجرين، بل يحدث في المقام الأول بغرض حماية وإدارة حدود الدولة من "اللا مواطنون" الغرباء.
ثم رأينا فيما بعد كيف أن قام الخطاب السياسي المعادي للهجرة بصياغة نمط سلبي شائع يربط بين الأمراض والأوبئة والمهاجرين، يشير إليهم دائما بأنهم مجرمين خطيرين وبأنهم "حاملي الأمراض" مثل السل والإيدز والكوليرا، بل يتمادي البعض لدرجة أن يلصقون بهم أمراضا قد انقرضت منذ زمن بعيد، ذلك أن الخطاب الشعبوي اللا عقلاني لا يكترث بالإستناد علي الحقائق والأدلة، بقدر ما يسعي لتأجيج لغة التعصب والكراهية وعدم قبول الآخر.
هناك العديد من الأمثلة التاريخية والمعاصرة التي تكرس لثنائية الغريب أو المختلف مع المرض والقذارة، فقد كان ينظر لليهود في أوروبا قديما علي أنهم مصدر الأوبئة، ونتيجة لذلك أبيد عدد كبير من اليهود أثناء جائحة الموت الأسود وإنتشار الطاعون.
أما في تاريخ الإستعمار الحديث، و "مع توسع الهيمنة الغربية على المجتمعات الأخرى، رسم الإستعمار صورة قاتمة لأماكن بعينها ولسكانها، كمصدر للمرض، فالهند وأفريقيا السوداء على الأخص تُصوَّران حتى اليوم في المخيلة العامة، كمناطق موبوءة بالأمراض المتوطنة والقذارة والعادات الصحية السيئة والحشرات الإيكزوتيكية، وهي كذلك ساحات لأبطال الروايات البيض، الذين ينقذون المرضي ويعانون من الحمى حتى الموت".
إستنادا علي هذا الإرث الثقافي البغيض، ومع تفشي الكرونا أصبح من السهل إستحضار النمط العنصري المعد سلفاً وإستخدامه تارة للتراشق السياسي، "الفيروس الصيني" كما يصر علي تسميته الرئيس الأمريكي ترمب على سبيل المثال. ولكن الأكثر مفارقة والأخطر هو محاولات التسابق بين الشعوب لإلصاق إنتشار الفيروس بغيرها، أول من تم إستهدافه كان الصينيون، حيث شكلت الصين المحطة الأولي لوصول الفيروس، وهناك أمثلة عديدة جدا تدلل على ذلك، نذكر منها علي سبيل المثال:
لم تترك الحالة الطارئة التي خلقها الإنتشار السريع لفيروس الكرونا أحدا إلا طالته، إلا أن تداعيات الأزمة تمس الأفراد والجماعات بأشكال متباينة، وعليه فإن الفئات ذات الوضع الإقتصادي والإجتماعي الأكثر هشاشة تصبح أكثر تعرضاً لمخاطر العدوي بالكرونا وصعوبة أو عدم الوصول للنظام الصحي وربما فقدان الحياة جراء ذلك. كذلك تحت مسوغ سياسات الحظر فإن العديد من الدول قد أغلقت أغلب الدول حدودها وأعلنت حالة الطوارئ الصحية وأصبحت سياسات الهجرة واللجوء معلقة، فمثلا:
وبالنظر لهذه الوقائع المتعددة يبدو العالم بحوجة لإتباع خطوات وإجراءات هامة منها:
وبالمجمل تعزز الوضعية الراهنة للعالم وانهياره الإقتصادي وفي قطاع الصحة من المخاوف حول عالم ما بعد الكورونا.. فالعالم لم يكن مرحبا بالغرباء والمهاجرين.. وها قد زادت الفوبيا.. كما تضاعفت الخسائر للحد الذي سيكون من العسير لهذه الدول أن تنهض من جديد، وبالتالي ستصبح أكثر تشددا وهي التي كانت تطلق برنامجا أمنيا على مستوى اوربا لمحاصرة الهجرة (غير الشرعية) يمتد حتى لدول العبور في افريقيا، فإنها ستصبح أكثر تشددا لأنها بالأساس ستصبح عاجزة عن إستقبال المهاجرين اقتصاديا، وستتضائل الفرص فيها، تبعا لهذا الإنهيار.
لقد خسرت الدول مليارات الدلارات بسبب ضعف قطاعاتها الصحية وبسبب خلل انفاقها لسنوات وتجاهل الاولويات، وستواجه اوضاعا اكثر صعوبة من مواطنيها، الذين كشفت لهم هذه الجائحة انهم بلا سند، وسيسألون عن أسباب الخلل، وسيحاسبون من تسببوا لسنوات في تبديد المليارات في إنفاق جنوني على سباقات التسلح، وسيبدو العالم موحشا وستقل الفرص أمام المهاجرين، حيث ستعلو المشاعر القومية وسيزداد إنغلاق الدول والحدود بالقوانين والإجراءات، فالعالم لم يكن حفيا بالمهاجرين وسيصبح أكثر رفضا لهم.. فطوبى للغرباء.. وللمهاجرين.. ولكن البشر سيشقون طريقهم بعدها وستفرض الشعوب قواعدها لعالم أكثر أنسانية على الرغم من كل ذلك.
شارك هذا الموضوع: