تشعرني الشائعات حول موت اسياس دوما بالغثيان، مثلما يشعرني حكمة بالذل والمهانة. فلا موته صدق وأراح؛ ولا البال نساه فأستراح. كل ما يهمني من رحيله سواء كان اليوم أو بعد سنوات هو الوجه القبيح لإرثه الكريه الذي سيظهر بعد هلاكه؛ إذ سيدرك الجميع أن الرجل خلال مسيرته التي تجاوزت الخمسة عقود لم يزرع سوى حقلا من الكراهية سقاه بالدم وسوره بأشواك العداء ونصال البغضاء فلم يستجلب سوى الهم والعداء.
فإرتريا اسياس لم تكن لبعض هنا أو هناك سوى سكينا في القلب أو شوكة في الحلق أو خنجرا في الخاصرة؛ وحولها تحوم بغاث الطيور كما تحوم حول جيفة، وألف قلب سيفرح لزوالها مع تربص الأعادي بها.
سيكشف الغد إرث الخراب الذي سيخلفه اسياس؛ لأن التاريخ في حالات الجبابرة والطغاة يعيد نفسه بحذافيرها حتى ليصدق عليه قول هيغل " الدرس الوحيد الذي يعلمنا له التاريخ هو أننا لا نتعلم منه شيئا."
علاقة اسياس المراوغة بالغياب تجسد حالة إنسانية تنكر الموت وتتوهم سراب الخلود، ومثل أي طاغية في التاريخ، يرى أن الموت مصيبة تصيب الآخرين دونه. إن سياسة "فرق تسدّ" والتي لم يبرع في سواها لم تترك له وريثا: سواء كان الوريث مؤسسة أو فردا.
وتتشابه قصته للأسف المخزي بحالة جبار آخر طواه الموت مبكرا، في الثالثة والثلاثين من العمر، فباغتته المنية دون أن يترك خليفة أو وصية. ويؤثر عنه قوله في فراش موته " يرثني الأقوى" وهي مقولة لم يثبتها له المؤرخ بلوتارك، وإن كان التاريخ أثبتها فعلا لا قولا. كان ذلك الجبار هو الإسكندر الأكبر، الذي لم يحقق ما حققه، أي الانتصار في كل المعارك التي خاضها، إلا خالد بن الوليد رضي الله عنه. حطم الاسكندر الأكبر الإمبراطورية الفارسية وأمتد حكمه من مسقط رأسه بيلا في مقدونيا "جمهورية مقدونيا في البلقان اليوم" حتى مشارف جبال الهملايا ضاما تحت رايته المظفرة بلاد اليونان وآسيا الصغرى " تركيا اليوم" ومصر والعراق وسوريا وباختريا " أفغانستان" وهو ملك لم يجتمع لرجل قبله أو يخلد التاريخ لنا شبها له.
لم يظن الاسكندر أنه سيموت يوما، كما هو حال طاغيتنا؛ فلم يحدد خليفة أو وريث من جنرالاته الذي لبسوا معه أردية المجد؛ ولم يكن له وريث، إذ كان ابنه الاسكندر الرابع جنينا في بطن أمه، وكان له أخا غير شقيق يعاني من ضعف العقل. بعد موت جنرالات الصف الأول في جيشه وإمبراطورتيه العظيمة وبعد ومعارك دامية تم تقسيم حلمه بسكين الأطماع الحادة بين ضباط الصف الثاني من جيشه الغازي.
ففاز الجنرال بطليموس بملك مصر وأسس حكم البطالمة بها، وأنفرد سيلوقيس الغازي بحكم بلاد ما بين النهرين وعاصمتها بابل التي مات فيها الاسكندر، بينما وضع ليماخوس سوريا تحت يده. أما موطنه الأصلي مقدونيا وآسيا الصغرى فقد آلتا إلى ديمطريوس الأعور. وهكذا تطايرت الإمبراطورية شعاعا بعد أن كانت أعجوبة الزمان.
إن مثل الدمار الذي حاق بإمبراطورية الجبار الشاب، يتربص من وراء الباب الموارب بارتريا اليوم. فهذه البلاد لم تملك تقاليد ومؤسسات حكم تؤهلها لعبور مضايق خلو مقاعد السلطة دون الاصطدام بصخور الأطماع الفردية والجماعية والمحلية والعالمية. فليس هناك برلمان أو نائب لرئيس أو حتى وريث شرعي " لم يعين اسياس نائبا له بعد تسلمه الرئاسة تأسيا بحسني مبارك، والذي تواصلت مع استخبارات دول محددة للإطاحة برئيسه السادات، فبعد تسلم الرئاسة علم أن سكين الغدر سوف تأتيه من نائبه، لذلك لم يعين له نائبا إلا عندما ثار الشعب عليه" واسياس لا يفوت حكمة تدعم طغيانه ولو في الصين. فماذا أصبح لدينا اليوم؟
لدينا قادة برتبة لواء وضعهم الرجل على قدم المساواة، وسلمهم أجزاء من البلاد كمقاطعات عسكرية يحكمونها كيف أرادوا طالما انشغلوا بها عن منازعته في الحكم. وزرع بينهم البغضاء والفتنة وأجج بينهم نار الكراهية حتى أصبح أحدهم لا يأمن ظله الذي يتبعه في رابعة النهار. فكلنا نعرف الحقد الدامي بين فلبوس ولد يوهنس، رئيس هيئة الأركان الحالي، مع اللواء الراحل قرزقهير عند ماريام "وجو" وقصصهما التي تسير بها الركبان. والكراهية السوداء بين بطرس سلمون وهيلي ولد تنسائي "درع" والأحقاد الدفينة بين اللواء تخلي منجوس واللواء هيلي سامئيل "تشاينا" وبين الأخير والأدميرال حمد كاريكاري من جهة أخرى. هؤلاء الضباط لا يأمنون بعضهم، ولا يؤمنون ببعضهم بعضا، وكل واحد منهم يريد القضاء على خصمه الذي ستكون خسارته فوزا له. وموارد ارتريا الاقتصادية والسياسية الشحيحة لا يمكن قسمتها على اثنين ناهيك عن أكثر من ذلك: فماذا يتبقى بعد؟ حتما لا يتبقى إلا أن الفائز يأخذ كل شيء. The winner takes all
ومثل امبراطورية الاسكندر سوف تشهر الخناجر والدروع، وتحشد الأتباع والجنود وسوف يغذي الصراع على السلطان، ولو بعد حين، الحقد الدفين بغرض انتزاع حق متوهم من تحت أضراس الخصوم. وسوف يفتح ذلك الباب على مصراعيه لتدخل الأطراف الخارجية. ولست من المتوهمين بما يسمى بحكمة الشعوب عند التنازع والتناحر. وانهي حديثي بتجربة شخصية تشبه هذا السيناريو الدرامي. طلب مني ذات مرة بحكم الوظيفة إدارة فريق عمل يتكون من حوالي خمسين شخصا تختلف تخصصاتهم وأعمالهم لكنهم يعملون في إدارة واحدة وتحت هدف واحد. من قبل كان يقودهم أحد الزملاء وهو شخص رضع حليب مدرسة اسياس السياسية وتعلم الدهاء مع حروف الهجاء. فوجئت بعد رحيل الزميل بأني أمام فريق متناحر، متربص، يشغله نسج خيوط العداوة عن الانتاج والكفاءة. قوم خلطوا كراهية الآخر مع قهوة الصباح السوداء، ونتنت روائح المكاتب بسبب الكراهية والفتنة. فسألته بعد حين في لقاء جمعني به: بالله كيف استطعت إدارة هذا الفريق المتنافر المتناكر؟ فرد بابتسامة ماكرة ودهاء مكين: القاعدة الأولى: عليك أن تزرع بينهم الخلاف؛ ففي هذه الحالة لن يفكروا أبدا في منازعتك الكرسي. ثانيا: أجعل كل واحدا منهم عينا على الآخر، وأخيرا قربهم وباعدهم عنك أحيانا وأحيانا. صعقني وأدهشني هذا التفكير، فقلت له بأني أحتاج إلى تأهيل نفسي خاص لأداء هذه المران، فقال لي: انت طيب؟ وترجمتها هي: انت حمار.
بعد هلاك الطاغية سيكون لمثل هذا الرجل وتفكيره السيادة في تدبير أمر البلاد وإدارة إرث الخراب. اسياس أطلق يد الضباط الكبار حتى يأمن بقاءه في كرسيه وعندما يذهب سوف يتطلع الجميع إلى كرسي عرشه: عملا بقاعدة أنت أمير وأنا أمير. وهذا هو إرث الخراب الذي سيخلفه هلاك الطاغية وهو الأجدر بالتأمل والتفحص بدلا وراء الركض وراء الطائرات الورقية للشائعات. وإذا سألني قارئ هذه السطور: هل انت واثق من أن سيناريو الكارثة هذا سوف يتحقق؟ أرد بالقول: الغد يتخلق في رحم اليوم؛ أنظر إلى الأب تدرك سمات ونجابة الولد.
وهو أمر لا أحبذه ولا أتمناه ولكن تعلمنا في المدارس: " ما نيل المطالب بالتمني ولكن تؤخذ الدنيا غلابا"
فما بالك لو كان آخذ الدنيا بيده سلاحا.
شارك هذا الموضوع: