امتناع الإعلام عن واجبات الخدمة الخبرية، واستخلاصها من مصادرها، ومظانها السياسية، من ألسنة، وأروقة، ومكاتب السياسيين قد تكون واحدة من أزمات المهنية الاعلامية الحالية، ومآزق الشفافية، وتدفق المعلومات بنحو حر ومنساب.
ولكن، تعدّ لامبالاة السياسي بالإعلام إحدى علامات الساعة السياسية، وهذا ما بتنا نشهده في أداء عدد من التنفيذيين الانتقاليين الذين يصمتون، ويشيحون بوجوههم، وينامون نوم أهل الكهف بتباعد ظاهر عن الوسائط الإعلامية، فلا يرف لهم جفن، ولا يندي لهم جبين.
لقد طالب الثوار والثائرات، وكذلك جماهير الثورة بحكومة كفاءات تمثلهم، وتتحمل وظيفة تجسيد وتحقيق آمالهم العراض في الثورة والتغيير، وانخرطت أطراف ومكونات العملية السياسية فولدت عن طريق تحالف الحرية والتغيير الحكومة الراهنة الانتقالية بتمثيل قد يفوق الـ٧٥ في المائة من التكنوقراط.
فعبر ما يقارب العام من بداية التشكيل، وبدء انطلاق صافرة البداية التنفيذية الانتقالية، تم رصد وتسجيل العديد من الخروقات التي صاحبت أداء الطاقم التنفيذي في علاقته بالاجراءات الإصلاحية المطلوبة، وممارستها في ذات الوقت الابتعاد، وبأشكال نسبية عن الأجهزة الإعلامية.
من الصحيح جداً أن حقيقة أخذ الحكومة لونين مختلفين، وتفكيرها برأسين قد شكلا عائقاً يكاد يرى بالعين المجردة تجاه حركتها المفترضة نحو تحقيق أهداف الثورة، والمطلوبات ذات الأولوية.
ولكن ما يمكن تأكيده أن أعمدة ذلك العائق ما كان لها أن تستطيل وتنتفخ دون ضعف خبرة الفريق التنفيذي، وهشاشة التماسك المعرفي التطبيقى في إدارة علاقات الوظيفة، وياتي في مقدمة ذلك سوء إدارة العملية الإعلامية، وعلاقتها بعناصر ومشتقات هذه العملية.
وإذا غضضنا الطرف عن صمت الوزارة المعنية بالإعلام، وتقصيرها في الاضطلاع بواجباتها الأساسية، وفي مقدمتها واجب الإصلاح الإعلامي وفق إستراتيجية وتخطيط واضحين، فان التدفق الخبري من حزمة وجملة الوزارات، والهيئات، والمصالح الحكومية في وسائل الإعلام، وما تنشره من أخبار وأنباء بما تفعل لا يزال دون التوقعات، بل يكاد المواطن البسيط لا يعرف شيئاً عما تقوم به تلك الوزارات والهيئات بصفة يومية، في غياب شبه متعمد لأنشطتها، وما يهم المواطن منها.، بل يمكن القول أن أكثرية المواطنين لا تعرف أسماء بعض الوزراء ممن اعتكفوا بمكاتبهم منذ لحظة تعيينهم، دعك أن تعرف صورهم، وقد انكبوا كلياً في روتين العمل اليومي، من دون أن يخرج كثير منهم في مناسبات تقتضيها الضرورة الاعلامية لبث الرسائل، وتشبيك الرأى العام، وتعريفه بحقائق ما يدور في دهاليز الحدث السياسي او الخدمي الذي يهمه.
وعلى الرغم من الجهود الإيجابية التي تقوم بها وكالة الأنباء السودانية – سونا – وكذلك تلفزيون السودان فى فتح منابرهما، وتغطية آلات التصوير للأخبار الا أن الناتج العام الإجمالي من كل ذلك، وفي ظل ارتفاع سقف الحاجة المعلوماتية للجمهور يصبح دون المتوقع.
الباحث عما وراء تلك الظاهرة المخلة بين المسؤول والرأى العام سيعثر دون شك على نقاط ضخمة من السلبيات قد تسربت واقتربت من تكوين الرأي العام صورة ذهنية واضحة عن الأداء العام للحكومة، وكذلك عما أصاب حيوية الخاصية الثورية للجهاز التنفيذي.
فهنالك عدد من الوزراء والوزارات، إن لم يكن السيد رئيس الوزراء نفسه، قد خرجوا عن الخدمة الإعلامية بصفة نشطة دون حرج أو تحسس من جانبهم في ارتكاب ذلك الغياب.
ترى ما السبب الذي يكمن وراء ذلك؟
آنفا ربما نكون قد ذكرنا السبب، ولكن بنحو عابر ومخفف اتصل -كما ذكرنا بضعف الخبرة الادارية التنفيذية عند السادة التنفيذيين الذين من المفترض كانوا ان يتصفوا بالتكنوقراطية كما كما قدر لها بأن تصبح الهوية التعريفية لقيادات الوزارات والخدمة المدنية عند الترشيح. ولكن، وفيما بدأ، أن ثمة لبس فادح قد رافق التطبيق التعريفي للتكنوقراط والتكنوقراطية جعلهما الأقرب الى التكنوغلاظ والتكنوغلاظيةفي غياب الحساسية الاعلامية المطلوبة.
فالتكنوقراط وحسب التعريف المدرسي القاموسي هم: (النخب المثقفة الأكثر علما وتخصصا في مجال المهام المنوطه بهم, وهم غالباً غير منتمين للأحزاب. والتكنوقراط كلمة مشتقة من كلمتين يونانيتين: التكنولوجيا: وتعني المعرفة أو العلم ، و قراط وهي كلمة اغريقية معناها الحكم , وبذلك يكون معنى تكنوقراط حكم الطبقة العلمية الفنية المتخصصة المثقفة).
اما الحكومة التكنوقراطية فقد جاء تعريفها بأنها: ( الحكومة المتخصصة غير الحزبية التي تتجنب الانحياز لموقف اي حزب كان.).
ما يهمنا من كل التعريف آنف الذكر بصفة أكثر هو الجزء المتعلق بالتطبيق الانتقالي، الذي يقول: ( وتستخدم هذه الحكومة في حالة الخلافات السياسية).
الواقع الحى الملموس، كما الملاحظة الاستعادية يقران بان خطئأً مفاهيمياً كا كان قد أصاب محتوى التعريف للتكنوقراط والتتكنوقراطية في تجارب ما بعد ثورة اكتوبر والانتفاضة وربما هذه المرة بما وقع من اجماع قد تكرر عليها بأنها الصيغة الأمثل. وقد يكون في ذلك قدر من الصحة والأمانة قياسا بالعلاقة التداخلية التي جرت بين المؤسسة العسكرية ممثلة في الجيش وجهالز الامن والشرطة بالأنتفاضة وهذه المرة التي تكاملت فيها العلاقة في شكل وثيقة دستورية. ولكن ما يجب الانتباه والالتفات له هذه المرة يتلخص في المنخفض المعرفي والثقافي الاداري لطاقم المسؤولين من الصف الاول وذلك بسبب عدم توفر عامل التدرج والترقي المنتظم في التطبيق التنفيذي المتخصص.
ان من الأهمية بمكان ذكر أن مضاعفات سوء الخبرة الإدارية – التي لا نقصد بها ضرورة شغل الوزير او الوكيل وظيفة مشابهة فيما قبل، ولكن الوعي بأهمية علاقات الوظيفة بالفضاء الاجتماعي والثقافي والإعلامي- قد أدت دوراً واضحاً في فشل الحكومتين الانتقاليتين عقب ثورة اكتوبر والانتفاضة، وشكّلت أحد أسباب الأزمة السياسية التي نشبت بعد استقالة الأستاذ سر الختم الخليفة في الأولى، وبإضطراب أداء الدكتور الجزولي دفع الله في الثانية، فكانت النتيجة التدخل العسكري بوقوع انقلاب الخامس والعشرين من مايو 1969م، وانقلاب الثلاثين من يونيو 1989م. من هنا، فإن هدف هذا المقال التذكير بأهمية ملاحقة الاداء التنفيذي إعلامياً، ولدعمه، وليس لانتقاص مهامه وأدواره.
ان أغلب التنفيذيين من الوزراء والوكلاء الحاليين لم تكن لديهم سابق خبرة ادارية بالخدمة المدنية بالادارة المخصصة، وهذا ما أنتج جملة من المشكلات بالاضافة الى المشكلات المفاهيمية ذات الصلة بالدور او الأدوار المناط بهم القيام بها. ومن ضمن شبكة من الأخطاء التطبيقية المرتكبة يلاحظ تجميد العلاقة بالأجهزة الاعلامية من قبل النسبة العظمى من الوزراء والوكلاء المعينيين.
ان تجميد العلاقة مع أجهزة الاعلام أو ضعفها ينبئان عن قصور مفاهيمي وثقافي إداري يتعلق بعدم استيعاب المسؤول لوظيفة الخدمة الإعلامية، وما يترتب على عدم القيام بها. فالخدمة الاعلامية من أولى صفاتها تسويق المعلومات أو الأخبار المتخصصة للرأي العام وتمليكها له، بما يضمن خلق الارتباط اللازم بين المسؤول ومؤسسته، وبين المواطن العادي وغمار الناس ذوي الحاجة المتنامية إلى معرفة ما يدور، ويتصل بجوهر مطالبهم وحاجاتهم في الاصلاح.
هذا ما سوف نجده في تقسيم الرأى العام إلى أنواع غير محدودة، ولا حصر لها من الشرائح والفئات فيما يتعلق بالمجالات الخدمية العامة.
اما عدم القيام بالدور المناط، وبالتالي عدم الامتثال لشرط الشفافية في ظرف دقيق كالظرف الانتقالي، فتكلفته باهظة الثمن لما تعرف بسيكولوجية الثورة، والرأى العام، اذ يضرب ذلك مصداقية الحكم، وانابته في التعبير عن الحقوق والواجبات لجمهور الثورة، ومجتمعاتها.
ومن الحتمي أن يسهم ذلك في خلق البرود والجمود الاتصالي، وصناعة الشائعات، والمواقف المضادة.
ويمكن القول إن العكس من ذلك، والذي رشح، هو النموذج الاعلامي البالغ الشفافية الذي تقدمه لجنة ازالة وتفكيك التمكين، التي أصبح جدول أعمالها الاعلامية مطلوباً بنحو لا مثيل له من كل أجهزة الدولة التنفيذية. بل يكاد انعقاد الأداء الاعلامي المنقول بشكل مباشر يماثل الحدث الأهم والسهرة التلفزيونية المفضلة لدى السودانيين بداخل السودان وخارجه من ذوي المصلحة في تثبيت انتصار ثورتهم.
إن مسؤولية السيد رئيس الوزراء تتصف وبدون ريب بالتعقيد، الذي من ضمنه، وفي مقدمة عناصره رفع الكفاءة والحساسية الإعلامية المفقودة لدى جهازه التنفيذي خاصةً، وأهمية دعمه بالدورات القصيرة المكثفة في مجالات كالإعلام والايتكيت والبروتوكول، ولغة الجسد، والخطابة، وضبط المظهر الرسمي، بتذكير أن كل ذلك يؤدي دوراً تكاملياً، مع إجادة العمل، والقيام بالواجبات الرئيسة للمسؤوليبن التنفيذيين.
أختم بأن أرسل في بريد رئيس الوزراء بما جاء من حديث حكيم في اجتماع مشغلي شبكة شينزن:
(ينبغي عليك التأكد من الشيء الذي يجب فعله للتحقيق. ففي أحيان كثيرة يتطلب ذلك الرجوع خطوة إلى الوراء، والسماح لبعض الأشياء أن تأخذ مجراها. وعليك ان تكون مستعداً للتراجع في الأوقات الحاسمة، والمشاركة مع الآخرين.
شارك هذا الموضوع: