تستهدف هذه الورقة الاجابة على سؤال محوري: ما مصير تجمع المهنيين ولجان المقاومة؟ كيف سيتمظهر وجودهم في البنية السياسية التي ستعقب انتهاء المرحلة الانتقالية؟ هل سيؤدي استمرار وجودهم المفترض إلى وضع سياسي أكثر إشراقاً وعافية، أم سنرجع للوراء للمحنة التاريخية التي قدم الشباب أرواحهم قربانا لئلا تعود؟
لاشك أن ثورة ديسمبر 2019 تُصنّف كأحد أهم الأحداث في تاريخ السودان المعاصر إن لم يكن أهمها مطلقاً. لم يشهد أي حدث إجتماعي سياسي في تاريخ السودان تلك الدرجة من التنظيم والمثابرة التي طالت الأربعة أشهر لتحقيق هدف صعب للغاية، و تحت ظل قمع وإرهاب لم تألفهما البلاد من قبل. إضافة لذلك، لم تألف البلاد زخماً مثل هذا يستوعب أطياف السودانيين بكل سحنهم وقبائلهم وعقائدهم بشكل ألغى معه الكثير من الموروثات السالبة والوساوس، حول دونية جنس هذا وسمو سلالة ذاك. يكفي هتاف الملايين الخالد: "يا عنصري يا مغرور كل البلد دارفور" ليزيل مرارات السنين التي ساهم المركز السياسي النيلي في تعميقها سواء بقصد مدروس أم بجهل مريع لفسيفساء المجتمع السوداني.
من أعمق الشواهد على عظمة الحدث وفرادته تحرك الحشود في الشوارع طيلة تلك الفترة بدون أن تعرف قيادة لها سوى لجان المقاومة بالأحياء، والتي تتحرك وفقاً للبيانات وجداول التحرك ومساراته الصادرة عن تلك الجهة الساحرة: "تجمع المهنيين" ! أربعة أشهر من القتال المستميت في كل ساحة وشارع وزقاق بدون أن تعرف الحشود كُنه هذا الجسم، لكنه أصبح عنوانا للثقة المفرطة، ورابطاً للقلوب والعقول. هذا رغم أن الأغلبية الساحقة التي فاضت بها الشوارع لا تنتمي لقطاعات المهنيين، كما أن لجان المقاومة التي أشرنا إليها لم يكن لها جسم مركزي يضبط حركتها بمعزل عن تجمع المهنيين.
يزيد الأمر سحراً على سحر أن هؤلاء المهنيين تولوا أمر النضال في ميادين وساحات أوسع كثيراً من المألوفة لديهم، والمتعارف عليها بينهم، وهي مواقع العمل ومقاره. كما أنهم تجاوزوا الطرق التقليدية والراسخة لإدارة نضالاتهم من إضرابات وعصيانات للتعبير عن الرأي والمطالبة بالحقوق، تجاوزوا ذلك واستبدلوه بالشارع كفضاء لحركتهم.
الأمر كله كان أشبه بالمعجزة، كون أن تلتقي تلك القوى بمختلف مسمياتها في الشارع لتطيح بأحد أكبر أنظمة الطغيان في العالم بدون أن تعرف بعضها البعض إلا في حدود ضيقة للغاية ومحاطة بسرية بالغة.
لقد برزت الأحزاب، إضافة لقوى المجتمع المدني، عندما نضجت ملامح الانتصار وأصبح سقوط النظام وشيكاً، فدخلت الساحة مكوٍنة مع تجمع المهنيين ما يسمى بقوى الحرية والتغيير، مستثنية في ذلك لجان المقاومة بالأحياء والتي هي أصلاً عظم الظهر لما يدور بالشارع، وهو أمر أكدته مسيرات الثلاثين من يونيو 2020. لا نعني بهذا أن الأحزاب السياسية كانت بعيدة عن الحدث، فقد رمت بثقلها في الشارع، وكان لها وجود على مستوى لجان المقاومة وعلى تجمع المهنيين ومنذ زمن، بل أن الحزب الشيوعي إبتدر الحشد المنظم على مستوى الشارع من خلال الموكب الذي نظمه يوم 16 يناير 2018. لكن تظل الحقيقة الواضحة أن الشارع المتحرك لم يكن مسيساً بالشكل النمطي، فقد غلب عليه الطابع الشبابي الغير محزب، والوجود الكثيف للمرأة، كما شمل مختلف القطاعات لدرجة مشاركة أعضاء من المؤتمر الشعبي وأبناء عدد كبير من قيادات النظام والحركة الاسلامية به.
في تقديري أن تكوين قوى الحرية والتغيير بشكله الحالي كان خصماً على الثورة وأهدافها، ومكبلا لحركتها، حيث تكاثرت القوى التي يبحث كل منها عن ثمار آنية أو أدوار مستقبلية، وجلها يشكو من بؤس الحال هنا وهناك؛ بشكل يمكن القول معه أن سوء الإدارة الذي شاب الفترة الانتقالية حتى الان، من تأخر في تعيين الولاة ومن الفشل في تشكيل المجلس التشريعي يتحمله المكون الحزبي في قوى الحرية والتغيير.
من العلامات على ضعف المكون الحزبي ونشاطاته، أن حزب الأمة لم يرتق بأساليبه عن تلك التي تعودها عبر السنين، علما بأنه أفضل حالاً من الأحزاب التقليدية الأخرى كالحزب الإتحادي الديمقراطي الذي لا يمكن وصفه بغير أنه أصبح عصياً على غرف الإنعاش إعادته إلى ساحة الوجود. أما بقية الأحزاب الحية فيستحيل رصد قوتها في الوقت الحالي كالحزب الشيوعي، والمؤتمر السوداني، وحزب البعث الذي لا تتعد عضويته في الشارع بضع مئات على أحسن الفروض لكنه نجح بشكل أو آخر في لعب دور أكبر بكثيرمن وزنه في تقرير الأمور بقوى الحرية والتغيير.
لا حاجة لي للتأكيد على حساسية الوضع الراهن وضعف أضلاع مثلث الحكم من مجلس سيادي، وحكومة، وقوى حرية وتغيير. كما لاحاجة لي لتبيان خطورة أن يؤدي الوضع الحالي الهش إلى تفكيك العلاقات فيما بينها، إضافة للعلاقات داخلها. في الواقع بدأت تلك الروابط في التفكك بحذر في أحيان وبوضوح في أحيان أخرى. كما لا حاجة لديّ لإثبات أن إنضمام الأحزاب وتمثيلها في الجسم القيادي كان خصماً على الثورة وعلى منتوجها النهائي؛ وأن استبعاد لجان المقاومة لعب دوراً جوهرياً في إضعاف الحاضنة السياسية للحكومة. أنه وحتى الآن، لا يزال أداء الحكومة مشوشاً ومضطرباً وعرضة للنهش من قوى في الداخل وأخرى في الخارج، مما أدى لتسرب الإحباط وسط القوى التي صنعت التغيير، مما حفز القوى الحية في الشارع للضغط في إتجاه استعدال المسار وهو ما تمثل في مليونية 30 يونيو 2020 المطالبة بإجراء إصلاح في منظومة الحكم بأسرها.
كما هو معلوم فإن تجمع المهنيين عبارة عن تحالف كيانات تعبر عن المهن المختلفة، كالأطباء والمعلمين والمهندسين وغيرهم. وعندما أقول تعبر عن المهن المختلفة، إنما أقصد أنها لم تبرز على الساحة بتفويض إنتخابي من قواعدها وإنما بقوة تأثيرها على الشارع، بالذات ما قامت به من تنظيم لقوى المقاومة. والحال كذلك نرى أن يخرج التجمع من المؤسسات السياسية القائمة ويركز جهده في مسارين: الأول، تجهيز نفسه للأوضاع النقابية التي سيصبح وجودها ضرورياً بعد وقت ليس بالبعيد، المسار الثاني العمل على الإندماج مع لجان المقاومة في إتجاه تشكيل قوة سياسية جديدة تستند على ما تقوم به لجان المقاومة من تأثير قوي على الشارع، من جهة، وما يمتلكه تجمع المهنيين من قدرات تنظيمية وسياسية عالية المستوى، من الجهة الأخرى. الجيد في الأمر أن معارك الشارع التي صاحبت الثورة في مختلف مراحلها تشكل أساساً لبناء الثقة بين الطرفين، حيث تشاركا سوياً بحيث تولى تجمع المهنيين مهمة التنظيم و لجان المقاومة مهمة تعبئة الشارع وقيادته.
لكل هذا وغيره، تطرح هذه الورقة دعوة مباشرة لتجمع المهنيين من جهة وللجان المقاومة من جهة ثانية، للقاء تاريخي أسميه "لقاء المستقبل". لقاء يهدف لطرح السودان القديم بحيث لا يكون له وجود إلا في صفحات التاريخ، ويعمل على انبعاث الدولة السودانية الجديدة التي ستكون مصدر فخر وإعتزاز للأجيال القادمة. لقد مل السودان اللت والعجن، وحان له أن يأخذ مكانه في منظومة العالم المتقدم التي يستحقها بجدارة.
هذا اللقاء يدعو لإندماج لجان المقاومة مع تجمع المهنيين لتشكيل تجمع أوتحالف يتسم بوحدة الفكر والهدف والإرادة والشعور. إندماج هدفه الأساسي قيادة الشعب السوداني لإرتياد المستقبل في تجاوز واضح للفشل الموروث بأحزابه ومؤسساته وأفكاره. تجمع ليس له أيديولوجية مقيدة وإنما برامج عمل واستراتيجيات تحوّل وبناء واضحة ومجربة عالمياً، وممكنة التحقق محلياً. إنه ولحسن الحظ أتيحت خبرات وتجارب عالمية في التنمية الاقتصادية والاجتماعية، شرق آسيا مثالاً، تساعد كثيراً في صياغة الاستراتيجات وبرامج العمل المقترحة باستلهام تجارب عملية حية.
تحالف يتبنى شكلاً تنظيمياً مفتوحاً لا يستثني إلا أعضاء وأعوان النظام السابق على مستوى التنظيم، ويسمح بتعدد المنابر ويحمي حق الإختلاف. بدون هذا سيكون الباب مفتوحاً على مصراعيه لقوى السودان القديم لتواصل في نفس الحلقة الشيطانية: انقلاب – ديمقراطية – انقلاب. فالمال موجود بكثرة لديها، والتجارة بالدين مختبرة عندها، ولن يفل حديدها إلا حديد قوى المستقبل المسلحة بالحيوية والحماس، والمُتَقوٍّيَة ببرامج تغيير وتقدم جاذبة وملهمة.
لا يجب أن يفهم من دعوتنا هذه تقليلاً من دور الأحزاب أو تسفيهاً لنضالاتها ضد نظام الانقاذ البشع، لكننا هنا في إطار مناشدة لإنشاء تحالف جديد استدعته الحاجة التاريخية بين كتلتين تعتبرا الأكثر تنظيما والاكبر حجما، وذلك لتجاوز أخطاء الماضي وبناء الدولة السودانية الجديدة.
عوامل وضمانات النجاح:
سيكون التنظيم معبراً عن الملايين من المشاركين والمتعاطفين مع الثورة الذين تمثلت قوتهم الدافعة في ثلاثة كلمات: حرية، سلام، وعدالة، تهفو قلوبهم لرؤية هذه الأهداف مُتحَقّقّة على أرضية الواقع.
سيستدعي ويستوعب التنظيم شباب الأحزاب من الساخطين على القديم و المتطلعين لبديل مقنع، وذلك عبر الانضمام إليه، أو عبر البقاء بأحزابهم وتنقيتها من مثالبها التاريخية. وفي هذا يجب النظر بموضوعية تجاه الاسلاميين الذين لم يتلوثوا بفساد الإنقاذ، ولم يسيئوا للشعب، ومن الذين يرنون بأبصارهم نحو المستقبل؛ النظر في دعوتهم للمشاركة في العمل السياسي عبر التحالف المقترح، حيث من الضروري لصحة الحياة السياسية عامة، أن يشملهم الإصطفاف من أجل التغيير. إن عزل هذه الكتلة ودفعها لتخوم اليأس سيؤدي لنتائخ وخيمة من ضمنها تخريب المناخ السياسي العام، وتوسيع دائرة التطرف الديني.
سيكون التنظيم خصباً مشرّباً بعوامل الإبداع والإندفاع إلى الأمام، ومبرأً من التكلس والارتماء في الماضي أفكارا وأحداثا وشخوصا. يكفي أن نشير إلى أن القوى المقترح تحالفها، وبالتضامن مع الأحزاب، استطاعت تطوير فلسفة النفير السودانية، وبلغت به آفاقاً سامقة في شهور العصيان. فقد استطاعت، وعبر فلسفة المشاركة من الجميع، خلق دولة مصغرة وجد فيها كل سوداني شارك فيها، ولو زائراً، الإشباع الفكري والسياسي والاجتماعي. ليس هذا فحسب، فلقد بلغ من تغلغل الأفكار الحية التي نتجت عن الثورة في العقول والقلوب، أن تعالج قضايا دارفور باستلهام فلسفة الاعتصام أمام القيادة العامة؛ ونقصد هنا إعتصام نيرتتي أواخر يونيو هذا العام والذي نقل إنسان دارفور لمستوى جديد من مستويات انتزاع الحقوق.
سيحافظ التنظيم على وهج التغيير عالياً، ويُمِيل بميزان القوى السياسي والإجتماعي لصالح السودان الجديد بدلاً عن القديم الذي كان مختلاً تحت تأثير الطائفية والرشاوي المالية والتلاعب بالدين واستخدام سطوة القبيلة والعشيرة والعائلة الحاكمة. حيث سيكون التنظيم بما يحمله من سمات متقدمة مؤهلاً للقضاء على كل تلك النعرات المكبلة التي عرقلت تطور السودان منذ الاستقلال.
سيكون التنظيم مؤهلاً أكثر من غيره على ضبط العلاقة والتوازن بين الجانب العسكري والجانب المدني في الحياة السياسية. لقد أثبت التحالف في موكب 30 يونيو 2019 مقدرته على تحقيق هذا التوازن.
لحسن الحظ فإن الزمن المتبقي لإنقضاء الفترة الانتقالية يشكل ميزة يمكن أن تهييء التحالف للإنتخابات القادمة بكل ما سيصحبها من زخم ومن ألاعيب سياسية مختلفة. على قيادة التحالف الجديد أن تستفيد لأقصى حد من تلك الفترة الزمنية في تقوية الروابط الأفقية والرأسية للتنظيم، وفي تدريب وتأهيل آلاف الشباب المحتمل إنضمامهم للتحالف، وذلك في مجالات الاقتصاد والإجتماع وتاريخ السودان، بشكل يخلق منهم قادة سياسيين واجتماعيين في المناطق التي أتوا منها.
المخاطر:
تنظيم بهذا الإتساع والتنوع في المشارب والانتماءات السابقة، وبما يفترض فيه من إنفتاح، يتيح لأعداء الثورة الولوج له وبالتالي التأثير على قراراته ومواقف عضويته. لذا لابد من الاتفاق مسبقاً على الآليات المناسبة التي تضمن حمايته من العوامل المؤدية للانقسامات وزرع الشكوك. والآليات ليس بالضرورة أن تكون داخل التنظيم، بل يمكن أن تكون من خارجه، حيث يمكن كمثال تشكيل مجلس يتفق عليه مسبقاً من أصدقاء التنظيم والداعمين له من القيادات الفكرية والاجتماعية على المستوى الوطني الأشمل.
شارك هذا الموضوع: