لم يعد صعبا التمييز اوالفهم لدلالة المعنى من اخلاق القطيع اوعقله او سلوكه . فكل هذه المصطلحات باتت متشابهة ومتشابكة المعاني تمثل رايا متحالفا مع فكرة ادانة عبودية راى وموقف الفرد للجماعة او المجموع المهيمن المؤثر.
والقطيع بإبانة اكثر هو عمى الوان الافكار والوقوع في سلطة الخيار المتبع او المجرب المتسلط .
ونكاد نتأكد من سطوة عقل، وسلوك، واخلاق القطيع مجتمعة في العديد من الامثلة اليومية وما يجري منها امام اعيننا في مجتمعاتنا وبيئاتها.
وينزع التعريف العلمي في اطار شرحه للقطيع باعتماد عدد من المجالات الحية وما يقع من متشابهات لها ومنها الاحتجاجات، والتظاهرات، وتشجيع كرة القدم، والمضاربات البنكية، وارسال الرسائل الاسفيرية بطلب من الاصدقاء الفيزيائين والافتراضيين بتمريرها على الاخرين دون لحظة تفكير تتقطع على المرء فيما يفعل وتعرضه لمسائلة الفعل اوبطرح سؤال لماذا على ان افعل ذلك ولا افعل شيئا مخالف له.
وللتعرف على ميكانيزمات انتاج ظاهرة القطيع يلزم ربطها بمتلازمات التعصب والوثوق الاعمي بالنموذج الآمِر لبذل فعل المحاكاة والانصياع واعادة انتاجه.
المشهد الاجتماعي البشرى للقطيع مشهد قديم وحديث معا بتفاصيل معلنة وبنحو بائن، قاسٍ في حيز ردود الافعال للجماعات والمنضويين تحت رايات القبائل الاجتماعية والحزبية السياسية، وبحيث اصبح ضربا من الاعتياد وسلطة العادة بصورة تدعو للتوتر والذعر.
ويكاد المشهد ينال في حقل الاجتماع السياسي العالمثالثي صيتا واندفاعا، ومنه اجتماعنا السوداني على بشكل غائر في التاريخ، وحيوى في الحاضر.
والقطيع متى صار بشريا يشكل خطورة على الطاقة الكلية للمجتمعات بانتصاره علي تنوع اراداتها بقوة العدد والكم عندما يتوسل الاغلبية الساحقة ويفوز بتلاحمها.
فهنالك اعداد ضخمة من الناس المكونة لمجتمعاتها غالبا ما تدين لزعيم، اوتتبع فردا، او هيئة، او قيادة او زعامة دون تفكير او تشكيك، او اثارة لاسئلة مفتاحية ومبدئية منها سؤال الى اين تقاد ونحو اي هدف، او اهداف تساق؟
ويبدو ان منطق عمل الوصفة الديمقراطية الاوسع ذيوعا وانتشارا لدينا يدين بترجيح كفة المنتصر، والانتصار بالكم، وليس بالكيف، مما يترك اثره البالغ في التطور النوعي لها بان تسلك تمثيل الانتخاب على اساس التوافق او بالاحرى التدافع الجماعي غير المشروط باجندة نوعية دقيقة تقره كوسيله لمشروعية القيادة الاجتماعية، والسياسية الحاكمة المقررة لامرها.
ويمكن لهذه القيادات وفي حالة حصولها على حق التمثيل الجماعي وتحولها الى الضمير المتكلم بغير امانة أو نزاهة عن مصالح الجماعة (المجتمع- المنطقة- – القبيلة - الحزب) اطلاق يدها في الحكم دون رقابة شعبية تتدخل بدورها لتعطيل سلطاتها عبر اللوائح المنظمة للعلاقة الفوقية التي تفرضها حتى تنهض سلطة الفرد وصناعة الديكتاتورية الفردية تفويض مفتوح دون ضوابط رادعة او ملزمة للقائد، الزعيم، او الهيئة القائدة، وبتخفيض يصل حد المعادلة الصفرية احيانا في اعتماد سلطات رقابية ومحاسبية ليغدو الحاكم حاكما مطلقا وواحدا واوحدا.
فكم من المجتمعات بالعالم قد دفعت ثمنا فادحا لحكم الفرد ورسوخ الشمولية والديكتاتورية الفردية حتى تاثرت كامل الحركة الاقتصادية والسياسية وسايكولوحياتها ودفعت اثمان باهظة جراء ذلك بخضوعها للارادة الفردية المركزية وانتظامها لخدمة الزعيم بدلا من جعله خادما لها ولمصالحها.
وكم من مجتمعات بلدان لا حصر لها تقودها عادة الموافقة الآلية ويختطفها الغش الرامي الى حتفها بسبب التبعية، والانقياد، والقبول بالقيام بدور القطيع بعد ان يتم تجريدها من ملكات التفكي، وارادة التحرر، والقدرة على اطلاق المواهب والقدرات. بيد ان العوامل المؤدية لتلك الوضعية المزرية تعود الى ان ظاهرة القطيع وفي الاصل تعد صناعة اصيلة للمؤسسات السياسية والاجتماعية التي تبذل خدماتها القصوى لاجل تجريد الناس من فعالية العقل بواسطة عمليات التربية، والثقافة، والاعلام، والتعليم عندما تتمكن من استلاب الناس واخذها الى الغايات المرادة والمرجوة من جانبها بغية مراكمة السلطة، والحكم المطلق المستبد.
ولا تصبح صناعة القطيع ملكا حصريا لسلطات ومؤسسات الاستعمار الفكري والثقافي فقط في حقل الاستعمارالتقليدي الفيزيائي ، ولكن في حقول القيادة السياسية في الاحزاب، والمنظمات السياسية التي تخاطب المسلمات والمعتقدات وتستهدف محاصرة ولاء الفرد بواسطتها ومن ثم خلق التأييد والتأييدات المتعصبة لافكارها واهدافها.
على ان ما يستوجب الاشارة هنا هو ان التربية تلعب دورا متقدما في عمليات الاحتواء، او الاغتراب باضطلاعها بمهمة توجيه ارادة الفرد وكسرها بواسطة نظام تربوي بعينه. اما التعليم فيعمل على خلق المسوغات للافكار وتصويرها بانها الافضل من دون الافكارالاخرى.
وتتفاعل التربية والتعليم مع الموروث العقدي والاجتماعي لتعملا معا لتكوين ما يعرف بالتحير الثقافي للثقافة لانتاج محتواها.
وتستفيد المؤسسات السياسية في ادارة القطيع بتوظيف التربية والتعليم والثقافة بخلق الاليات الاعلامية المناسبة المتناسبة مع رؤيتها لخلق التاييدات المطلوبة في الراى العام بتوظيف الاعلام التقليدي والجديد. غير ان التوصيفات السابقة لصناعة حالة ومشهد القطيع باتت تواجه ومع نتائج التطور العلمي والثورة التكنولوجية بوسائل الاتصال والمعرفة بخسائر جمة، وهزائم ساحقة نظرا للعمل الذي اصبحت تنتجه في دعم الفردانية والتطور العقلي والنفسي النازع لدعم التفكير النقدي والشخصية المستقلة وهو ما بات يمثل ابرز تحديات مؤسسات الاحتواء السياسي والثقافي الضالعة في تربية القطيع نفسه.
ان معركة الفرد في العالم المعاصر صارت تعتمد الى درجة كبيرة في النزوع لبناء استقلاليته عن طريق اطلاق حرية التفكير وعلمية النتائج المستخلصة بالاستعانة برسائل ووسائل التعليم التطبيقي الجديد وتكثيف المساءلة للموروث، والمسلمات، وتنقيتها من سلطة الاسطورة، والخيال الشعبي الضار في كثير من التجارب المعاصرة.
ويلعب الاصلاح المؤسسي في ذلك دورا جوهريا وخاصة في مثلث التعليم والثقافة والاعلام بمحاولة ضبط وترقية خطاباتها التربوية التى تساهم بفعالية في تشكيل عقل الفرد والجماعة. ومن البديهى ان مهمة كتلك لن تنعقد باسداء النصائح ولفت الانتباه فقط، ولكن بتكوين الكتلة الحيوية للاستنارة واطلاق يدها في العمل العام باستهداف وعى المجتمعات وخاصة في بلدان العالم الثالث ومنها بلدنا السودان الذي يواجه مرحلة دقيقة في تطوره نحو الديمقراطية، و بضلوعه في مرحلة انتقالية كثيفة الصعوبات، صعبة المراس.
حتى الآن ورغم اقتراب العام الثالث للانتقال من سلطة شمولية غاشمة الى مرحلة انتقالية فان الكثير من مطلوبات التحول الديمقراطي تصير معلقة وعالقة. فلا يزال الاقتصاد يراوح ازماته، والعدالة لا تتحقق بتغيير القوانينن والمجلس البرلماني احتمال في الغيب، وشبح الغريب، اوايادي الخارج من وراء ادارة دولتنا بائن وجلي، ورائحته على طرقات السلطة تزكم الانوف.
غير ان كل ذلك يقذف بكرة اللهب على مضمار تحقيق استقرار المجتمعات السودانية واستعداداتها للتفاعل مع صوت العقل ورسائل الاستنارة مهددة من جديد بانتاج زعمائها القبليين والحزبيين الخالدين على المناصب حتى مغادرة الحياة كخصوم لسنة وفضيلة التطور في واقع عجز بنيوى يضرب بالقوى السياسية في مهمة تصديها للمشكلات المزمنة وتحويل طاقات عضويتها الى طاقات ايجابية تساهم في ترسيخ ونشر قيم الديمقراطية والتى من مهامها الاولى القضاء على معوقات الانتقال.
بدون ذلك سوف تقدم لنا الاحزاب ومنظمات المجتمع المدني وغيرها من القوى السياسية اعترافا على طبق من ذهب بضلوعها واستثمارها في الابقاء والمحافظة على اوضاع التخلف المزمن وانتاجاته الضالع في صناعتها القطيع عبر اداراته الموحشة بدلا عن بناء البشر بالمعارف والوعى اللازم لتنمية المجتمعات اقتصاديا وثقافيا بحيث تصبح هدفا استراتيجيا لخدمات المؤسسات السياسية والمدنية، والاعتراف بانها مجتمعات وليست (جماهيرا) يسهل أُكلها بتفريغ وعيها، وعدم احترام ملكات عقولها الذكية، الناظرة، الباحثة عن مستقبل مشرق وباهر.
شارك هذا الموضوع: