لا جدال في أن أحد الأهداف الرئيسية لثورة ديسمبر وضع السودان في مسار جديد نوعياً يضعه في مستوى رصفائه ممن سبقوه بمراحل بل أصبح لبعضهم مقعداً في قائمة أكثر دول العالم تقدماً. هذا على المستوى الاستراتيجي، أما بالنسبة لأهداف المدى القريب فإنها استهدفت قيام حكومة كفاءات لها المقدرة على إكمال الفترة الانتقالية بنجاح والتأسيس لوضع سياسي مختلف نوعياً عن التجارب الماضية. وبالكفاءات نقصد العناصر المتميزة مهنياً وإدارياً ولها الرؤية السياسية التي تسمح لها بتنظيف تركة الانقاذ في مواقعها.
للأسف الشديد إتسم تشكيل حكومة الثورة بثقوب متعددة. منها التعطيل في التشكيل نتيجة لمباحثات أديس أبابا مع جهات لم تشارك أصلاً في الثورة وتريد أن تقطف ثماراً لم تضع بذرتها. أعقب ذلك إنتظاراً مملاً لتحديد قائمة الوزراء، هو إنتظار تسببت فيه الأحزاب السياسية أكثر من غيرها، وبينها أحزاب لا تتعد عضويتها بضع مئات استطاعت أن تتحكم في مفاصل إختيار المكون المدني لمجلس السيادة ولوزراء الحكومة.
ثم من بعد ذلك الإنتظار الأكثر مللاً في إنتظار إختيار الولاة الذي شارف العام بدون أن نتقدم خطوة فيه، كل هذا ناهيك عن المجلس التشريعي الذي لم يتم طرحه على طاولة البحث والاختيار من الأساس. هذا على مستوى مؤسسات الحكم، أما على مستوى العمل التنفيذي فكل المظاهر تشي بالضعف البائن للحكومة، أمثلة لذلك التأخر في تعيين الإدارة التفيذية لمشروع الجزيرة لما يقارب العام، ومن قبله تعيين محافظ بنك السودان ونائبه الذي تأخر لأكثر من ثلاثة أشهر، علماً بأنه لم يتم تعيين نائبه الثاني حتى الآن. هذا بخلاف التأخر المريب في إظهار نتائج لجنة التحقيق في مجزرة القيادة العامة التي لا يعرف أحداً حتى الان متى تنتهي من أعمالها.
لقد انطلقت مليونية 30 يونيو 2020 لتصحيح مسار الحكومة ودفعها في إتجاه التخلص من البطء في الأداء واستكمال مهام المرحلة وفقاً لإرادة الشارع. لقد كان أثر المليونية واضحاً في نتائجه الأولية حيث استبق رئيس الوزراء المليونية بالتزام قاطع بمعاجة مثالب الحكم في خلال اسبوعين، وأعقب ذلك باعفاء مجموعة محدودة من الوزراء.
لقد توقع الشارع المشتعل ثورة أن يذوق نكهة مختلفة عن تلك المرارة التي شابت أداء أجهزة الحكم خلال فترة العام الماضية. لكن يبدو أن هناك عودة جديدة للشارع، حيث أن ما يفوح من روائح المطابخ لا يبشر بخير.
لقد وضح ومن خلال ما توفر من معلومات أن إتجاه معالجة أزمة الحكومة يسير بشكل أسوأ مما كان عليه الوضع قبل المليونية، ويعتمد بشكل حاسم على المحاصصات الحزبية، لدرجة رشوح أسماء منها والياً لولاية الخرطوم لم يسمع به أحد، وغير معروف عنه مقدرات مهن أو إدارية أو حتى سياسية؛ وتمتد مسخرة الطباخين لتسمي والية للولاية الشمالية كل مؤهلاتها لا تتعد وظيفة مدير طبي لمستشفى، و كل ذلك لإرضاء أحد الفصائل المتعددة للحركة الاتحادية التي لا يعلم أحد عددها ولا وزنها.
من المهم واللازم لفت الأنظار إلى أن هذه الثورة ثورة كل الشعب من غير منتسبي الإنقاذ، لا شك في ذلك، لكن لابد من الاعتراف بأن القوة الأساسية هي كتلة لجان المقاومة التي قوامها الشباب الغير محزب. وهي التي مثلت رأس الحربة في حرب الشوارع وفي اعتصام القيادة العامة الذي أصبح مضرب مثل على نطاق العالم. كما أنها هي الكتلة التي قدمت الأغلبية العظمى من الشهداء والجرحى والمفقودين إن لم يكن كلهم. على قوى الحرية والتغيير وعلى رئيس الحكومة إدراك أن هذه الكتلة هي التي أعادت، في مليونية 30 يونيو 2019، ميزان القوى لما كان عليه بعد أن بدأ الميل بشكل صارخ تجاه تبني النموذج المصري بدعم إقليمي معلوم.
والحال كذلك يصبح أمراً بديهياً أن يكون لها الدور المعلى في الموافقة على أعضاء الحكومة وولاة الولايات، وهو أمر يتطلب من رئيس الوزراء نفض أيديه بأعلى قدر ممكن من اسلوب المحاصصات الحزبية، وابتداع صيغة تجعل من لجان المقاومة، القائد الحقيقي للشارع، مشاركاً أصيلاً في اتخاذ القارات الجوهرية خصوصاً تلك المتعلقة باختيار الوزراء والولاة والمجلس الشريعي المنسي. ربما يجادل البعض، وهم على حق، بأن الشباب غير المحزب الذي يشكل التيار الأعظم في كتلة لجان المقاومة، تنقصه الخبرة والمعرفة بدهاليز السياسة وبمتطلبات الوظائف القيادية. إلا أنه من الممكن مشاركتهم، كمثال، في قبول أو رفض الأسماء المقدمة لهم من رئيس الوزراء، بعد المعرفة بحيثيات ودوافع الترشيح. إن دفاعنا لتولي لجان المقاومة الدور الأعظم والمسئولية الأكبر في مواجهة تحديات المشاركة في تحديد إتجاهات الحكم لا يعني بأي حال تجاهل القوى الحزبية والمجتمع المدني لكن أن تتولى لوحدها، وبمشاركة الجهات الاستشارية المتاحة لرئيس مجلس الوزراء، تحديد من يحكمها وكيف سيحكمها، لابد أنه سيجابه بالرفض وبعودة قوى المقاومة للشارع مرة أخرى، بدون أن يتنبأ أحد بمآلاته.
لأسباب غير معروفة إلا "للنخبة" إندفعت أجهزة الحكم بأكملها تجاه التفاوض مع الجبهة الثورية التي لا يعلم أحداً من تمثل بعد أن تلاشت عسكرياً وسياسياً، حيث يقال أحياناً أن الجهة الضاغطة في شراكتهم هي المجلس العسكري، والبعض يقول بأنها حكومة جوبا. غض النظر عن الجهة التي جلبتها للساحة، فهي قوة سياسية لا وجود لها على الأرض لا في ميدان القتال ولا في الشارع، باستثناء شريحة محدودة تلك التي يقودها عقار، والتي يستحق الأمر التفاوض معها. أما االآخرين فعليهم إثبات وجودهم من خلال الشارع الذي أصبح مفتوحاً من كل الجهات.
للتدليل على غيابها، فانه وحتى المسيرة الضخمة التي سيرها أهل دارفور من قراهم ليشاركوا في ميدان الاعتصام، لم يكن هنالك صوت لهذه القوى التي تريد أن تستأثر بـ 40% من كيكة الحكم كما هو مطروح اعلامياً الان. بل أن هذه القوى لم يكن لها وجود حتى في الاعتصامات الأخيرة بدارفور، تلك التي استلهمت إعتصام القيادة العامة، مما يدل على إرتقاء مستوى الحركة السياسية بدارفور التي لم يلعب مفاوضي الجبهة الثورية من كيانات "المعارضة" الدارفورية أي دور فيها.
إن ما يجري الآن من مفاوضات بخصوص مجالس الحكم استنداً على المحاصصات، لهو عطاء من لا يملك لمن لايستحق. أوقفوا هذا العبث وأعيدوا الحق لأهله قبل أن تنقلب عليك طاولات مفاوضاتكم. وأقول للسيد/ رئيس مجلس الوزراء: لقد أتى بك الشارع وليس تجمع أحزاب غالبيتها العظمى لا تعدو أن يكون وزنها الحقيقي حمولة بص.
شارك هذا الموضوع: