منذ انطلاق تدشين عهد الاستقلالات الوطنية بالعالم الثالث ثبت ان الغالبية العظمى من الاحزاب والمنظمات السياسية والعسكرية سعت للاستيلاء على جهاز الدولة عن طريق الانتخابات او الانقلابات بغرض توظيف الثروات الاقتصادية لصالح ولمصالح المؤسسة السياسية المعنية باستمالة لل (جماهير) بتجميع اصواتها بواسطة تدبيج الخطابات التبشيرية والوعود والامنيات الطيبات بمستقبل افضل.
ولكن ما ظل الواقع يقوله والنتيجة تقره ان كل ذلك لم يكن اكثر من تاكتيك الاستيلاء الخفي على السلطة استعدادا لجولة جديدة من نهب الريع والفوز بالامتيازات.
في ذلك نتساوى كاحزاب وتنظيمات سياسية مع غيرنا ما لم ننجح في بناء الرقابة الشعبية الصلدة على المال العام ونمنع تمدد واستفحال صناعة ومراكمة المال السياسي الذي يظل آفة العملية السياسية بدول شتى بالعالم ومنه دولتنا المهددة بالانقراض.
فالدولة السودانية وبالرغم من انها تقع في حيز الاستعمال المجازي لعدم توفر العديد من مقوماتها ومنها الدستور الدائم تعرضت ومنذ الاستقلال لاوضاع من الخلخلة القانونية وعدم الاستقرار السياسي والدستوري والاقتصادي ما انعكس سلبا على الابنية الاجتماعية المتنوعة وفتح من الناحية الاخرى شهية اعضاء جدد لا حصر لهم لدخول نادي طبقتها السياسية الخالي من الضوابط والشروط التأهيلية وبذات الدوافع التاريخية لمن سبقهم شاهرين رغبة التميز الاجتماعي والمالي على حساب المجموع.
اصبحت الوظيفة العامة غنيمة قابلة للاخذ كل على حسب قدراته في ارتكاب الفساد وممارسته عن طريق المحاباة والتقرب لصانعي القرار.
وليس من الغريب ان العامة قد اصبحوا يسخرون من الوظيفة العامة ويسمونها بالميرى، اي الوظيفة التي توفر لشاغلها راتبه الشهري باقل درجة من الجهد ولا تتطلب ابداء اي نوع من المثابرة . غير ان الوظيفة العامة التي كانت ربما تحتاج الى نسبة معلومة من التفوق التعليمي وجنى المكاسب التخصصية للخريجين منذ عهد الحكم الثنائي مرورا بالحكومات الوطنية حتى نهاية السبعينات قد غدت وفي ازمنة سياسية جديدة منالا دون شروط او واجبات مستحقة في عهد حكم الاخوان المسلمين. فظاهرة التمكين واعلاء شأن الولاء السياسي وتفضيله على التفوق والمهنية قد سجل المزيد من الاهداف المضادة في الخدمة المدنية بازدياد ترهلها وضعف انتاجيتها بالتالي. لقد باتت الوظيفة العامة وفي غياب الصرامة والتنظيم الاداري الوظيفة الاكثر ضمانا للكسالى وذوي القدرات المتدنية للتكسب والبقاء تحت مظلة الامان والضمان الماليين. ولا عجب ان تتكدس الخدمة المدنية حاليا بأعداد ضخمة من الموظفين العاطلين عن الخدمة وتصبح الوظيفة الاشد طردًا ومجافاة للابداع والابتكار.
وليس ادل على جرأة فساد شاغلي الوظيفة في نسبتهم العظمى من مشهد التمتع بامتيازات شتى في درجاتها العليا من السكن الحكومي ومجانية التنقل والعلاج بالخارج وغيره دون توافق وتطابق تاهيلي ومهنى لاغلب الشاغلين في العقود الاخيرة. فالمصالح والادارات والمؤسسات الحكومية اصبحت تعج بالممارسات المخلة والمخالفة للطبيعة الانتاجية والخدمية بما تحتويه من عدم التزام بالنظم والقواعد المتعارف عليها في تنظيم العمل رغم وجود وزارة للعمل لا يعلم احد عن خدمتها الجوهرية المباشرة في فكرة العمل بالدولة.
لقد كان أمام الحكومة الاولى المشكلة بعد ثورة ديسمبر مهام عاجلة لا تذهب فقط في التفكيك والاحالة للعاملين دون تطابق المؤهلات مع الوظيفة ولكنها تعمل على اعادة تنظيم الخدمة المدنية ورفدها بالقوانين المنظمة لادائها بعد اقامة دراسات ضبط الجودة على الكثير من مؤسساتها. كل ذلك ذهب مع الريح وعاد منظمو الانقلاب وحكومتهم (الغامضة الاهداف ان لم نقل العديمة) الى اظلام المسرح، وعادت جحافل العاملين الجزافيين تنهب وتواصل ما انقطع من عمل لها في تمكين الفساد. للثورة والتغيير مداخل وابواب شتى في الحياة العامة ولكن يظل التصويب والاصلاح للخدمة المدنية احد اهم المداخل الذهبية لاستعادة وعى الدولة الغائب ان لم تكن هى الغائب الاعظم الفعلي من الوجود.
اعادة الوعى للدولة وان بدت مهمة ملقاة على عاتق من يحكمون ويتحكمون الا انها مهمة تتطلب نهوض الجميع واطلاق الدراسات والبحوث التطبيقية لإصلاح الخطا الذي ربما يكمن في تكوين الفلسفة الادارية نفسها ، كما الخطاب السياسي الحاكم منذ الاستقلال دون تعديلات جوهرية او هيكلية بمتنه وقوامه
شارك هذا الموضوع: