شرق السودان بعد (62) عاماً من المظالم والمطالبة بالحقوق
قراءة في موقف المفكر السوداني الإنساني محمود محمد طه من مؤتمر البجة/ البجا، أكتوبر 1958
مجتزأ من كتاب: عبد الله الفكي البشير، محمود محمد طه وقضايا التهميش في السودان، دار باركود للنشر، الخرطوم، 2021.
بقلم عبد الله الفكي البشير
فور إعلان الاستقلال عام 1956، بدأ التعبير المنظم لبعض أقاليم السودان عن المطالب بالحقوق، كما هو الحال بالنسبة لمؤتمر البجة/ البجا في أكتوبر 1958، بينما عبَّر جنوب السودان عن موقفه قبل ذلك، وقبيل الاستقلال، وكان ذلك بحامية توريت في 18 أغسطس 1955. كانت هذه التحركات الإقليمية وتبعتها أُخر، قد حملت في داخلها، بذور الأزمة الوطنية في السودان، التي أفضت للانفصال ومناخ التشظي.
حينما بدأت تلك التحركات الإقليمية، في جنوب السودان وشرقه وغربه، خلال عقد خمسينات القرن الماضي، كان محمود محمد طه حاضراً وبقوة في المشهد السوداني. فقد حضر وهو الداعية والقائد والمفكر المعني بحقوق المهمشين والمظلومين، عبر المقال والبيان والمحاضرة. فدعا مجدداً لطرحه بضرورة اعتماد النظام الفدرالي، واعطاء الحكم الذاتي لكل أقاليم السودان. وهذا طرح أصيل وسابق لانفجار الصراعات واشتعال الحروب في السودان. كما دعا في 11 مايو 1958 إلى استقبال هذه التحركات والمطالب بالذكاء اللازم وبالتعاطي الجاد والعلمي مع المشاكل من خلال البحث المستفيض و"قوة التخيل" لطبيعة المشكلة وحجمها. وكان قد بيَّن في مقال له نُشر يوم الثلاثاء 22 أغسطس 1955، وفي بيان جاء يوم السبت 10 سبتمبر 1955، وهو يتحدث عن حوادث جنوب السودان، بأن أجزاء السودان كلها تحمل سمات الاختلاف سواء في الجنوب والشرق أو الغرب أو الشمال أو الوسط، وكل ما يقال عن الجنوب أن الاختلاف فيه أشد توكيداً وأبلغ ظهوراً من ما هو في بقية أجزاء السودان.
عندما عُقد مؤتمر البجة (رسمت هكذا "البجة" في الصحف أوانئذ) لأول مرة بمدينة بورتسودان خلال الفترة ما بين 11- 13 أكتوبر 1958، كان محمود محمد طه من أوائل الذين كتبوا عنه، إن لم يكن أولهم. فقد نشر أولى مقالاته عن المؤتمر يوم 18 أكتوبر 1958، بصحيفة أنباء السودان. ولم أقف على كتابة سابقة لكتابة محمود محمد طه عن مؤتمر البجة لأي من القادة السودانيين سوى برقية أرسلها عبد الخالق محجوب (1927-1971) باعتباره سكرتيراً عاماً لحزب الجبهة المعادية للاستعمار- الحزب الشيوعي السوداني لاحقاً- ("سكرتير الجبهة يبرق مؤتمر البجة"، صحيفة الميدان، العدد رقم: (794)، الاثنين 13 أكتوبر 1958). لم يكن مقال محمود محمد طه عن مؤتمر البجة هو الوحيد الذي كتبه عن قضية الشرق وأقاليم السودان الأخرى، وإنما اتبعه بكتابات عديدة عن مؤتمر البجة وعن أهل الأقاليم وحقوقهم. وقد لفتت كتاباته عن مؤتمر البجة بعض أعضاء مؤتمر البجة وأعجبتهم، فأصبحوا أعضاءً في الحزب الجمهوري الذي يرأسه محمود محمد طه، كما سيرد لاحقاً.
تناول محمود محمد طه في مقاله المؤتمر تحت عنوان "مؤتمر البجة"، وأوضح بأن ما خرج به المؤتمر من مطالب هو دون مستوى حقوق أهل الأقاليم، فالمطالب يجب أن تعين على حل المشاكل في الأقاليم. وقد دعا في مقاله إلى إعطاء أهل الأقاليم من الحقوق، فوق ما جاء في مطالب مؤتمر البجة، لأنه، كما قال، "ولست أرى في مطالب مؤتمر البجة ما يعين على حل المشاكل القائمة في منطقتهم". وأضاف بأن حل مشاكل البجة، كما هو الحال في الجنوب والغرب، تتم بإقامة الحكم الذاتي، ومنح أبناء تلك المناطق الفرصة كاملة لإدارة شؤون مناطقهم. ثم أعلن في نفس المقال، قائلاً: "أنا من الداعين للاتحادات الفدرالية لجميع مناطق السودان لأن الحكم المركزي لن يستطيع أن يطور هذه المناطق بالسرعة اللازمة ولأن اختلاف هذه المناطق يجعل التشريع المركزي الموحد غير صالح لإدارتها". كما نبه في مقاله بأن الحكم الفدرالي لأي منطقة لا يتأتي بالتمني وإنما بالاستعداد للوفاء بالتزاماته فهو يحتاج الى كفاية إدارية وكفاية فنية وكفاية اقتصادية، ويتطلب وقتاً، ومع ذلك علينا أن نبدأ في الحكم الفدرالي للولايات السودانية، ولا ننتظر توفر احتياجات، وأوضح، قائلاً: "والحق أن السودان جميعه يحتاج لهذه النظم الفدرالية في إدارته وحكمه". وأضاف بإن "الناس لا يمكن أن يتعلموا المسؤولية إلا بمباشرة المسؤولية، ولا يمكن أن يتعلموا الحرية إلا بممارسة الحرية"، ولذلك يجب أن تضع الحكومة الناس مباشرة أمام مشاكلهم، فهم أعرف بالمشاكل والأولويات، ثم تحاول الحكومة أن تعينهم على حلها لا أن تتولاها عنهم. كما أكد على ضرورة السير من الآن وبكل وضوح في طريق الحكم الذاتي لجميع ولايات السودان.
ظل محمود محمد طه في كتبه ومقالاته وبياناته وأحاديثه، يؤكد باستمرار على أن السودان قطر شاسع ومتأخر وقليل السكان، إلى جانب أنه يزخر بالاختلاف والتنوع الثقافي واللغوي والديني بين أقاليمه المختلفة، ومن الخطأ إدارته بمركزية واحدة. ولهذا يجب إدارة السودان بالنظام اللامركزي، وإقامة الحكم الذاتي، ففي ذلك تنمية لخصائص الأقاليم وأهلها، وابراز لأصالتهم.
الكتابة عن مؤتمر البجة تدفع بعض أعضائه ليكونوا جمهوريين
استمر محمود محمد طه يكتب عن حقوق أهل الأقاليم، والمستضعفين والمهمشين، لا سيما مؤتمر البجة، ويدعو للتعاطي مع مشاكل أقاليم السودان المختلفة "بالذكاء وقوة التخيل" لطبيعة المشاكل والاختلافات الثقافية والدينية واللغوية. لفتت تلك الكتابات انتباه الكثير من أبناء مؤتمر البجة إلى طرح محمود محمد طه، وإلى الفهم الجديد للإسلام الذي يدعو له، وإلى تلاميذه الإخوان الجمهوريين، فأصبح بعض منهم جمهوريين. ومن بين هؤلاء على سبيل المثال، لا الحصر، محمد أدروب أوهاج (1942- 2013). كان الدكتور أوهاج كان عضواً في مؤتمر البجا ومن الفاعلين والمؤثرين في مجتمع شرق السودان، وقد حكى بأن من الأسباب والمؤثرات التي ساهمت في التزامه للفكرة الجمهورية "كتابة الأستاذ محمود عن مؤتمر البجا، فهي، كما أوضح ليست عنصرية والعنصرية مرفوضة لكنها مناطقية تقع فى حيز الحكم الفدرالى. والحكم الفدرالي أول من نادى به الأستاذ محمود ومنصوص عليه في كتاب أسس دستور السودان الصادر عام 1955". ظل أوهاج من تلاميذ محمود محمد طه، ومن الإخوان الجمهوريين حتى تاريخ انتقاله.
تجليات ضعف الانفتاح على الأرشيف القومي عند المثقفين السودانيين
على الرغم من انحياز محمود محمد طه الباكر والمستمر للمستضعفين والمهمشين، ونضاله وعمله من أجل قضاياهم، كما تبين الوقائع والوثائق في مصادرها بأرشيف السودان القومي، خاصة عن قضية جنوب السودان، وشرقه (مؤتمر البجة/ البجا)، وغربه، فقد لاحظنا أن بعض المثقفين ينتقد مواقف محمود محمد طه من قضايا التهميش، خاصة موقفه من مؤتمر البجة/ البجا، دون علم وبلا تريث وتثبت. وظل هؤلاء في نقدهم يكتبون من خيالهم ووفقاً لتصوراتهم وللصور النمطية التي تشربوها أو ورثوها، لا استناداً على المصادر واستنطاق الوثيقة. وفي تقديري أن هذا لا يليق بواجب المثقف تجاه الثقافة، ولا يليق بدوره في خدمة التنوير وتنمية الوعي، كما يتنافى مع القيم الأخلاقية. فعلى سبيل المثال، لا الحصر، كتب أحدهم في دراسة له، ونشرها فيما بعد في كتاب، قائلاً: "كمحيطه الحضري عاش الأستاذ محمود في عالم غير عالم مؤتمر البجا ومنظمة سوني ومقاتلي الأنيانيا، وانشغل كأغلب معاصريه بقضايا الحرب والسلام في الشرق الأوسط، وليس الجنوب، فخصص لذلك كتابا عن العرب واليهود والسوفييت والغرب حوى نقدا شرسا لسياسات جمال عبد الناصر وزعامته، المتهم عند الأستاذ محمود بخدمة الشيوعية الماركسية والاتحاد السوفييتي". هذا القول اشتمل على أخبار وتحليل ونتائج، وكلها للأسف خاطئة، وهذا، في تقديري، لا يليق بواجب المثقف تجاه واجب الثقافة والوطن، ولا يليق بدوره في خدمة التنوير وتنمية الوعي، كما يتنافى مع القيم الأخلاقية. وما كنا نحب للكاتب أن يضع نفسه في هذا الموقف، فالحكم التقريري الذي تضمنه قوله لا يصمد أمام الوثائق والحقائق والوقائع، وقد بيَّنا، كما ورد أعلاه، أن محمود محمد طه كان من أوائل الذين كتبوا عن مؤتمر البجة/ البجا إن لم يكن أولهم. فلو صبر الكاتب وأطلع على الوثائق ودرس الوقائع، لخرج بغير ما ذهب إليه. فاستنتاجاته غير صحيحة البتة، وفيها جرأة زائدة وخلاصات ظالمة لنفسها ولكاتبها وللقراء وللتاريخ كما أنها من مغذيات مناخ التهميش في السودان. بيد أن وعي الأجيال الجديدة، وما يشهده السودان من سرعة في تنمية الوعي، وانشغال بإجراء المراجعات، وسعي لتصحيح المسارات، يجعل مثل هذه الكتابات المضرة بالصحة والذاكرة الوطنية والمشوهة للتاريخ والعقول تتبخر ناحية السماء مع مرور كل يوم جديد.
ولمَّا كانت مثل هذه الكتابات تمثل أنصع نماذج ضعف الانفتاح على الأرشيف القومي عند المثقفين، وتتسم بعدم الاحتراز في إطلاق الأحكام، والجرأة في الجزم على صحة ما تطرحه وما توصلت إليه، فتخلص إلى نتائج مضللة، فقد خصصنا لها محوراً في كتابنا المشار إليه أعلاه. وقد بيَّنا الخطل والركاكة والتهافت في تلك الكتابات، وفصّلنا في ذلك، بمنهج توثيقي صارم، كون دراسة التاريخ والشأن الوطني والإسهامات الفكرية والسياسية لا تستقيم بالخيال وباطمئنان المثقف إلى سقفه المعرفي، ومحدودية ما لديه من معلومات وبيانات. كما أن واجب الكتابة والعطاء من أجل تنمية الوعي وتكييف الرأي العام، له استحقاق. والحد الأدنى من الاستحقاق هو معرفة الكاتب الجيدة بالموضوع الذي يود أن يكتب عنه. الأمر الذي يتطلب الاطلاع والتعمق والتزام المنهج التوثيقي، والاحتراز لما هو خارج دائرة معرفة الكاتب، فضلاً عن تحاشي إطلاق الأحكام على شاكلة "كمحيطه الحضري عاش الأستاذ محمود في عالم غير عالم مؤتمر البجا…"، كما ورد آنفاً. للمزيد أنظر: عبد الله الفكي البشير، محمود محمد طه وقضايا التهميش في السودان.
شارك هذا الموضوع: