رسالة إلى شباب ثورة 19 ديسمبر

محمد المعتصم احمد حسين - 16-07-2020

"من لا يتعلم من التاريخ محكوم عليه أن يكرره"
جورج سانتايانا
"Those who cannot remember the past are condemned to repeat it".
George Santayana.

"رفاقي الامريكان لا تسألوا ماذا يمكن ان يقدم لكم وطنكم، اسالوا ماذا يمكنكم أن تقدموا لوطنكم"
الرئيس جون ف. كينيدي

"My fellow Americans, ask not what your country can do for you, ask what you can do for your country”
President John F. Kennedy

أتقدم بهذه الرسالة إلى شباب الثورة لعلها تساعدهم على تفادي أخطاء الأجيال السابقة. ما دفعني لكتابة هذه الرسالة أنني سعدت حينما قرأت قرار قوى الحرية والتغيير بأن لا يتولى قادتهم مناصب وزارية في الحكومة الانتقالية لأنه قرار حكيم يجنب أعضاء قحت التنافس علي المناصب، الامر الذي قد يؤدي لانشقاقات ويؤثر على نجاح الثورة، وثمّنت موقف السيد عمر الدقير وحزبه حينما رفضوا اقتراح البعض توليه رئاسة الوزراء.
للأسف كان موقف الدقير هو آخر المواقف الوطنية التي قدّمت مصلحة البلاد على المصالح الشخصية والحزبية. فالمفاوضات مع الحركات المسلحة في جوبا تدور في جو "محلّك سر" متناسين معاناة المواطنين في معسكرات النزوح، بل أن بعض قيادات الحركات غير مشاركين في المفاوضات. في الخرطوم توجد فعليًا ثلاث حكومات: الحكومة الانتقالية والعسكر ومجموعات قحت اللذين تشرذموا في عدة مجموعات لدرجة أنني لا عدت أدري عدد المجموعات التي انقسم إليها تجمع المهنيين.
لا أرى الأسباب لكل هذه الخلافات والانقسامات خاصة بين المدنيين، فمهام المرحلة واضحة، وهي إعادة النازحين من مناطق الحروب والنزاعات إلى مدنهم وقراهم ومساعدتهم على بناء حياتهم، وبناء الاقتصاد، وتفكيك بقايا نظام الانقاذ، والاستعداد للانتخابات. لا أرى أية خلافات كبيرة حول هذه المهام أو المهام الأخرى، مثل موضوع رفع الدعم السلعي وهو في رأيي موضوع اقتصادي بحت كان من الواجب أن يقوم الاقتصاديين بتحليله لتحديد من هم المستفيدين منه وماهو تأثيره على الاقتصاد عمومًا وعلى كل فئة من فئات المجتمع المختلفة على وجه الخصوص، وطرح الوسائل البديلة للدعم في حال رفعه. ولكن سرعان ما تحول الموضوع لصراع سياسي فيما بين أعضاء قحت في وسائل الإعلام وأصبح مسألة مزايدة سياسية والكل مهتم بإحراز الأهداف بصرف النظر ما إذا كان الهدف في مرمى الحلفاء أو في مرمى الأعداء.
أقولها وبكل أسف، تلك هي ثقافتنا السياسية تاريخيًا. فقد نجح محمد علي باشا في احتلال السودان لأن كل قبيلة حاربت الجيش الغازي منفردة، بل إن بعض القبائل انحازت للغزاة وحاربوا مواطنيهم. بالمقابل انتصر الإمام المهدي لأنه وحّد مجموعة من القبائل ولكن الخليفة عبدالله التعايشي لم يحافظ على ذلك الحلف القبلي الذي كونه المهدي، فأدّى الصراع بين الخليفة والقبائل الشمالية لاضعاف الدولة المهدية، كما أن بعض أبناء القبائل الشمالية عاونوا قوات الاحتلال فانهزمت المهدية وأمسى السودان مستعمرًا للمرة الثانية.
في مثال آخر للتشرذم والاختلاف، وبعدما أسس الإنجليز كلية غردون لتدريب كوادر من السودانيين ليشغلوا الوظائف التي لم يرغبوا بجلب من يشغلها من إنجلترا أو من بقية المستعمرات، وبالرغم من أن الطلاب كانوا من أعراق وقبائل متعددة مما خلق فرصة سانحة للترابط بين خريجي كلية غردون كسودانيين، ولكنهم بدلاّ عن ذلك وجدوا الأسباب للإنشقاق والتحزب لدرجة أن أبناء مدينة أمدرمان انقسموا إلى أبناء أبروف وأبناء الهاشماب. وأكثر من عانى من التهميش كانوا الطلاب الذين تنحدر أصولهم من القبائل الافريقية أمثال محمد وعبدالله عشري الصديق بالرغم من دورههم الريادي في تأسيس الجمعية التي أصبحت جمعية الفجر.
وقبيل شروق شمس الاستقلال كانت غيوم الصراعات تعكّر صفو سماء الوطن، فعند تكوين مؤتمر الخريجين انشغلوا بالتنافس على مناصب لجنة المؤتمر وانتهى بهم المطاف إلى الارتماء في أحضان الطائفية، وهكذا أمست الطائفية تسيطر على الحياة السياسية والاجتماعية في الوطن.
مازالت هذه الممارسات مستمرة حتى يومنا هذا، وهي إحدى الأسباب الرئيسية لحالة عدم الاستقرار وفشل الحكومات منذ الاستقلال حتى الان كما سأوضح لاحقًا في بقية هذا المقال.
لماذا فشلت الحكومات منذ الاستقلال؟
دعوني أبدأ بالذين رفعوا علم الاستقلال فهم أول من ركّز على السياسة الحزبية بدلاً عن التركيز على مسؤولياتهم تجاه جميع المواطنين. فالسيد إسماعيل الأزهري لم يدرك أن الجمهورية الوليدة بحاجة إلى تضافر جهود كل أبنائها وبناتها لمواجهة التحديات الكبيرة أمامها، فأضاع الفرصة لتكوين حكومة وحدة وطنية توحد مجهودات كل السودانيين لبناء الوطن، وبدلاً عن ذلك قام بتشكيل حكومة مقتصرة على حزبه فقط. فشعر حزب الأمة بأنهم قد حرموا من نصيبهم في كعكة الاستقلال فكانت النتيجة حبك المؤامرات لإسقاط حكومة الأزهري وتطور الأمر بين الحزب الإتحادي وحزب الأمة لرشوة النواب لتغيير ولائهم الحزبي مما أفسد النظام الديمقراطي وشغل الجميع عن المشاكل التي كانت تواجه البلاد حينذاك وأهمها كانت مسألة الجنوب. كان الجنوبيون قد وافقوا على البقاء ضمن السودان الموحد مقابل منح الجنوب الحكم الذاتي فوافق الشماليين لضمان موافقة الجنوبيين على اتفاقية الاستقلال. ولكن انشغال الحزب الحاكم بالبقاء في الحكم و تركيز المعارضة على محاولة اسقاط الحكومة، أدى إلى تراجع مسألة الجنوب في سلم أولويات الحكومة في الخرطوم مما أدى إلى تجاهل الساسة الشمالين وعدهم للجنوبين، وهكذا تعقدت مشكلة الجنوب وفقد إخواننا في الجنوب الثقة في الشماليين.
لم تكن مشكلة الجنوب هي المشكلة الوحيدة التي لم تجد اهتمام الساسة في الخرطوم، فهناك أيضا مشكلة التنمية غير المتوازنة بين أجزاء القطر التي خلفها الاستعمار نتيجة التركيز على الصادرات لتلبية احتياجات بريطانيا للمواد الخام، فكانت معظم التنمية في مناطق الشمال والوسط بما في ذلك التعليم، فكانت النتيجة سيطرة أبناء الشمال والوسط على الخدمة المدنية والاقتصاد. حتى أن القلة القليلة من أبناء الجنوب ومناطق الهامش الأخرى الذين نالوا فرصًا في التعليم أو حصلوا على وظائف في الخدمة المدنية استقروا في العاصمة لأن معظم الفرص والوظائف كانت هناك، وبالتالي لم تستفد منهم مناطقهم. واستمر تجاهل تنمية مناطق الهامش حتى عهد حكومة الانقاذ.
لم تقتصر التنمية غير المتوازنة علي مناطق الهامش فقط، بل تعاني منها الأرياف في الشمال والوسط أيضًا. فقد ركزت الأحزاب على تفضيل أعضائها في المدن لأن قيادات الأحزاب ومموليها من المدن. أنا متأكد بأنكم على دراية باستيلاء حكومة الإنقاذ على أراضي المواطنين في الشمالية لبناء السدود أو منحها للمستثمرين الأجانب ضد رغبة ملاكها.
إن مسألة انتقال السلطات في مشروع الجزيرة مثال آخر يوضح أن سياسة تغليب المصالح الحزبية قد بدأت منذ الاستقلال. فخلال المراحل الأخيرة لحكم المستعمر تبنت إدارة مشروع الجزيرة سياسة لانتقال السلطات يتم بموجبها تولي المزارعين أنفسهم بعض مهام مفتشي الغيط، كالتأكد من أن كل المزارعين ينفذون كل العمليات الزراعية في مواعيدها وبالصورة المطلوبة، وبدأ بالفعل برنامج لتدريب مجالس القرى والصمودة للقيام بتلك المهام. ولكن الحكومات الوطنية في الخرطوم قررت أن تكافئ أتباعها بسودنة مفتشي الغيط الانجليز بخريجي المدارس الثانوية ومعظمهم من المدن ولم يسبق لهم أن يروا الحواشات قبل تعيينهم كمفتشي غيط، وبالرغم من أن معظمهم قد أدى وظيفته بكفاءة إلا أن السياسة قد حرمت المزارعين من تولي مسؤولية إدارة أمورهم وزادت من التكاليف الإدارية للمشروع.
17 نوفمبر والحلقات المتوالية من مسلسل حكم العسكر
لقد استمرت لعبة الكراسي الموسيقية في اسقاط الحكومات إلى أن قرر السيد عبد الله خليل نهاية حكم المدنيين بتسليم الحكم للجنرالات. وبذلك ابتدأت حقبة مظلمة لايزال الشعب السوداني يعاني من تبعاتها. البعض يعتقد أن حكومة 17 نوفمبر لم تكن في مستوى تسلط حكومتي نميري والانقاذ ولكن ذلك انطباع خاطئ، إن حكومة 17 نوفمبر سجنت وفصلت طلاب المدارس الثانوية والجامعات والموظفين والعمال واعتقلت السياسيين، لأول مرة في تاريخ السودان بعد الاستقلال أعدم سودانيين لمحاولتهم الاستيلاء على السلطة عن طريق انقلاب من حكومة استولت على السلطة بانقلاب!
بجانب البطش بالمعارضين في الشمال كانت استراتيجية حكومة 17 نوفمبر لحل مشكلة الجنوب مكونة من جزئين، حل عسكري تسبب في مقتل العديد من المواطنين وتدمير القرى مما نتج عنه موجة من النزوح واللجوء إلى الشمال ودول الجوار، والجزء الثاني من الاستراتيجية تمثّل في برنامج لأسلمة وتعريب الجنوبيين. قد يستغرب ثوار 19 ديسمبر كيف تحاول الحكومة إجبار الجنوبيين على تغيير أديانهم ولغاتهم، ولكن تلك نتيجة أن يتولى العسكر اللذين تدربوا على حل كل مشكلة عسكريًا بجانب أنهم قد ولدوا وتربوا خلال النصف الأول من القرن العشرين، ذاك الزمان الذي كان كثير من الشماليين فيه يحملون أفكارًا خاطئة عن الجنوبيين، إذ يعتقدون أن الإسلام واللغة العربية ستنقل الجنوبيين إلى الحضارة وستجعل منهم شمالين، ولكن من الواضح أن الجنوبيين كان لهم رأي آخر.
لقد حاولت حكومة 17 نوفمبر أن تنمي الاقتصاد باتباع نفس طرق الحكومات التي سبقتهم بدون أية دراسات عميقة لمكونات المجتمع السوداني وللاحتياجات المختلفة لتلك المقومات، فقام الرئيس إبراهيم عبود بزيارة بعض الدول كالاتحاد السوفيتي وعقد اتفاقيات لأنشاء بعض المصانع، وبالرغم من أن المصانع التي اختيرت يمكن أن تكون صالحة في السودان مبدئيًا، إلا أن عدم إجراء الدراسات التفصيلية أدى إلى فشل معظم هذه المصانع. فمثلا مصنع بابنوسة للألبان يبدو مناسبًا من النظرة الاولية لتلك المنطقة لأنها منطقة قبائل تمتلك ثروة حيوانية كبيرة، ولكن وبسبب كون السكان من الرحّل اللذين يتجولون في منطقة واسعة وبالتالي ترتفع تكلفة تجميع الالبان و عملية التأكد من وصولها إلى المصنع في حالة جيدة إلى درجة تفقدها جدواها الاقتصادية مما أدى لفشل المصنع. وهذا مثال واحد ولكنه يمثل حال معظم مشاريع التنمية في تلك الفترة.
سقطت حكومة 17 نوفمبر لأنها عقدت مشكلة الجنوب ولفشلها في حل المشاكل الاقتصادية والاجتماعية نتيجة سياساتها الدكتاتورية التي تجاهلت تطلعات واحتياجات السودانيين في المناطق المختلفة. لقد أسقط حكومة 17 نوفمبر تحالف مماثل لتحالف ثورة 19 ديسمبر مكون من الطلاب والعمال والمزارعين والمهنيين الذين كونوا جبهة الهيئات الشبيهة بتجمع المهنيين، وبعد استشهاد القرشي انضمت كل قطاعات الشعب للثورة. ولكن الأحزاب تآمرت على حكومة الأستاذ سرالختم الخليفة الاولى -التي كان فيها مهنيين من ذوي الكفاءات العالية- فأسقطوها وكونوا حكومة كان للأحزاب التقليدية فيها ثقل أكبر، مما لم يمكّن حكومة أكتوبر الثانية من تحقيق معظم مطالب الثورة، خاصة حل مشكلة الجنوب، وخلالها وقعت أحداث الأحد، التي وقعت فيها صدامات بين الجنوبين والشمالين، فتم تجميع الجنوبيين في دار الرياضة ثم ترحيل العديد منهم للجنوب مما زاد من غبن الجنوبيين. كما أسرعوا في اجراء الانتخابات التي لم تتم في بعض دوائر الجنوب.
تكررت نفس الصراعات والتآمر لأن الاحزاب لم تتعلم من أن انقلاب 17 نوفمبر كان نتيجة لصراعاتهم على السلطة، وبدلا من التركيز على حل مشاكل البلد بدأت المؤامرات بين الأحزاب، بل وداخل كل حزب، فانشق حزب الشعب الديمقراطي من الوطني الاتحادي، وانشق حزب الامة لجناحين جناح الامام الهادي وجناح السيد الصادق. وأصبح حكم الفرد سائدا في كل الأحزاب، فمثلا أصبحنا نصحو على إعلانات السيد إسماعيل الازهري التي يبتدئها كل صباح بعبارات: "إلى من يهمهم الامر سلام" يعلن فيها فصل أحد أعضاء الحزب لأنه خالفه الرأي. وزادوا الطين بلة بحل الحزب الشيوعي وطرد نوابه من البرلمان بدعوى أن الشاب الذي سبّ السيدة عائشة -رضي الله عنها- عضو في الحزب الشيوعي، وبالرغم من أن الحزب قد نفى عضوية الشاب إلا أن الأخوان المسلمين قادوا الحملة وحرضوا جماهير الأنصار على مهاجمة دور الحزب الشيوعي، وكانت النتيجة أن أصبح العنف أمر طبيعي في الحياة السياسية. خاصة من الأخوان المسلمين اللذين أصبح العنف أسلوبهم المفضل في التعامل مع معارضيهم خاصة في المدارس والجامعات.
دقت الأحزاب التقليدية آخر مسمار في نعش الديمقراطية بتجاهلهم قرار المحكمة العليا بأن طرد نواب الحزب الشيوعي من البرلمان غير قانوني ويخالف الدستور، فكانت النتيجة أن ظهر على الساحة جعفر نميري قائدًا لانقلاب 25 مايو الذي حطّم كل مظاهر حكم القانون، وعمّق استعمال العنف وأدخل البلاد في دوامة من عدم الاستقرار بتذبذبه من أقصى اليسار لأقصى اليمين، فقد قام بتأميم ومصادرة حتى المطاعم، الامر الذي عارضه الاستاذ الشهيد عبد الخالق محجوب. وانتهى الأمر بنميري بأن يتحالف مع الاخوان المسلمين وبإعلان الشريعة وتطبيق الحدود كقطع يد السارق، وكان معظم الضحايا من المساكين خاصة من أبناء الهامش بينما لم تطبق الحدود على الموظفين الذين يختلسون أموال الدولة.
ما لبث نميري أن انقلب على الاخوان قبل فترة وجيزة من انهيار حكمه في انتفاضة 1985 التي اجهضت سريعا وتولي الحكم تحالف من الاخوان المسلمين والأحزاب التقليدية. وبالرغم من أن التحالف كان بين تلك الأحزاب الثلاثة، إلا أنه كان لكل واحد منهم أجندته الخاصة وعمل على تقويض أية مبادرة من حلفائه في الحكومة، ولعل أبرز مثال على ذلك هو مبادرة الميرغني مع قرنق التي كان من المتوقع لها أن تؤدي لحل مشكلة الجنوب، وهكذا استمر الحال إلى أن استولى الاخوان على الحكم تحت مسمى ثورة الإنقاذ في خيانة واضحة لشركائهم. بالطبع لن أحتاج لأن أحدثكم عن حكم الإنقاذ فأنتم من انكوى بنارها ونجح في اسقاطها.
أرجو أن تجدوا هذا السرد التاريخي مفيد في نضالكم لتكوين حكومة برامج واضحة تحترم حقوق الانسان وتضع برامج محددة للتنمية وتلتزم بتنفيذها، وأن يستمر نضالكم بعد الفترة الانتقالية، فالطريق طويل ووعر ولكنكم "صابنها" ولن تتركوا قوى الظلام لتسرق احلامكم كما سرقوا أحلام ثورة أكتوبر 1964 وانتفاضة أبريل 1985.