لن أتعب من إعادة رفع الآذان في مالطا، في مسار محاولاتي المستمرة للتنبيه إلى ضرورة وضع أمورنا الملتبسة في نصابها، وإعادة الدولة السودانية إلى منصة التأسيس. تقتضي هذه الإعادة التخلي عن النهج المضر الذي ظللنا نمارس به السياسة في هذا البلد المحزون. جوهر هذا النهج المضر هو استخدام ديمقراطية ويستمينيستر القائمة على تمثيل النائب لأهل دائرته الانتخابية، في سياق لا يملك الاستعداد التاريخي ليجعل من تلك الممارسة ممارسة منتجة. فالسياق السوداني غير مستعد لديموقراطية التمثيل بهذه الصورة؛ لا من حيث البنى التحتية، ولا من حيث التعليم، ولا من حيث الاقتصاد. أيضًا لم يمتلك سياقنا الضوابط الدقيقة المُنظِّمة، التي تجعل الممارسة الديموقراطية فاعلةً ومثمرة. لقد بدأنا ممارسة ديمقراطية ويستمينيستر والطائفية في أوج سيطرتها على العقول. وبعد تجارب قصيرة متعثرة، ثار الحداثيون في اليمين واليسار عليها، فاخترقوا الجيش، ودفعوا به إلى الانقلابات. انتدب الحداثيون أنفسهم لينوبوا عن الشعب رغم أنفه. بسبب ذلك، أضاع منا العسكر 52 عامًا من عمر استقلالنا البالغ 64 عاما. وكما هو واضح الآن، فإن شهيتهم لا تزال مفتوحة لإضاعة المزيد.
لو تأملنا الديموقراطية التمثيلية كما مارسناها، والمقولة المركزية للإسلام السياسي القائلة: "إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن"، لوجدناهما شيئًا واحدًا تقريبا. وقد يستغرب كثيرون هذا الحديث، لكن، ما يجمع بين النهجين، باختصارٍ شديدٍ، هو الانحصار في العمل على الوصول إلى مركز السلطة أولا، بلا اهتمام بتمليك الشعب سلطة القرار، والمعرفة، وأدوات التغيير، وجعل عملية التصعيد إلى البرلمان أو إلى الوزارة نابعًا بصورة عضوية من الجذور. نخبنا لا تشتغل مع القواعد الشعبية، مباشرةً، لإحداث التغيير، وإنما تشتغل على الآليات التي توصلها هي إلى الكراسي، لتمارس التغيير من أعلى إلى أسفل. جرب الإسلاميون هذا النهج على مدى ثلاثين عامًا، فأوصلونا إلى هذه النتائج الكارثية. والحمد لله أن الشيوعيين لم يجدوا أكثر من ثلاثة أيام، إذا استبعدنا شراكتهم لنميري. وعموما، فإن كامل الطيف المصطف وراء الديموقراطية لا يملك مفهومًا للسلطة مختلفا عن مفهوم: "إن الله ليزع بالسلطان ما لم يزع بالقرآن". بعبارة أخرى: اجلسوني على كرسي السلطة، وسيكون كل شيء على ما يرام.
ما نراه حاليًا من انشقاقات داخل (قحت)، ومن" شربكة" وتعثر في محادثات السلام، ومن غلبة لمزاج" الشلة" على المعايير الموضوعية لاختيار الأفراد للمناصب الرفيعة، إنما هو دلالة على أن هذه العقلية التي تحيل كل قصدٍ سامٍ إلى رماد. عطفا على ما قلته في عمود الأمس 15 يونيو 2020، نحن بحاجة إلى مستودعات تفكير تفكك هذه التركة المثقلة من المناهج السياسية والممارسات السياسية الخاطئة. فهي لم تتعرض لنقد جدي، سوى من أقلام قليلة، يقرأ لها قليلون. نحن بحاجة إلى ثورة فكرية وثورة ثقافية تعيد تعريف الديموقراطية في سياقنا المحلي وترسم شخصيتنا الحضارية، وتستلهم تراثنا، وتجعل حراك التغيير لدينا، يبدأ من الجذور. أي أن يسير تغيير الواقع العيني، نحو الحرية والمساواة والعدل وتصعيد النخب إلى مراكز القرار، في وقت واحد. وفي هذا تفاصيل كثيرة. كل من قادونا منذ الاستقلال، إلى اليوم، لم يكونوا يمثلوننا حقيقة. ومن يتصرفون الآن باسم الثورة، لا يبدو أنهم فهموا روح الثورة ورسالتها كما ينبغي. نحن بحاجة إلى ملء فجوة كبيرة يحتاج ملؤها فكرًا جديدًا، وأليات جديدة.
نشر بصحيفة التيار 16 يونيو 2020
شارك هذا الموضوع: