تمهيد
ثنائية الواقع والمثال كإطار للمقاربة بين الصور العيانية لتناقض الواقع كممارسة معاشة، والمثال النموذج الأمثل، لتغيير معطيات الواقع للأفضل وفقاً للفاعلين في العملية السياسية.
أفريقيا القارة كتطبيق عملي لتلك المقاربة يحكي حاضرها وتاريخها عن مآسي وأحلام وأمال في التغلب على الأوجاع والأحزان، ولمستقبل مشرق للأبناء القارة السمراء. يفرض الواقع إحداثياته باعتبار التطور الاجتماعي مشروط بالتراكم التاريخي للمجتمعات الأفريقية، وشكل العلاقات الاجتماعية السائدة، تبدأ من القبيلة إلى الدولة كنهاية بتصورات المثال الأمة، والوحدة القارية. لتعكس حجم المسافة بين الواقع الموجود والواقع المنشود. لفهم الخلل بين الاثنين يجب دراسة الأشكال المختلفة للنظم الاجتماعية والسياسية للمراحل التاريخية لأفريقيا القارة وعلاقات القوة والسيطرة السائدة في المجتمعات الأفريقية والعوامل المؤثرة والدافعة للتغيير الاجتماعي والسياسي لخلق صورة كاملة واضحة للموضوع.
المفاهيم
يبدأ البناء النظري للموضوع برسم خطوط وملامح للظواهر المرتبطة بإشكاليات الواقع وتحديات المثال لذلك يتعين النظر إلى مفهوم كل طور أو دورة في سياق التطور التاريخي للمجتمعات الأفريقية.
تصنيف الوحدات الاجتماعية شرط أولي لفهم الظواهر المرتبطة بالموضوع.
القبيلة
اشتغل علماء الأنثروبولوجيا بدراسة القبيلة باعتبارها من أهم الوحدات الاجتماعية في أفريقيا، وتشكل العمود الفقري للمجتمعات الأفريقية من أصغر مكونات القبيلة، الأسرة والعشيرة. يختلف علماء الأنثروبولوجيا في تعريف القبيلة لكن أغلب التعريفات تتفق على مضمون وطبيعة القبيلة بالتحديد في المجتمعات الأفريقية.
يمكن حصر العناصر الرئيسية لمفهوم القبيلة عند علماء الأنثروبولوجيا في أربعة عناصر
سياسي: إن القبيلة مجموعة من الناس لديهم نظام حكم ذاتي قد يكون مركزي، أو غير مركزي، لإدارة شئون مجتمع القبيلة ومحدد كيفية اتخاذ القرارات وفق قانون عرفي مختص بالقبيلة.
اجتماعي: إن القبيلة لديها بناء اجتماعي، يعكس التراتبية الاجتماعية في هيكل القبيلة ونسق يحدد العلاقات الاجتماعية بين أفراد القبيلة.
اقتصادي: مجتمع القبيلة لدية نشاط اقتصادي لكسب العيش قد يكون زراعي أو رعوي.
ثقافي: إن القبيلة مجتمع يتميز عن الآخرين بلغة مشتركة وعادات وتقاليد وتاريخ مشترك، يعظم أفراد القبيلة الأسلاف وأجداد القبيلة ويكونوا مصدر فخر بالنسبة لهم.
تشكل تلك العناصر مجتمعة مفهوم القبيلة عند علماء الأنثروبولوجيا.
الإثنية
(الجماعات الإثنية هي تلك الجماعات التي لديها اعتقاد بأصل مشترك ناتج عن ذكريات جمعية عن الاستعمار أو الهجرة، أو التقاليد وعادات مشتركة، أو تشابهات طبيعية، أو الثلاثة مجتمعة، وتتحد الجماعات الإثنية أيضاً عن طريق سلسلة من الامتدادات الإثنية التي تشمل اللغة والطقوس المنظمة للحياة والتشارك في المعتقدات الدينية).
القومية
مفهوم القومية في أفريقيا من المفاهيم التي يسعى البعض للتأسيس له كإطار للخلاص من إشكاليات البناء المجتمعي، وخلق وحدة جامعة للقبائل والإثنيات في افريقيا، يتم تعريف القومية باعتبارها (حركة أيدولوجية من أهدافها الوصول إلى الاستقلال والوحدة والهوية والحفاظ عليها لمصلحة شعب يعتقد بعض أبنائه أنهم يشكلون أمة).
الأمة
(الأمة مجموعة ثابتة من الناس، مكونة تاريخياً، ظهرت على أساس وحدة اللغة والأرض والحياة الاقتصادية، والطابع النفسي الذي يتجلى في الخطوط المميزة للثقافة القومية) نشأت الأمم الحديثة من اتحاد شعوب مختلفة وتجمعات قومية.
الوحدة الأفريقية
يقوم مفهوم الوحدة الافريقية على الوحدة السياسية، على اتحادي فيدرالي بين الدول الأفريقية للتنمية، وتقوية العلاقات، والتعاون بينها وفقاً للأنشطة التالية: سوق اقتصادية مشتركة على اساس تخطيط اقتصادي تتضمن سياسات موحدة للإنتاج والعملة والنظام النقدي. بالإضافة إلى دفاع مشترك لحماية سيادة الدول الأفريقية.
البعد التاريخي للمسألة
المعطى التاريخي يجسد التطورات المتقلبة للمجتمعات الأفريقية منذ العصر البدائي إلى أفريقيا ما بعد الاستعمار. التسلسل التاريخي للمجتمعات الأفريقية يبدأ بالنمط البدائي، المشاعي كما يوضح والتر رودني، إنه وفي أفريقيا قبل القرن الخامس عشر ميلادي كان الشكل المتحكم في العلاقات الاجتماعية مبدأ الأسرة والقرابة المرتبط بالمشاعية، علاقات القرابة من ناحية الأم أو الأب تعتبر محدد عضوية الفرد داخل المجتمع الأفريقي. هناك مجتمعات أمومية وأخرى أبوية. يرجع رودني سيطرة هذا الشكل القرابي إلى ارتباط أساليب الإنتاج وكسب العيش بهذا النمط، حيث ملكية الأرض كانت ملكية جماعية للأسرة أو العشيرة مما أدى إلى ارتباط النشاط الإنتاجي بالأسرة الممتدة أو العشيرة.. مثل الزراعة والصيد. العمل يكون لصالح القرابة كما وضح رودني في مثال مجتمع أمومي مثل مجتمع بيمبا في زامبيا حيث يقضي العريس سنوات من العمل لصالح والد عروسه.. لاحقاً لجأت المجتمعات الأفريقية إلى التجارة لتبادل السلع الفائضة بالسلع التي تحتاجها. خلال آلاف السنين صنعت الشعوب الأفريقية تاريخها الخاص من حيث الأنظمة اجتماعية وسياسية والأشكال المختلفة لإنتاج الثروة وثقافتها وحضارتها. نظم مركزية وممالك قوية مثل الأشانتي، حضارات مثل الفرعونية والكوشية وتمبتكو وأكسوم، تفاوتت في درجات التطور الاجتماعي ومستوى التقدم والتنمية. الوجود الاجتماعي للشعوب الافريقية أنتج مورث ثقافي هائل من فنون وآداب ونظم تفكير وفلسفة وأساطير تميزت بها أفريقيا.
من أهم المتغيرات التي حدثت للقارة الأفريقية وأثرت بشكل مباشر على واقعها مجيء الاستعمار الاوربي للقارة الأفريقية، بموجبه حدث تغير كبير في المستويات الاجتماعية والسياسية والثقافية للمجتمعات الأفريقية.
دخول الاستعمار الأوروبي للقارة الأفريقية ساهم، بشكل سلبي، في قطع حركة التطور الطبيعي للمجتمعات الأفريقية من نظم سياسية واجتماعية وطرق تواصل واندماج للقبائل والإثنيات الأفريقية، وأشكال التنمية الاقتصادية… الخ، بالإضافة الى ربطه القارة الأفريقية باحتياجات أوروبا الاقتصادية.
إدخال افريقيا حيز الاقتصاد الرأسمال بجانب النظم الإدارية للمستعمر، كان من أبرز التغيرات في أفريقيا ما بعد الاستعمار، مما أدى لظهور علاقات اجتماعية جديدة نشأت وفقاً لتلك التغيرات، فالرغبة في تعظيم الأرباح للمستعمر استلزم استحداث تنمية للصناعة الاستخراجية، ومشاريع الزراعة الكبيرة وإنشاء الموانئ والسكك الحديد والطرق الحديثة وخلق مصطنع للمدن من خلال ولادة علاقات جديدة خارج الإطار القبلي وفقاً لعلاقات العمل والمصلحة،، وفي مجال السلطة السياسية عملت الإدارات الاستعمارية، وفقاً لسياسة فرق تسد على استغلال التناقضات بين المجتمعات الأفريقية بتفجير الصراعات القبلية. اعطاء الإدارة الاستعمارية مثل البريطانية الصلاحيات الواسعة للإدارات الأهلية باعتبارها المركز الرئيسي لتطبيق السياسة الاستعمارية أدى إلى خلق صراع بين عشائر القبيلة الواحدة بسبب الاستخدام الفردي للأراضي، صراعات بين قبائل الرعاة والمزارعين حول ندرة الموارد لعبت سياسة توزيع الوحدات الإدارية دور كبير فيها حيث تم فرض حدود بين القبائل فخلق هذا الوضع صراع حول مناطق مصادر المياه. وتم استخدام قبائل للهجوم على قبائل أخرى للإخضاع للسلطة الاستعمارية.
واقع أفريقيا بعد الاستعمار بين معركة التحرير القومي والانقسام القبلي
في منتصف القرن الماضي انتظم القارة الأفريقية حراك ثوري يهدف لتحرير الدول الأفريقية من الاستعمار، ونيل الاستقلال السياسي والاقتصادي. المشاريع الفكرية لتصفية الاستعمار كانت بمثابة العربة التي تجر حصان حركات التحرر الوطني وتنير له الطريق من أجل أفريقيا حرة مستقلة متجددة.
توحيد الشعوب الأفريقية الممزقة بصراعات الولاءات القبيلة والإثنية كان أكبر تحدي لحركات التحرر الوطني، كيف تحدث التحول التاريخي للشعوب الأفريقية ذات التنوع القبلي والإثني المكونة للدول المستقلة حديثاً إلى شكل وحدوي قد يكون قومية أفريقية أو أمة أو وحدة أفريقية.
اتخذت الدعوة للوحدة جانبين، الوحدة داخل البلد الواحد، والوحدة بين الدول، أي الوحدة القارية. الوحدة الداخلية تعالج إشكاليات الانقسام القبلي والإقليمي داخل البلد الواحد، بينما الوحدة القارية لمعالجة المشاكل الناشئة من التقسيم الاستعماري للحدود.
مفهوم مثل القومية لديه ارتباط بفكرة الوحدة عن طريق الدولة القومية تم استخدمه لمعالجة الخراب الذي أحدثه الاستعمار في الكاميرون عبر التقسيم إلى قسمين الاول تحت الانتداب البريطاني والثاني تحت الانتداب الفرنسي، كل قسم لدية نظام إداري وسياسي ولغة مختلفة عن الثاني كانت من نتائجه سيادة روح الفرقة والتشرذم بين أبناء الشعب الكاميروني، لذا تم طرح فكرة القومية للتوحيد شعب الكاميرون تحت راية واحدة ولإقليم توجولاند بالتحديد شعب الايوي نفس الحكاية.
القبيلة والانقسام الاجتماعي
الدولة بالحدود الموروثة من الاستعمار واجهت تحدي الانقسام الاجتماعي الذي أخذ شكل قبلي كأكبر تحدي لوحدة المجتمعات الأفريقية. حاول الأكاديميون والمثقفون الأفارقة دراسة الظاهرة القبلية في سياق ما بعد الاستعمار، أرشي مافيجي قدم حجة منطقية في تناول الموضوع.
الفرضية عند مافيجي وما ساعد في خلق مشكلة القبيلة للمجتمع السياسي الأفريقي:
وفق مافيجي يتأسس مفهوم القبيلة على مجتمع يمارس اقتصاد الكفاف البدائي ويتمتع بحكم ذاتي محلي.. بناء على هذا التعريف يستنتج مافيجي أن ظاهرة القبيلة بعد دخول الاستعمار أفريقيا قد طرأ عليه تغيير جوهري، أدخل الاستعمار الأوروبي النظام الرأسمالي المالي إلى افريقيا مصحوباً بتقسيم العمل وأنماط جديدة للإنتاج ونظام لتوزيع السلع بالإضافة لتغيير علاقات القوة السياسية، التي غيرت في البناء المادي والاجتماعي للمجتمعات الأفريقية. لفهم تأثيرات التغيير في التركيبة السياسية يقدم مافيجي أمثلة لتدعيم وجهة نظره، يقول أن رجل القبيلة الذي كان يكافح من أجل القضايا الأساسية للمجتمع التقليدي الذاتي والمندمج أصبح يستخدم أيدولوجية القبيلة للحفاظ على قوة المنصب في المدن، هنا يفرق مافيجي بين القبيلة في الريف، ومصالح القبيلة في المدن التي تتصدر النخبة الأفريقية من الطبقة الوسطى استغلال اسم القبيلة فيها.
المبدأ الأساسي لأطروحة مافيجي حول القبيلة مبدأ التماثل والتناقض أي القبيلة في أفريقيا كانت متماثلة من ناحية المصالح والقضايا لكن المبدأ قد تغير بعد دخول الاستعمار ليظهر تناقض المصالح والقضايا بالتحديد في المدن حديثة المنشأ بفعل الاقتصاد النقدي للاستعمار. ما طرحة أرشي يشير إلى مسألة مهمة في موضوع القبيلة.. أهمية المسألة تتمثل في أن إدخال الاستعمار للرأسمالية كنظام اقتصادي حديث لم يفكك العلاقات والنظم التقليدية للقبيلة كما فعل في أوروبا، المعروف أن ظهور الرأسمالية كنظام خلق ثورة شاملة في أوروبا الثورة الصناعية على المستوي الاقتصادي والحداثة وعلى المستوى القيمي الثقافي حيث فكك العلاقات الاجتماعية للإقطاعية في أوروبا لتقوم على أساس الحداثة والعقلانية أما في أفريقيا فإن الرأسمالية لم تفكك البنى الاجتماعية للقبيلة القائمة على علاقات القرابة بل اعتمدت عليها وقوتها في سبيل خدمة مصالحها.
بالرغم من أن الرأسمالية خلقت علاقات جديدة في المدن إلى جانب العلاقات التقليدية حيث نشأت نتيجة لمشاريع إنتاج المواد الخام التي يحتاجها الاقتصاد الاوروبي علاقات اجتماعية وفقاً للعمل بعد هجرة مواطنين من مختلف القبائل للعمل في تلك المشاريع كما يلاحظ مافيجي هجرة العمال في كيب تاون في ظروف مختلفة إقليمية على حساب القبيلة.
تدخل علاقات القبيلة وفق أطروحة مافيجي لتشير إلى السياقات المتعددة لتجلي القبيلة وفقاً لعلاقات القوة والبنى التنظيمية للهيمنة والسيطرة، فهي بطاقة يتم استخدامها في صراع المصالح والاستغلال عند الطبقة المهيمنة داخل القبيلة الواحدة، وأيضاً تظهر كتعبير عن حقوق شعب معين في ملكية الأرض.
التمدن من أهم مظاهر التغير الاجتماعي في أفريقيا بعد دخول الاستعمار، المدن الأفريقية مثل سانت لويس أو لاجوس أو أكرا خلقها الاستعمار للحاجة إلى فصل مستعمرة البيض عن مناطق الأهالي بالإضافة إلى مساكن مجاورة للعمال الأفارقة (كان الإداريون الأوروبيون في بامكو يسكنون في كوليبا، وفي فريتاون يسكنون في هيل، وكان السود في أبيدجان يسكنون في تريشفيل، وفي داكار في أحياء فقيرة متعددة).
هذا الوضعية خلقت شكل هجين للسلطة السياسية والبنى الاجتماعية بين ما هو تقليدي بالتزام نحو القبيلة وواجباتها ونظمها السياسية والقانونية كالعرف الموغل في القدم، وبين الالتزام نحو مؤسسات الدولة الحديثة المنشأ من قبل الاستعمار. ظهرت ثنائيات الطبقة والعرق التقليدي والحديث الفردي والجماعي التي بدورها أوجدت تناقضات (فقد ظهر من ناحية المزارع الرأسمالي، وهو رجل يعتقد أن له الحق في تنمية أراضي لمنفعته الخاصة بأساليب تخالف الآراء الافريقية بشأن الملكية (على المشاع)، رجل لا يهتم إلا بنفسه، راغب في التقدم. ومن ناحية أخرى كان هناك الأفريقي الذي يؤمن بالحق التقليدي في الملكية). متطلبات مجتمع العمل الحر في ضوء الاقتصادي النقدي قاد إلى إيجاد صيغة للملكية الفردية للأرض بجانب الملكية الجماعية. أيضاً كان هناك ضرورة للتعليم الحديث لمساعدة الطبقات الحضرية في تلبية احتياجات الاقتصاد النقدي للأيدي العاملة.
القبيلة كمعطى سياسي واقتصادي تظهر في أطروحة محمود ممداني الذي يفترض أن تسيس القبيلة من أرث الاستعمار الذي استخدام التقسيم القبلي كأداة لتسهيل حكمة حيث وضع الامتيازات السياسية عند قبائل وهمش قبائل أخرى ورسم سياسيات واضحة لجعل التمثيل السياسي والامتيازات الاقتصادية مرتبط بالولاء القبلي للمجموعة التي ربط الاستعمار تأسيس الدولة بها، مما أدى إلى استحداث الهوية السياسية على أساس قبلي. ساهمت تلك السياسة في اعطاء زعماء القبائل دور أكبر في العملية بجانب البيروقراطيين.
نغوجي واثيوانغو في أطروحته حول خرافة القبيلة في أفريقيا يؤكد على نفس فرضية ممداني، الصراع القبلي في أفريقيا في دول ما بعد الاستعمار من نتائج سياسات الاستعمار، حيث يوضح وفقاً للمثال الكيني ان الصراع بين اللوة والكيويكو هو صراع مستحدث مع الاستعمار لأنه ليس بينهم حدود جغرافية، وفقاً إلى واثيوانغو، يدور الصراع حول امتلاك موارد الدولة.. المعروف أن صراعات القبائل في أفريقيا قبل الاستعمار كانت بين القبائل صاحبة الحدود المشتركة وغالباً تكون حول مصادر المياه.
من الأمثلة الواقعية للانقسام الاجتماعي المعبر عنه في شكل قبلي كظاهرة في دولة أفريقية ما بعد الاستعمار نيجيريا، كانت حرب بيافرا إحدى تجليات إشكالية الانقسام الاجتماعي وترجع جذور الأزمة إلى حقبة الاستعمار، حيث تم تكوين الدولة على أساس ضم الأقاليم الثلاثة المكونة لقبائل نيجيريا، الهوسا في الشمال اليوربا في الجنوب، والإيبو في الغرب، استغل الاستعمار التناقضات الثقافية والاجتماعية والسياسية بين القبائل الثلاثة ليخلق بيئة مناسبة لاستمرار الصراع بينهم.. الاختلافات لم تقتصر فقط على اللغة والملابس والزواج والقيم بل شملت أيضاً النظام السياسي حيث كان لدى الهوسا نظام اقطاعي وأوتوقراطية يسيطر الشيوخ على قمة الهرم السياسي، بينما كان الإيبو لديهم نظام ديمقراطي يقوم على المجالس. أما اليوربا فكان نظامهم السياسي أقل أوتوقراطية من الهوسا، وأقل ديمقراطية من الإيبو. تاريخياً وقبل الاستعمار شهدت العلاقة بين اليوربا والهوسا توترات وحدثت حروب بينهم، بينما كانت العلاقة بين الهوسا والإيبو علاقة طبيعة.. لكن سياسة الاستعمار زرعت الخلاف والصراع بينهم، كان الاستعمار يهدف إلى الإدارة الغير المباشرة فلجأ إلى ضم الإيبو الأقلية المتعلمة تحت رحمة أغلبية الهوسا، ونخبتها الغير المتمردة والمطيعة للاستعمار. منحت الامتيازات لإقليم الشمال، الهوسا، في نفس الوقت كانت فرص التوظيف ضعيفة لأفراد قبيلة الإيبو فخلقت تلك السياسة روح العداوة بين القبيلتين، وبالتحديد بعد استقلال نيجيريا شهدت البلاد مجموعة من الأحداث الدامية مما أدى إلى رغبة الإيبو في الانفصال من نيجيريا وتأسيس دولة مستقلة. لاحقاً تفجرت الأزمة فب حرب أهلية عرفت بحرب بيافرا.
في رواند لم يكن الوضع يختلف كثيراً.. استخدم الاستعمار البلجيكي نفس سياسة التقسيم، تم استخدام قبيلة الهوتو كقوى عاملة، بينما منحت قبيلة التوتسي الامتيازات كحلفاء للاستعمار وكان من الطبيعي أن ينفجر الصراع بين القبيلتين بعد خروج المستعمر.. الإبادة الجماعية التي حدثت في عام 1994 كانت نتيجة موضوعية للانقسام الاجتماعي.
في طريق معالجة الانقسام الاجتماعي
واقع انقسام الاجتماعي وتمزق جسد مجتمعات دول أفريقيا ما بعد الاستعمار فرض على القيادة السياسية لحركات التحرر الوطني تقديم أطروحات نظرية لتجاوز معضلة الانقسام الاجتماعي من أجل افريقيا موحدة وخلق إطار جامع للقبائل والإثنيات الأفريقية.
القومية
جمعت دول أفريقية ما بعد الاستعمار تجمعات للقبائل وتشكيلات إثنية مختلفة من حيث الممارسات الثقافية وأنماط كسب العيش، والنظم السياسية.. وبعكس الوضع الموجود قبل الاستعمار، حيث كان تلك المجموعات تتمتع بأشكال حكم ذاتية، فهذه التجمعات جاءت قسرياً وليس نتاج تطور طبيعي للمجتمعات الأفريقية، وبدون خلق أساس موضوعي يوحد كل تلك المجتمعات داخل الدولة الواحدة.. بل وضع الاستعمار عوائق لزرع روح الانقسام بين القبائل والإثنيات. في أوروبا ظهور القومية كان مصحوب بنشأة الدولة الحديثة عبر الجانب الاقتصادي وسوق قومية موحدة تتجاوز الحواجز التقليدية الما قبل الرأسمالية الاقطاعية، والحرفوية، والإقليمية بالإضافة إلى الجانب الثقافي من لغة وقيم مشتركة للتأسيس للدولة.
مثلما ظهرت الدولة الحديثة بشكل مصطنع في أفريقيا، أيضاً نمت روح القومية، بالتحديد في غرب افريقيا، بذات الطريقة كما يقول مادهو بانيكار الذي يشرح أسباب نمو روح القومية والأمة الكاميرونية كمعالجة لإشكالية الانقسام الاجتماعي والسياسي بين قسمي الكاميرون الجنوبي والشمالي، ما عرف بالفرنسي والبريطاني، وفقاً الى بانيكار فان الرغبة في الوحدة الإقليمية كانت الأساس الذي بنيت عليه فكرة القومية الكاميرونية.
مشكلة توجولاند تمظهر آخر للفكرة القومية في غرب أفريقيا باعتبارها حل لمشكلة وحدة شعب الأيوي الذي قسمه الاستعمار إلى قسمين بريطاني وفرنسي يعيشان في دولتان مختلفان، ظهرت فكرة القومية تجسيد لرغبة شعب يريد أن ينهض كشعب موحد.
واقع أفريقيا المثقلة بتنازع الولاءات بين الإقليم والقبيلة حسب حجم المصالح والارتباط الوجداني قد يشكل أسباب موضوعية للفكرة القومية في أفريقيا، لخلق رابط مشترك قومي. تنازع الولاء كان أحد نتائج تقطيع الاستعمار للخريطة الاجتماعية في أفريقيا وفقاً لهندسة الدول الأوروبية المستعمرة التي ضمت مجتمعات لمجتمعات أخرى وفرضت سيطرة قبائل على أخرى، تم فصل القبائل والأسرة الواحدة إلى دول مختلفة مما أدى لتفجر سلسلة مطالب من القبائل والإثنيات المهمشة للحقوق في كيان سياسي يمثلها ونظام اقتصادي يوفر لها التوزيع العادل للموارد إلى جانب رعاية وتشجيع لغاتهم وثقافتهم. لذلك نجد أن هناك مجتمعات يكون ولاءها للقبيلة أقوى من الإقليم لما يمثله الكيان الاجتماعي من حقوق مادية مثل امتلاك الأراضي وقد يكون الانتماء للإقليم قوي بفضل التنمية الاقتصادية وتفكك جزء من العلاقات القبلية. من السهولة إحياء الشعور القومي للمجموعة عبر مصالح مشتركة أو بعث تاريخ الإمبراطورية أو الممالك القديمة مثل الأشانتي ومملكة باكونجو أو الفونج للفخر بتفوقها في المدنية على الشعوب الأخرى.
لكن التحدي الذي يواجه فكرة القومية في أفريقيا أن الشعوب الأفريقية في الدولة الواحدة ينحدرون من سلالات مختلفة من البانتو والنيليون والحاميون والكوشيون لا تجمع بينهم لغة مشتركة ولا معتقدات ثقافية وتوجد فوراق التاريخ والحواجز العرقية والقبلية والاجتماعية. مما قد يشكل عائق تجاه تكوين قومية أو أمة متجانسة.
تجربة ما يعرف بالمجتمعات الساحلية
المعروفين بالثقافة السواحلية على امتداد المحيط الهندي من زنجبار ومومباسا ولوما ومليندي وجزيرة موزمبيق في الوحدة والتخلص من القبلية يمكن أن يؤكد أن وحدة النشاط الاقتصادي قد تخلق أساس موضوعي للقومية في أفريقيا، مجتمعات من مختلف القبائل نجحت في التعايش والتحدث بلغة واحدة هي اللغة السواحلية جاء ذلك كنتاج لحراك المجتمع وطرق التواصل بينهم بالإضافة إلى أن الأنماط الثقافية، وطرق اللبس، والموسيقى، والشكل المعماري يؤكد التوحد الوجداني للمجتمعات الساحل.
تجربة مجتمعات الساحل تشير إلى أهمية العامل الاقتصادي في خلق روح القومية عند مختلف المجتمعات الأفريقية، اقتصاديات المدن بالمشاريع الإنتاجية يمكن أن تكسر حواجز التقليدية وفقاً لمصالح مشتركة، تحدي اللغة والثقافة يمكن من خلال التواصل والحراك الاجتماعي مثلما حدث للشعوب الساحل.
الوحدة الأفريقية
من خلال تناول معطيات الانقسام الاجتماعي في أفريقيا، بالتحديد التشرذم القبلي والعرقي، يلاحظ ارتباط تلك الإشكاليات بالصراع حول مطالب سياسية واقتصادية وثقافية لتلك المجموعات نتيجة لعمليات الدمج القسري الاستعماري في أشكال إدارية للدول وفقاً لوضعية غير عادلة تتيح هيمنة قبيلة على الأخرى.. وتعقد المسألة الحدود المرسومة من قبل الاستعمار.. لذلك تأتي أهمية أطروحة الوحدة الأفريقية كإطار جامع لمعالجة تلك الإشكالية، أفريقيا الشغفة بالتحرر بالاستقلال، والسيادة والوحدة. يمثل مشروع الوحدة الأفريقية الوعد بالخلاص للشعوب الأفريقية من الانقسامات والحروب وانعدام المساواة. ومسألة الانقسام بين مكونات الدول الأفريقية، فقد قام الاستعمار بخلق حدود بين الدول الأفريقية وداخل الدول نفسها لتكريس الانقسام والتشرذم بين أبناء القارة، لذلك وُضعت مسألة التكامل السياسي وإلغاء الحواجز والقيود بين الدول الأفريقية كحجر أساس لبناء الوحدة الأفريقية (مفهوم التكامل السياسي يرتبط بمدى تطور الشعور لدي مجموعة من الأشخاص بالهوية المشتركة والالتزام المتبادل). أيضاً يمكن أن تعرف (التكامل السياسي بشكل عام يدل على علاقة مجتمعية تقوم على إحساس بالهوية والوعي الذاتي)، لكنهم بعد ذلك يذكرون أن جوهر علاقة التكامل العمل الجماعي لتعزيز المصلحة المشتركة. اتحاد يقوم على الوحدة السياسية على أساس اتحاد فيدرالي بين الدول الأفريقية لتنمية وتقوية العلاقات والتعاون بينها وفقاً للأنشطة التالية: سوق اقتصادية مشتركة على أساس تخطيط اقتصادي يتضمن سياسات موحدة للإنتاج وعملة ونظام نقدي، بالإضافة إلى دفاع مشترك لحماية سيادة الدول الأفريقية وتبني سياسية خارجية ودبلوماسية موحدة تتخذ موقف عدم الانحياز وتغليب مصلحة الشعوب الأفريقية والإسهام في السلام العالمي، مع إدراك لخصوصيات الدول عبر إفساح المجال للدول لوضع دساتيرها الخاصة، مع الاحتفاظ بهوياتها المختلفة.
من خلال كسر حواجز الحدود بين المجتمعات الأفريقية تتفاعل الشعوب مع بعضها لتكتشف القواسم المشتركة بينها والتي فصلها المستعمر لسجون سياسية من إداريات وحكومات خلقت للتصارع ضد المجتمعات المجاورة حول التمثيل السياسي والحصول على موارد الدولة وتنتج حدود جديدة جغرافيتها ممتدة وفق خريطة التعاون الاجتماعي والأجندة المشتركة للقارة وتكون القمة التي يتسابق الأفارقة للوصول إليها.
فالوحدة الافريقية تحافظ على استقلالية الشعوب والمجتمعات الأفريقية بذاتية وخصوصية وتترك إدارة الشأن الداخلي للنظم الاجتماعية والسياسية التي تطورت بحكمة الأسلاف وخبراتهم المتراكمة عبر أجيال مختلفة. هي تخلق رابط سياسي واقتصادي لتوحيد الأفارقة لمواجهة تحديات العصر بجعل أفريقيا كتلة سياسية واقتصادية واحدة مما يصعب تنفيذ مشروع تقسيم وإضعاف أفريقيا.
أهمية الوحدة الأفريقية أنها تجمع بين القبائل والإثنيات في أفريقيا وفي نفس الوقت تحتفظ القبائل والإثنيات بخصوصياتها، أنها تعمل على قبائل ومجتمعات متعاونة مع بعضها البعض في مجالات السياسية والاقتصاد بعد أن جعلتها الحدود الاستعمارية في صراع بينها، ونذكر بنبوءة نكروما في مؤتمر القمة الأفريقية، إذا تعودنا على تلك الحدود الاستعمارية سنكون في حروب مع بعضنا لزمن طويل، لنخلق نموذج تنموي يلبي احتياجات الجميع وتترك مسألة الاندماج القومي إلى تطور اجتماعي لشعوب القارة. الأفارقة لديهم مصير مشترك فقد عاشوا وأقاموا في القارة لزمن طويل يستدعي توحيدهم في كيان سياسي واحد.
الخاتمة
مسالة تقدم أفريقيا شعوب ودول مرتبطة بشكل أساسي بمعالجة إشكالية الانقسام الاجتماعي القبلي والعرقي، التناقضات بين المجتمعات الأفريقية التي ساهم الاستعمار بشكل كبير فيها تتطلب مشروع لمعالجتها، تحتاج للمشاريع تعمل على إصلاح ما دمرته سياسة الاستعمار فيما يختص بالتعايش بين المجتمعات الأفريقية بالإضافة إلى القراءات الخاطئة للواقع من قبل نخبة أفريقيا ما بعد الاستعمار التي سعت نحو وحدة فوقية ميكانيكية بدون تناول الآثار السلبية للانقسام القبلي والعرقي.
**
المراجع:
1-العنصرية والتعصب العرقي من التمييز الى الإبادة الجماعية ايان لوو ترجمة عاطف معتد المركز القومي للترجمة.
2-الرمزية العرقية والقومية مقاربة ثقافية انتوني دي سميث.
3- ايلينا مودرجنسكايا الأمم والمسالة القومية
4- مادهو پانيكار.. الثورة في أفريقية.
5- حول أطروحة ارشي مافيجي انظر the ideology of tribalism Archie Mafeje
6- The Trouble with Tribe _ Beyond a Monocausal Explanation for Ethn.
7- Pan Africanism Revisted :vision and reality of African unity and development Paul G.Adogamhe.
شارك هذا الموضوع: