وفقا لما اشارت له منظمة اليونسكو في تقريرها لعام 2018 عن نسبة الامية بالسودان فان عدد الاميين يصل الى الواحد وثلاثين في المائة من العدد الكلي للسكان ونسبة السبعة وثلاثين في المائة بين النساء. وتتصدر السودان ، تليها الصومال ، ثم موريتانيا ، واليمن قائمة الدول المنضوية تحت مظلة الجامعة العربية التي تعاني من الأمية.
وتعرف الامية بانها عدم القدرة على الكتابة والقراءة مما يعني وضع المتأثرين بها خارج منتجات التواصل والاتصال القائمة على القراءة والكتابة. ولا تقف اصابة العديد من المجتمعات ومنها مجتمعاتنا السودانية عند حد الامية الابجدية، بل تتعداها الى الامية الالكترونية ما يعنى خروج النسبة العظمى من السكان من نتائج الثورة الرقمية والتمتع بالتدفق المعلوماتي لها وما يحدثه من عدم مواكبة معرفية وثقافية وعجز بالتالي على ملابسات الانتقالات والنقلات التحديثية والحداثية للمجتمعات.
السؤال الذي يطرح نفسه هنا كيف تتمكن المؤسسات السياسية الوصول والتواصل مع جماهيرها( السودانية) المفترضة؟ ووفق اي آليات؟
تحسن الاحزاب السودانية الظن كثيرا في مواجهتها لسؤال تغيير الواقع الاجتماعي دون انتباه الى ان الواقع يمكن ان يكون منتجا لازماتها واعاقتها من التطور ليس بعدم استجابته فقط احيانا لدعواتها بل باخراج لسانه لها في العديد من التجارب. فالمجتمعات المثقلة بقيود الماضي تحتاج الى التحرير اولا من تلك القيود ومن ثم البحث عن وصفة وخارطة للتطور. هنا ينهض سؤال اي الادوات التي نستخدمها لاحداث ذلك التطور؟.
اولا: هل نستعمل اداة الوعى والتنوير النظري فقط ام ان ثمة ادوات اخرى قمينة تصبح لاحداث ذلك. ثانيا: هل الاحزاب الطامحة في التغيير بمقدورها قلب المعادلات والانهماك في معركة التغيير عبر تعديل علاقات الانتاج بخطابات نظرية فقط ام ان القوى الاجتماعية تحقق التغيير وتنهمك في عملياته عبر انخراطها اليومي وصراعها من اجل البقاء؟
مما لا شك فيه ان ممارسة الاحزاب للعمل الاجتماعي بتنويره وفتح مداركه لطبيعة الصراع واوجه الاشتباك في عمليات الانتاج الاقتصادي يلعب الدور المؤثر في الاسراع بتحريرها شرط ان تستطيع الغلبة على ميراثها الثقافي ايضا و تحديث شبكة مفاهيمها التحررية. فعملية التحرر والتحرير اذن تتداخل عواملها بين الذاتي والموضوعي ولن يسد احدهما او ينوب عن عمل الاخر. لذلك فان التغييركهدف يحتاج الى ازالة الامية الابجدية بتوسيع فرص القدرة على التعلم والكتابة ومن ثم (وفي ظروف الثورة التقنية) يحتاج ضمن ما يحتاجه الى التعليم التطبيقي في اغلب الاحيان بان يمارس الفرد والجماعة المستهدفة منه التطبيقات الفيزيائية لوسائله وهو ما يرتبط بتمليك الوسائل التقنية بالاساس. فالتقنية كمثال في مجال الهواتف النقالة لا تحقق فكرتها دون ان يمتلك المستخدم الهاتف ومن ثم استعمالاته المتعددة حتى يتحول عنده الى اداة للتعليم والتوثيق وتوصيل الافكار وممارسة الدور الاعلامي عن طريق الكتابة والتسجيل الصوتي والفيديوهات. هنا تشترك الناس في صناعة المعلومات بصفة جماعية وتضع تجاربها لبعضها البعض وبطرق تجعلها تعى كيفيات تحويل المعلومات الى مفردات لانشاء جمل التطور ومنطوقاته.
اوضح ما تعاني منه الاحزاب ومنظمات المجتمع المدني وفي حالة الحيازة الحقة على طاقات وشبكات الوعي المدني هو عدم قدرتها على الوصول الى كافة المجتمعات السودانية التى وبأسباب عديدة منها الفقر، والحروب الاهلية، وظاهرة الاقتتالات فيما بين قبائلها واثنياتها. ولذلك فان من اهم الخطابت التى تحفز الاحزاب والقوى المدنية على القيام بادوارها على افضل وجه في المرحلة الانتقالية هذه التوجه للمجتمعات الريفية والهامشية وبث روح التغيير في اوصالها والاضطلاع بالمهام المركبة بغرض تحقيق صحتها المعرفية.
ان انشاء مجتمعات المعرفة في كافة تلك البقاع بتمليك الناس ادوات المعرفة والتطبيقات الانتاجية الحديثة في الزراعة والرعى وغيره تصبح مهمة اولى امام تلك القوى في علاقاتها ب ( الجماهير). فالجماهير تصير مفردة مبهمة وافتراضية دون صواب و غير محققة بالخطاب الحزبي المتعدد العناوين والمسميات طالما كانت غائبة عن المشاركة السياسية بسبب اعطال وعقبات تواجهها كالفقر، والامية، والعطالة، والمرض، والاقتتال فيما بينها ولا تجد تلك الاحزاب والقوى المدنية ضمن عتادها في تلك المعارك الوجودية الاساسية.
ان واحدة من نتائج غياب ذلك الحضور الواجب للاحزاب والقوى المدنية هو توظيف ( الجماهير) للعب ادوار مضادة لمحتويات خطابها التنويري ومن ثم التثويري بفتح الفرص امام مؤسسات صناعة التخلف من مؤسسات دينية اجتماعية تحتال على الناس باسم الدين وتزرع باذهانهم الاساطير والخرافات الداعية لنبذ الانتاج وكذلك العمل بالوسائل والطرق الحديثة حفاظا على مصالحها وامتيازاتها الاقتصادية المتوارثة الموروثة.
ولوضع حلول عاجلة لتلك القطيعة بين السياسة العارفة الملهمة والمجتمعات المبعدة من ثمار التقدم العلمي والثورة الرقمية لا بد من وضع استراتيجيات حزبية وتنظيمية مدنية تعتمد الثورة الثقافية مدخلا والتغييرالثقافي موضوعا متقدما يستهدف تغيير العقل والثقافة القديمة لتحل محلها محتوىات جديدة تساعد على العقول والثروات البشرية المقصاة بجعلها فاعلا نشطا في مهمة التطور المقدسة.
ذلك لن يتم الا بنشر التعليم النوعي وخاصة المهني التطبيقي، وتحديث الاقتصادات وقيام الموسسات الاعلامية بوظيفة التنوير على اسس تصفية مخلفات التخلف الذي صنعته الانقاذ والتعقيدات الهائلة التي وضعتها في البنيات الخاصة بتلك المجتمعات.
ذلك لا يتم من الناحية الاخرى الا بنفض تلك القوى الحزبية والمدنية الغبار على المعارف والرؤى التى تحملها للتغيير وتحويل مكوناتها الى مكونات ايجابية تنفتح على التجارب والخبرات العالمية فتعيد بناء نفسها بصفة مستمرة ودائمة.
لقد شكلت قرابة الثلاثين عاما من حكم مؤسسة التجهيل والضلال على اضعاف وظائف وادوار الاحزاب والقوى المدنية بحيث جعلتها قوى منهكة غير قادرة على معالجة اوضاعها الملتبسة. غير ان اوضح المشكلات التي تعاني منها تلك الاحزاب والقوى المدنية هي مشكلة ترحيل مشاكلها الى المجتمعات السودانية بنزوعها في المرحلة الانتقالية الى السلطة ومحاولة قيادة تلك المجتمعات دون وجه حق الى حتفها المصيري بعدم حيازتها على المفاهيم النيرة لكيفيات صناعة المستقبل.
نحن بحاجة الى احزاب وقوى مدنية لا لتحكم ولكن لكيف تحكم بالمساهمة في بناء البشربغرض تسهيل حياتهم وليس اغراقها في الاوضاع الشاقة والازمات المتجددة.
شارك هذا الموضوع: