حرية، سلام وعدالة، هي آخر الكلمات التي ودع بها شهداء (شباب وكنداكات) ثورة ديسمبر المجيدة (19 ديسمبر 2018- 11 أبريل 2019)، رفاقهم، وأصحابهم، وأحبابهم، والأهل، والسودان، والعالم أجمع. لخصت هذه الكلمات آمالهم وأحلامهم وأشواقهم، فاتخذوها شعاراً للثورة، وظلوا يرددونها حتى اللحظات الأخيرة من الصراع مع الموت، من أجل الثورة والتغيير. ظلوا ومعهم الذين بترت أطرافهم والذين تم تغييبهم عن الشوارع، والذين ضُربوا أبشع أنواع الضرب، يواجهون التآمر والغدر والقتلة بالابتسامة والسلام. فسطروا التاريخ بدمائهم، ورسموا أعظم اللوحات والملاحم في سبيل انتزاع الحرية. وهل تستقيم الحياة بدون حرية؟ "الحرية هي روح الحياة.. فحياة بلا حرية إنما هي جسد بلا روح". والحرية مسئولية، ولا يمكن للناس أن يتعلموا الحرية إلا بممارسة الحرية. ولعل من أعظم آليات ممارسة الحرية وتعلمها هي المنابر الحرة. فهي أداة الحوار التي تخاطب العقول، وتسعى لتحريرها من الانغلاق والجمود، فضلاً عن إسهامها في تنمية الوعي، والانفتاح على الآخر والمستقبل. وبذا يكون في فتح المنابر الحرة واستمرارها، حيث ممارسة الحرية وتعلمها، وفاء للتضحيات الكبرى التي كانت مهر ثورة ديسمبر المجيدة. تضحيات الشباب والكنداكات، وكل شهداء الكفاح المسلح، ودعاة التغيير والتحرير منذ استقلال السودان. وتكتسب المنابر الحرة قيمتها العليا وأثرها الفعَّال حينما تكون في ساحات التعليم العالي؛ الجامعات والمعاهد العليا. ولهذا فإن أعداء المنابر الحرة هم دوما عقبة أمام إحداث التغيير والتحرير، كونهم كوابح الحوار الحر، ومهندسو الإقامة في سجن الماضي والقديم بدلاً عن السير نحو المستقبل والتفاعل مع الجديد.
يُمثَّل مدير جامعة النيلين، في تقديري، أنصع نماذج الأعداء للمنابر الحرة، منذ اندلاع ثورة ديسمبر المجيدة وحتى يوم الناس هذا. ففي ظل سيادة مناخ النُبل بتجديد العهد والوعد مع شهداء ثورة ديسمبر المجيدة، وفي الوقت الذي أصبح فيه المد الثوري كالأكسجين في سماء السودان، والكل يتوق للتغيير والتحرير، وينشد الحوار من أجل تنمية الوعي والتعارف الثقافي والفكري، كشف بروفيسور محمد الأمين أحمد محمد، مدير جامعة النيلين، بقراره بإعفاء الدكتور مجدي عز الدين، عميد شؤون الطلاب، بجامعة النيلين، من منصبه، عن عداء سافر لمنابر الحوار الحر، وهو يسير بجامعة النيلين عكس اتجاه المد الثوري، والتوق للتغيير، وضد رغبة المثقفين في القيام بواجبهم الثقافي والوطني والأخلاقي.
كان الدكتور مجدي عزالدين، وهو في تقديري من المشغولين بتنمية الوعي وخدمة التنوير، قد نظم حوارية فكرية بين الأستاذة أسماء محمود محمد طه، والدكتور حيدر إبراهيم، بعنوان: هل هناك حاجة عصرية للتجديد الديني ولماذا؟ الفكر الجمهوري نموذجاً". جاءت الحوارية باستضافة عمادة شؤون الطلاب، ونُظمت بمسرح جامعة النيلين، نهار الاثنين 23 أغسطس 2021. شارك فيها إلى جانب المتحدثين الرئيسيين، ثمانية من الأساتذة والشباب بالتعقيب، ومن ثم تم فتح باب الحوار للحضور.
ابتهج الناس بالإعلان عن الحوارية الفكرية، باعتبارها تدشيناً للمنابر الحرة، بعد ثورة ديسمبر المجيدة، كما أنها تصب في جهود فكرنة الثورة وعقلنة الحوار، كون قيمة كل إنسان هي عقله. امتلأت القاعة يوم الحوارية، كما نُقلت عبر الخدمة التقنية (أونلاين)، فتابعها الناس من خارج السودان. كشف سير الحوارية عن رغبة قوية في الحوار، إلى جانب تعطش الناس إليه. فلقد تميزت القاعة بالهدوء والنظام. كما اتسم سلوك الحضور بتمدن يشبه سلمية ثوار ثورة ديسمبر المجيدة، وأكتسى بطرف من جمال وجوه الشهداء، وتوشح بأرواحهم النبيلة الطاهرة. كان الشباب في القاعة، كحال الثوار في ساحة الاعتصام، إذ تميزت مداخلاتهم بالشجاعة والاستعداد للمواجهة في طرح الآراء، والتعبير عن الشك والرفض للمسلمات. كيف لا وقد فرغ هؤلاء الشباب والكنداكات لتوهم من منازلة أعتى نظام متسلط وباطش، وأجبروه على المغادرة، فقدموا للعالم لوحة ثورية نادرة المثيل، سرعان ما غيَّرت صورة السودان وشعبه في الشارع العالمي، فاكتسبا الاحترام وإعادة الاعتبار للمكانة والإرث التاريخي. كما أعلن هؤلاء الشباب من خلال أسئلتهم الذكية، والشجاعة، والجريئة، والخالية من المحاذير، بأنهم أحرار، وأن تحديات جديدة قد لاحت في الأفق. فأرخوا بأسئلتهم لمرحلة ما بعد الفقهاء ورجال الدين بشأن احتكارهم للخطاب الديني، وما بعد مرحلة الأكاديمية الصامتة والمتماهية مع رجال الدين والسلطة، كما عبَّروا كذلك عن مرحلة جديدة للتعاطي مع الفكر الجمهوري. وهذا وضع صحي وحر ومطلوب، كونه يحمل ملامح التعافي والتحرر من الأوصياء على العقول والفهوم.
ولكن قبل أن تكتمل الفرحة بالحوارية، والاحتفاء بتدشين المنابر الحرة، وقبل أن يبدأ النقاش والنقد للحوارية بما يخدم تطوير المحتوى والهيكل، خرج علينا مدير جامعة النيلين بقراره في نفس يوم الحوارية، بإعفاء دكتور مجدي من منصبه، فلوث الهواء والسماء في السودان، وكتب اسمه في صحائف الثوار وسجل الثورة بأنه من أكبر معيقي إحداث التغيير والتحرير. ذلك لأن قراره، والذي تم تسليمه للدكتور مجدي وهو على منصة الحوارية، كان بمثابة دعوة لإغلاق منافذ الحوار، وإعلان بتجريد المثقفين من حقهم في المنابر الحرة، إلى جانب صد إقبال الطلاب على الحوار، فضلاً عن تقزيم دور الجامعة، وتحجيم قيامها بالمسئولية المجتمعية، وفوق كل ذلك المفارقة لروح الثورة، والسعي لوضع العراقيل أمام إحداث التغيير والتحرير.
لقد أخضع مدير جامعة النيلين، بقراره هذا، المنابر الحرة، والدكتور مجدي، والفكر الحر، لأسوأ إرث قانوني، قانون الجامعة لسنة 1995. وحاكم أجمل لحظات الوعي والإشراق، بمنظار الماضي وقوانينه. وهذا ما يجعلنا ندعو إلى ثورة تصحيحية في مؤسسات التعليم العالي، إذ كيف يحاكم حراك ما بعد الثورة بقوانين ما قبل الثورة؟ فلقد تأخرت وزارة التعليم العالي والبحث العلمي كثيراً في القيام بواجبها الثوري تجاه قوانين الجامعات وسلطات قياداتها وإداراتها.
مفارقة مدير جامعة النيلين للأعراف والتقاليد الأكاديمية
تعرَّفت أول مرة على مدير جامعة النيلين على هامش الندوة التي عُقدت بعنوان: المسلمون وتحديات العصر: السلام والديمقراطية والاشتراكية، في الخرطوم خلال الفترة 18- 20 يناير 2020. وذلك بمناسبة الذكرى (35) لاستشهاد المفكر الســوداني الإنسـاني محمود محمد طه. جاء تنظيم الندوة بالتعاون بين عمادة البحث العلمي، جامعة النيلين، ومركز الدراسات السودانية، وشارك فيها 45 من الأستاذات والأساتيذ من السودان وخارجه، وتشرفت بأن كنت المنسق للندوة. تمت مشاركة عمادة البحث العلمي، بفضل جهود دكتور مجدي. ولم يكن مدير جامعة النيلين، مبادراً بذلك، ولم يكن طرفاً في جهود مشاركة الجامعة، بل كان سلبياً في أيام الندوة، وقد غالطت نفسي في تلك السلبية، حتى تبين لي بأنه من أعداء المنابر الحرة، ومعارضاً للحوار حول الفكر الحر. كانت الندوة متميزة وشهدها خلق كثير، وخرجت بتوصيات منها، أن يتم تنظيم الندوة في العام القادم (يناير 2021) بالتعاون جامعة النيلين، ومركز الدراسات السودانية. فضلاً عن طباعة جامعة النيلين لأعمال الندوة في كتاب، وهو جزء من التزام الجامعة الأخلاقي حسب الاتفاق، ولكن مدير جامعة النيلين اختار عدم الوفاء بالالتزام.
عدم الوفاء بالالتزام الأخلاقي تجاه طباعة أعمال الندوة الفكرية
كان تقسيم الالتزامات بين المنظمين للندوة الفكرية الأولى (18- 20 يناير 2020) على النحو الآتي: تقوم جامعة النيلين بتوفير القاعة، وطباعة أعمال الندوة والمطبوعات، وتوثيق الندوة بالصورة والفيديو. بينما تقوم الأطراف الأخرى بتكاليف تذاكر سفر الضيوف (13 تذكرة)، والفندق والضيافة، وتكاليف الفيلم الوثائقي، والضيافة في القاعة. لم يتم الوفاء من قبل جامعة النيلين بطباعة أعمال الندوة، ولم يتم تسليمنا التوثيق بالفيديو والصور حتى يتم نشرها. وقد ظللنا منذ تاريخ انتهاء الندوة وحتى اليوم، نطالب جامعة النيلين بطباعة أعمال الندوة. وقد فَرغت لجنة من أربعة أساتذة من تحرير الندوة، وهي تقع في كتاب يتكون من ثلاثة أجزاء، وتضم أوراقاً علمية لنحو 45 أستاذة وأستاذاً من السودان وخارجه. ولم نجد من جامعة النيلين إلا التسويف واللا رغبة في طباعة أعمال الندوة، والتهرب من الوفاء بالالتزام. وظللنا نراسل ونهاتف مع المعنيين بالجامعة، ولا حياة لمن تنادي. وفي تقديري، ليس هناك أي تفسير لتهرب إدارة جامعة النيلين من الوفاء بالالتزام تجاه طباعة أعمال ندوة فكرية، تمت تحت مظلتها، سوى قصر قامة المدير عن الموقع، وانتمائه للماضي وليس للراهن والمستقبل.
تجدد الأمل في طباعة أعمال الندوة، بعد أن أصبح الدكتور هشام عمر النور، عميداً لعمادة البحث العلمي، بجامعة النيلين، وهو من المثقفين ذوي الالتزام الأخلاقي تجاه تنمية الوعي وخدمة التنوير. وما أن أصبح عميداً، حتى أرسلنا له خطاباً نطالب فيه بوفاء جامعة النيلين بالتزامها الأخلاقي تجاه طباعة أعمال الندوة. وما أن استلم الدكتور هشام عمر النور الخطاب أعلاه، إلا وعبَّر عن اهتمامه بالموضوع، وحرصه الشديد على معالجته. ولكن، وللأسف، قبل أن يبدأ هشام متابعته للموضوع تعرَّض لوعكة صحية أخذت منه وقتاً طويلاً، وما أن تماثل للشفاء، إلا وأفادنا في نفس اليوم بأنه عاد لعمله، وسيبدأ متابعة الأمر، ولا يزال هشام، مشكوراً، يسعى لمعالجة الأمر، ولا نزال نحن في الانتظار.
عدم الوفاء بالالتزام الأخلاقي تجاه توصيات ندوة يناير 2020 وتجاهل العلماء والمفكرين
عندما عدنا للترتيب للندوة الفكرية الثانية: الدين والمجتمع والدولة، (18- 20 يناير 2021)، بناءً على توصيات ندوة 2020، بدأنا الاتصالات مع جامعة النيلين. لنبدأ التنسيق والترتيب، فلاحظنا التجاهل وعدم الاهتمام. فتحدثت مع الدكتورة نشوى أبو الحسن عيسى، عميدة عمادة البحث العلمي (أوانئذ)، عبر الهاتف ومن خلال مراسلات نصية عديدة، فأخبرتني بأنها في انتظار قرار مدير جامعة النيلين، وطال الانتظار، والوقت يحاصرنا. ثم أرسلنا خطاب إلى الدكتورة نشوى، وظللنا نلاحقها بالتلفونات والرسائل. عادت إلينا فأفادتنا بأنها أرسلت الخطاب لمكتب المدير، وهي في انتظار الرد. وفي رسالة أخرى كتبت، قائلة: "الخطاب انا رسلته مكتب المدير من لحظة وصوله، ولسه منتظره رد". ثم رسالة ثالثة: "أرسلت الخطاب مكتب المدير، ومفروض يطلع خطاب من مكتبه، حارسل له تذكير". وتابعنا وكررنا الرسائل، ثم بعد ذلك علمت برفض مدير جامعة النيلين لتنظيم الندوة، ثم وصلني خطاب ركيك بالاعتذار. تكوَّن الخطاب من سطر ونصف، وجاء بتوقيع الأستاذ الخليل عبد الله أحمد، المدير التنفيذي لعمادة البحث العلمي.
مدير جامعة النيلين يمثل لحظة من لحظات هزيمة الوعي
إن مدير جامعة النيلين ومن خلال مواقفه العدائية المنابر الحرة، والفكر الحر، يمثل لحظة من لحظات هزيمة الوعي. ولهذا يجب أن نجعل من قضية قراره الذي اتخذه بإعفاء الدكتور مجدي، قضية رأي عام، وفرصة لتعزيز بناء الرأي العام. ويجب أن تكون المطالب، هي إقالة مدير جامعة النيلين، لعلها تكون درساً وعظة للناس، وعودة الدكتور مجدي لمنصبه، تقديراً للمثقف الحر، فضلاً عن دعوة وزارة التعليم العالي والبحث العلمي إلى القيام بثورة تصحيحية في مؤسسات التعليم العالي، من أجل الحرية الأكاديمية والفكرية، وحتى تتعافى المؤسسات الأكاديمية فتتعافى معها العقول والفهوم.
إن إقالة مدير جامعة النيلين واجب ثوري، ومطلب مستحق. وفي إقالته تجديد للعهد مع الشهداء بالوفاء لهم ولشعارهم، شعار الثورة: حرية سلام وعدالة، آخر الكلمات التي ودعوا بها عالمنا الحزين.
دكتور عبد الله الفكي البشير
الأحد 5 سبتمبر 2021
abdallaelbashir@gmail.com
شارك هذا الموضوع: