لا مجال لأي انقلاب عسكري في السودان، بعد ثورة ديسمبر المجيدة، وإن حدث من أي ضابط مغامر تحدثه نفسه عن جهل وبجهل، فلن ولم يمر وسيذهب قبل إكماله الاسبوع الأول، وستنتزع الجماهير حريتها وكرامتها بكل كبرياء وعزة.. ذلك لأن الثورة والتوق للتغيير والحرية والتحرير غدت كالأوكسجين في سماء السودان، وكالدماء تسري في عروق الجسد.. فالكل ينشد التغيير والتحرير ويعمل من أجله سواء في جبال النوبة، أو دار فور، أو النيل الأزرق، أو في شرق السودان، وشماله، ووسطه.. الكل أصبح حارساً للثورة، وعاملاً ومنتظراً للتغيير.. وفوق كل ذلك كانت المرأة عنوان ثورة ديسمبر المجيدة، وحينما تخرج المرأة من أجل الثورة والتغيير، يخرج معها صوت الكنداكة من جوف التاريخ، منادياً، بلغة اليوم، وفي سبيل الثورة والتغيير: "حقي المشنقة والمدفع أب ثكلي"، فلا مجال للتراجع، و"من ذا الذي يزعم أن الحرية تفدى بأقل من الأنفس الغوالي؟" كما قال المفكر السوداني الإنساني محمود محمد طه.. إن المرأة هي صاحبة الحق والمصلحة في التغيير، وصاحبة الوجعة في ثمن التغيير.. فلقد مات الابن والابنة والزوج والأب في ثورة ديسمبر المجيدة، فلا مجال للتراجع ولا مكان للخوف من أي ضابط مغامر لا ينقصه الجهل.. فلقد انتزع الشباب والكنداكات الحرية بدمائهم، ضربوا وقطعوا وقتلوا، ولكنهم لم يتراجعوا ولم يهزموا، فلقد انتصروا وشهد العالم بالملحمة. فما هو واجبنا؟ الواجب هو الوفاء للشهداء ولدمائهم، بالعمل والعمل ثم العمل من أجل الثورة والتغيير..
ثورة ديسمبر المجيدة والتاريخ الجديد للثورات الإنسانية
لقد أودع الشعب السوداني العملاق في سجل الثورات الإنسانية، أعظم لوحة في التاريخ الثوري للشعوب، كان قوامها السلمية والاجماع وقوة الإرادة، وشعارها حرية سلام وعدالة. اندلعت الثورة في 19 ديسمبر 2018، واستمرت على مدى (142) يوماً من الحراك الثوري المتواصل والمنضبط في المواقيت مع الالتزام بالسلمية والاصرار على المواجهة. كان الشعب السوداني يخرج في مسيرات جماهيرية ضخمة وسلمية، وصفتها بعض وسائل الإعلام العالمية، بأنها من حيث الحجم والسلمية تمثل تاريخاً جديداً للثورات الإنسانية. ظل هذا الحراك الثوري بهذه العزيمة والحيوية والعنفوان حتى انهار النظام المستبد فسقط في 11 أبريل 2019. وكانت التضحيات كبيرة. فماذا تعني التضحية في سبيل الوطن؟
التضحية تمنع الانتهازية
قدم الشباب السوداني في ثورة 19 ديسمبر الشعبية، تضحية لم يشهدها السودان من قبل. وهي تضحية من أجل الثورة، لا تنفصل عن تضحيات دعاة التغيير من استقلال السودان، وكذلك لا تنفصل عن تضحيات ثورات الكفاح المسلح في أقاليم السودان المختلفة. فقد واجه الشباب قمع النظام وقسوته بصدور عارية، وظلوا على استعداد لمواجهة الموت، وفي هذا إخلاص للسودان وشعور بوحدة المصير نادر المثيل. إن مستوى التضحية التي قدمها الشباب السوداني كانت أمراً جديداً في تاريخ السودان منذ استقلاله. فغياب الضحية من أجل السودان، كما يرى محمود محمد طه، يُورث الانتهازية. فقد تحدث، قائلاً: إن التضحية تمنع الانتهازية في الممارسة السياسية.
إن ثورة ديسمبر المجيدة، في تقديري، تنشد الاستكمال لاستقلال السودان بوعي جديد.. فلقد عبَّرت الثورة عن ثورة عقول، حيث الوعي الجديد، وإعادة التعريف للذاتية السودانية، إلى جانب أشواق التحرر من الأوصياء على العقول. فالمد الثوري، كحالة إنسانية تنشد التغيير والتحرير، قد تمكن في السودان. ولا ينقصنا سوى العمل على فكرنة/ عقلنة الثورة لنكون على مشارف انفجار "الثورة الكبرى"، التي أشار لها محمود محمد طه، وأوضح بأنها ثورة ستشتعل في عقول الجماهير، وهدفها التغيير الشامل والجذري، ولا يفصلنا عنها، سوى لحظة الاجماع، وقيام المثقفين بواجبهم نحو اشعالها في عقول الجماهير. فمتى ما تمت الثورة الكبرى، الآن أو مستقلاً، ستكون إدارة السودان على أساس التعدد الثقافي، وقيم الديمقراطية والحرية والعدالة الاجتماعية وكرامة الإنسان، من أبجديات الحراك السياسي والفكري، وعندها ستتم الوحدة بين أقاليم السودان المختلفة، بما في ذلك جنوبه، الذي اختار اسم (جمهورية جنوب السودان) لدولته وفي هذا نبوءة مستقبلية لوحدة قادمة، كان قد أشار لها محمود محمد طه.
شارك هذا الموضوع: