فاطمة السمحة وسيرة دروبي المملحة بالوعي. فاطمة التي غرست في قلبي نخل البساطة حين التقيتها أول مرة في ندوة جماهيرية نظمناها لها (الاتحاد النسائي) في كوستي احتفاء بانتفاضة مارس -أبريل 1986. لن أنسي ما حييت ما انطبع في ذهني منذ تلك اليفاعة عن بساطتها الآسرة… ابتسامتها المضئية ولغتها التي تفهمها كل النساء، بمختلف مراحلهن التعليمية وتجاربهن الحياتية ، وحتى اللآتي لم ينلن تعليما كانت لغة فاطمة السمحة سمحة. اجتمعنا بها… على جناح محبتها بعد الندوة وحدثتنا حديث العارفة ببواطن المجتمع السوداني. بنت فاطمة وجداني وغرست جهنميات بساطتها في طريقي. مدينة لها بكل ما تعلّمته منها وكل ما تمسكت به في مسيرة الوعي والانحياز للبسطاء والتمسك باللغة المؤنسنة.
التقيتها لاحقا في بيتهم في أم درمان، ثم في الندوة الشهيرة في كلية البنات بجامعة أم درمان الإسلامية التي نظمناها نحن عضوات الجبهة الديمقراطية وكنت على رأس قيادتها وكادرها الخطابي. كان ذلك قبيل انتخاباتنا في الكلية. لم يبق أحد من الطالبات والعاملات والموظفات بالكلية، حتى الأساتذة، وفتح باب الكلية على مصراعيه حين اصطفت النساء والرجال من كل الأعمار لحضور ندوتها. لأول مرة طيلة فترة عملي السياسي بالكلية رأيت "السيخ". هتفت عضوات الاتجاه الإسلامي منددات بوجودها في الكلية.
كنت على وشك أن أقدمها لتبدأ المحاضرة، وخوفا عليها قلت لهت هامسة: أستاذة، لحمايتك أرجو أن يرافقك أحد وسنتدبر أمر المحاضرة.. لمعت عيناها بإرادة لا تلين وقالت، ببساطتها الحلوة موجهة حديثها لطالبات الاتجاه الإسلامي: هوووي يا بنات لمن سيخكن عليكن، أنا من هنا ماني مارقة) وضجّت الكلية تصفيقا وهتافا وشعت ابتسامتها وداريت فيها خجلي حين طلبت منها مغادرة الكلية خوفا عليها..
كنت أعرف بأني سأدفع ثمنا لكل هذه النشاطات ولكن لن أكون وحدي، معي رفيقات ورفاق في بهاء مطالب شعبنا وحنينه إلى الحرية والخبز والحياة الكريمة.
تعلمت الكثير من قادة سياسيين… من نقد… التيجاني الطيب… الخاتم عدلان و… و… فاطمة بابكر وسعاد أحمد و… و… عدد مهول ولكن فاطمة غير… فاطمة سماحة وجداني وسلامته…
فاطمة شجرة صمودي، أن أظل دوما منحازة للناس وقضاياهم العادلة وأن يخرج صوتي من جوف الأمهات والنساء البسيطات.
فاطمة وضوحي وصراحتي
فاطمة فانوسي الضواي
منها تعلمت كيف أتنفس السياسة من رئة المحبة…
التقيتها في فيينا بدعوة من "المنظمة السودانية للديمقراطية" التي كنت أرأس دورتها 1999 وحدثت طرائف شجية، ولم ننتبه، وكنا في بدايات محاولاتنا لنعرف النظام النمساوي..
لم أسألها إن كانت تحتاج إلى فيزا لدخول النمسا من بريطانيا، وسافرت دونها ولم يُسمَح لها بالدخول… كيف لا؟ هذه فاطنة السمحة… قلتها بنفس بساطتها.
أذكر أن الوقت كان نهاية أسبوع، فكيف أتصرف؟ اتصلت عند الحادية مساء ببرلمانيات نمساويات وقمن بالواجب.. اتصل بي ضابط لطيف وكان مندهشا حين قلت له من تكون! دعاني إلى مكتبه لأكمل إجراءاتها، وكانت تلك أول وآخر مرة أدخل مكاتب الحدود.
لن أنسى مشهد إحدى الموظفات في المطار تحتضن فاطمة وتقول بالصوت العالي: "افتحوا لها كل البلاد… إنها امرأة جديرة… قيادية ولا تهادن". كانت تعرف تاريخ فاطمة، فهي أيضا ناشطة نسوية.
ثم في ذات الندوة رشحتها… أنا التي لا أساوي دربا واحدا مشته لأجل الإنسان…. رشحتها لمؤتمر "Women in Development Europe".
وكانت تشعّ حضورا رغم الاختلافات في وجهات النظر من المشاركات من كل أنحاء العالم.
تفاصيل… تفاصيل… تفاصيل تحتاج إلى تدوين.
آخر مرة التقيتها في احتفال الاتحاد النسائي في لندن… كانت مريضة وعافيتُها الناس..
كانت تنسى أحيانا وذاكرتها يقظة حين شعلة نضال… "كيفن ما عرفتك يا بتي؟ كيفنهم عيالك؟".. وبدأت تحكى عن صمودي في كلية البنات… يااااااه ذلك تاريخ شجي وفيه ما يكفي من العذابات… عذابات جيل!…
في مؤتمر وايد سألتني:
"شكلك تعبان شوية و…" وهمست لها بفرح: أنا حامل!
كانت تزغرد بالفرح… سالت دموعها واحتضنتني بكل أمومتها…
حتى حين بدأ الصراع الفكري حول تطور آليات نضالنا في الحركة النسوية (اليسارية) ورغم أني اتفقت إلى حد كبير مع القضايا المطروحة فإنني لم أستطع أن أنافح (فاطنة)؛ فقد شكلت وجداني بأزاهيرها وريحان طريقتها في النضال الشرس.
تظل فاطمة رمزا… رمزا إلى الأبد
فاطمة السمحة
لون قمحات أماني الشعب السوداني..
طريقنا الممهّد بخطاها الثابتة
ونجمتنا التي لا ولن تنطفيء.
إشراقة مصطفى حامد
فيينا… يوم رحيل البلاد… فاطمة بلد.
١٢ اغسطس 2017
شارك هذا الموضوع: