صحيفة التيار 13 يونيو 2020
بسبب غيابي ثمانية عشر عامًا متصلة من البلاد، لم يسعدني الحظ بالتعرف على البروفيسور الراحل، الطيب زين العابدين، إلا في السنوات الثمان الأخيرة من حياته العامرة. التقيته في هذه المدة بضع مرات، في مؤتمرات ولقاءات تفاكرية؛ في الدوحة ونيروبي والخرطوم. عرفت من لقاءاتي به، أن للإسلاميين وجهًا آخر غير الذي أعرف. فمفاهيم الرجل ومنهجه في الحوار تضبطه أكاديميته. لذلك حين تناقشه يطالعك انفتاح الذهن، والحياد الأكاديمي، وغياب الإيديولوج. وأهم من ذلك دماثة الخلق. لا أعتقد أن أكاديميته هي سبب ما لفت نظري فيه، وإنما تدينه الصادق العميق، وسلامة طويته، ونبله، وعفة نفسه. أرسل لي الصديق، بروفيسور عطا البطحاني مقالاً للفقيد كتبه في أخريات أيامه، عنوانه: "دعوة للتعايش الحسن بين أهل السودان"، حذَّر فيه من أن تنتهي ثورة ديسمبر إلى نفس مصير سابقتيها.
مما جاء في هذا المقال قوله: "أحسب أن ما وقع من استقطاب سياسي حاد، عقب ثورتي أكتوبر وأبريل كان له تأثيره الكبير في التمهيد لانقلابي كلٍّ من النميري في مايو 1969 والبشير في يونيو1989، بحجة فشل الديمقراطية الثانية والثالثة …. هذا السيناريو البغيض قابل للتكرار مرة بعد أخرى …. الأحزاب لا تكف عن المجاذبة الخشنة حول اقتسام كراسي السلطة. كما أنها لا تصبر على البعد عن تلك الكراسي، ولديها مقدرةٌ فذَّةٌ في المشاركة بالحكومة والتمتع بسلطاتها ومخصصاتها، ومعارضتها ….. في ذات الوقت! لذلك كان أحد مقترحاتي في زمن متأخرٍ لحل إشكالية الجمع بين الديمقراطية التعددية والثقافة الأبوية السودانية هو الأخذ (بالديمقراطية التوافقية) التي تعمل بنجاح في كل من سويسرا وبلجيكا وهولندا وغيرها". وسبب ذلك بأن السودان يشبه هذه البلدان في الانقسامات القومية والدينية الحادة." ذكر بروفيسور الطيب أنه دعا الأستاذ محمد إبراهيم نقد في عام 1986، لحوار مطول بمنزله. فاستجاب نقد للدعوة، وتحاورا لثلاث ساعات. روى أنه قال لنقد في ذلك اللقاء: "إن هذه الديمقراطية الوليدة لن تستمر طويلاً، وإن الخطر يأتيها منكم ومنا، (اليساريين والإسلاميين). ولدرء ذلك الخطر نحتاج كتابة ميثاق شرف مشترك بيننا حول بعض القضايا السياسية الهامة والحساسة نلتزم به معا".
كونه أستاذا في العلوم السياسية، كان واضحًا لديه أن الاستقطاب الحاد، في البنية السياسية، لأي بلد سيكون معوِّقا. والآن، ها هي ذات الاستقطابات تعود من جديد، وبنفس الروح القديم. لذلك، كي نخرج من نهج شطب الآخر، لابد لنا من وعي جماهيري وإرادة جماهيرية فاعلة، تلجم تجاوزات اليمين واليسار معا. لكن، في هذا المنعطف الحرج، يقع العبء الأكبر في خفض حدة الاستقطاب على الإسلاميين. فالنظام المقتلع هو نظامهم وعليهم جميعًا تحمل وزره. لذلك، يصبح ابتعاد تيارات الإسلاميين عن المؤتمر الوطني، والكف عن مغازلة البنية الإنقاذية؛ بشقيها العسكري والمدني فرضًا عليهم أداؤه. فمحاولات خلق جبهة من قوى اليمين؛ المدنية والعسكرية، من كارهي الثورة، المنكرين لشرعيتها، أمر ضار بمستقبل الاستقرار في البلاد. بل لربما كلفت هذه السياسة الإسلاميين، المستقبل كله، مرة وإلى الأبد. البلاد الآن، بحاجة إلى إسلاميين بنزاهة ومبدئية الطيب زين العابدين. على نموذجه ينبغي أن يقيسوا قاماتهم. لقد كان الإسلامي الوحيد الذي لم يقف مع انقلاب الترابي/البشير، وانحاز بصرامة لمبدأ الديمقراطية. ألا رحم الله البروفيسور الطيب زين العابدين، وأحسن إليه، وبوأه مقعد صدقٍ بين الطاهرين الخيِّرين الأبرار.
شارك هذا الموضوع: