تقديم
بقلم عبد الله الفكي البشير
غداة استقلال السودان، تحدَّث المفكر السوداني الإنساني محمود محمد طه عن واجب الأحرار تجاه ما تستحقه الشعوب، فكتب في صحيفة أنباء السودان، العدد رقم (162)، بتاريخ 4 أكتوبر 1958، قائلاً:
"هناك رأيٌ فيه كثير من الصحة وهو مع ذلك لا يستهويني ولا يروقني .. وذلك الرأي يقول: إن كل شعب يستحق حكومته.. وهو لا يروقني لأنه يجعل البشر كالسوائم بمعيار المثل الذي يقول كل شاة معلقة من عصبتها.. فلو أن الناس لا يتناصرون ولا يتعاونون ولا يهتم بأمور أذلائهم أعزاؤهم لما سمت حياة الأحياء في هذا الكوكب سمتاً فوق سمت. أنا لا أقول كل شعب يستحق حكومته، ولكني أقول إن كل شعب يستحق أفضل، وسيكون من واجب الأحرار في كل مكان التعاون في إنجاز ذلك عاجلاً أو آجلاً".
يقيني أن مؤلف هذا الكتاب: مُفاكراتٍ حول منهج التحليل الثقافي: الثقافة، الدَّولة، الدِّيموقراطيَّة، الاستقلاليَّة، الأيديولوجيا، والآفروعمومية، هو من أولئك الأحرار الذين عناهم محمود محمد طه. فالمؤلف هو الدكتور محمد جلال أحمد هاشم، رجلٌ أنفق حياته كلها ـــــ منذ دخوله كلية التربية بجامعة الخرطوم عام 1980 ــــ ولايزال، في خدمة السودان والإنسان والثقافة، عملاً وإنتاجاً، لا مجازاً أو أحلاماً أو تمنيات. تسوقك سيرته الفكرية والثقافية، وأنت تتفحص في إنتاجه الفكري والثقافي المتنوع والغزير والأصيل، إلى أنه مفكرٌ حرٌّ وثوريٌّ، وصاحب مشروع ثقافي ووطني، ظل في إطاره ملتزماً بواجب الثقافة والفكر والسودان والإنسان. إذ يكشف سجله الوطني عن أنه باحث جاد وشامل في تشخيص شؤون الوطن، ومناضل جسور وحاضر في كل المواسم الوطنية، يسد مسد المتقاعسين عن تشخيص قضايا الوطن في مجالات تخصصهم، ويفدي الكُسالى، وبناة الوطن عبر الأحلام والتمني. فلقد ظل ينتج المعرفة بجد وعمقٍ وإتقان واستمرار، ويقود في سبيل الوطن وشعوبه المواجهات، وهو ينشد التغيير الجذري والشامل، رافضاً الحلول الترقيعية، وأطروحات "أنصاف المثقفين من أدعياء السياسة وأدعياء الوطنية". كان قد أعلن منذ صباه انحيازه إلى المهمشين، والمستضعفين، والمقموعين، والمبعدين، والمقصيين، والمغيبين، والذين هم خارج السجلات الوطنية. واتبع إعلانه بالعمل عبر أدوات المثقف الحر المنتج للمعرفة، ومنها: الكتاب والمقال والبيان والمحاضرة وإقامة الحوارات والمفاكرات، كما يدل على ذلك كتابه هذا. وجعل من ذلك الانحياز فضاءً لتأملاته وميداناً لدراساته عن السودان ومكوناته ومساره منذ آلاف السِّنين وحتى اليوم. فقدم أطروحاتٍ أصيلةً، كشفت عن ضعف السقوف المعرفية، وخطل السائد والمألوف بشأن السُّودان وشعوبه وثقافاته. مثَّلت تلك الأطروحات أهم مرتكزات مشروعه الثقافي، الذي أضحى من مغذيات تنمية الوعي وخدمة التنوير، ومرتكزاً أساسياً في جهود تحرير العقول، وتصحيح التصورات.
تعود معرفتي بالدكتور محمد جلال هاشم إلى بداية تسعينيَّات القرن الماضي، عندما التحقت طالباً بكلية الآداب، جامعة الخرطوم. وبرفقة بعض الزملاء، قادنا الظمأُ والشغفُ بالفكر والعلم والثقافة، إلى التنقيب خارج قاعات الدرس، فوردنا مكتباتِ ومنابرَ الجامعة الحوارية، فكانت قاعة الشارقة بمعهد الدراسات الأفريقية والآسيوية، إحدى أهم منابر التنوير والحوار العلمي، وكان محمد جلال هاشم ــــ وهو وقتها يعمل بالمعهد ــــ أحد فرسان السجالات والمُصاهلات الفكرية فيها. وكان مثيراً للجدل في نقده وأطروحاته الجديدة الغريبة، آنئذٍ، داخل القاعة، والمرفوضة من قبل الكثير من الأساتذة. فهي أطروحات كانت، ولا تزال، خارجة عن التشابه، وتُناقض المألوف، وتدعو للثورة على السائد والموروث الأكاديمي ومُسلَّماته. ولم يمض وقتٌ حتى أصبحنا نرتاد مكتبه، فكان لنا بمثابة الواحة الفكرية والثقافية. كان المكتب مكتظاً بالكتب، واللوحات التشكيلية والأثرية، والمجسَّمات والعديد من تعابير الفن والثقافة. كما رأينا، في مكتبه ــــ ولأول مرة ــــ عناوين كتب الأطروحات الجديدة، والرؤى النقدية، وسمعنا منه أسماء الكبار من الكُتاب والمفكرين والشعراء والتشكيليين في السودان والعالم؛ كذلك أتاح لنا مكتبُه الفرصةَ للقاء الكُتَّابِ والشعراءِ، فضلاً عن المتابعة للإصدارات الجديدة من الكتب السودانية والعالمية. وكان يكرمنا بالصبر على أسئلتنا، وبالمراجعة لبدايات كتاباتنا، بلطفٍ وسعة صدرٍ ومحبة، وكأنه يراهن علينا في بناء السودان والمستقبل. ولهذا فإنني سعيدٌ غاية السعادة بكتابة هذا التقديم الذي شرفني محمد بكتابته، كونه أتاح لي الفرصة للتعبير عن شكره وفضله، ولتقديم شهادةٍ صدق في حق رجلٍ، هو أهلٌ للشهادة والتكريم والاحتفاء. ولهذا جاء التقديم عابراً لهذا الكتاب فتناول طرفاً من مشروعه، واليسير من دوره في تنمية الوعي، وبناء الوطن، وذلك من بابِ الاعترافِ له بالفضل، والاحتفاء بالعطاء الوطني والإنساني، وإحقاقاً للحق.
صدر الكتاب في طبعته الأولى عام 2018، وكان ثمرة لمفاكرات ونقاشات نشبت حول منهج التَّحليل الثَّقافي، وهو منهج تبلور بوصفه رؤية فكرية عند المؤلف ولفيفٍ قليل العدد من زملاء الدراسة عام 1983؛ وقد ظهرت أولى كتاباته عنه عام 1986م، ثم أخذ المؤلف يطوِّر ويفصِّل فيه، ويشخص به القضايا، وهو كما وسمه المؤلف "منهج جديد ومختلف"، وسيرد الحديث عنه لاحقاً.
وصف المؤلف تلك المفاكرات، بأنها: "جرَت في سياق نقاشاتٍ عفويَّةٍ تبودلت في وسائط التّواصل، الاجتماعي"، فكان لها الدور الأساسي في تشكيل الكتاب. ويقول المؤلف في مقدمة الطبعة الثانية: "لعبت محاوراتُ ومناقشاتُ الوسائط الاجتماعيّة الحديثة (مثل الفيسبوك Facebook والواتساب WhatsApp وغيره) الدَّور الأساسي في تشكيل هذا الكتاب". وانطلاقاً من إيمانه بالحوار عبَّر المؤلف عن سعادته بمختلف الآراء التي وردت عليه، وتقديره لجميع الذين تداخلوا، سلباً أو إيجاباً، وعزا الفضل في صدور هذا الكتاب لتفاعلهم ومراجعاتهم. واحتفاءً منه بالفكر، كتب ناصحاً، فقال: "إن كان لي أن أنصحَ، فذلك بأن نتَّفق مع الفكر أو نختلف معه بدرجاتٍ، تزيد أو تنقص، لا أن نؤمن أو نكفر به. فالفكرُ، طالما كان فكراً، لا يُدحض بل يُناقش؛ وإن لم يكن فكراً، فلا يستحقُّ أن يُناقَش". واستصحب المؤلف كل تلك المناقشات والآراء، وها هو يصدر الطَّبعة الثَّانية من الكتاب، منقحة ومزيدة، في هذا العام 2021م، التي تتكوَّن من مقدِّمة وسبعة فصول وخاتمة، وقائمة بثبت المراجع والمصادر، وجاءت في (266) صفحة من القطع المتوسط.
سعَى المؤلف في هذا الكتاب، ومن خلال أهم مرتكزات مشروعه وهو منهج التحليل الثقافي، إلى معالجة "العديد من القضايا ذات الطَّبيعة النَّظريَّة والعمليَّة"، فأعاد تعريف كثير من المفاهيم والمصطلحات في حقول الثَّقافة والسياسة والاقتصاد والفكر. فمنهج التحليل الثقافي أضاف معاني جديدة لمفهوم الثقافة، وقد فصل المؤلف في ذلك، وأشار إلى أهم ما أضافه للثقافة، وهو "نسبيّتُها، كونها تتراوح ما بين الفروقات الشخصية من فرد إلى آخر في جانب، ثم النزوع نحو التماهي والحتمية من قبل الجماعة في الجانب الآخر". هذا مع تأمين المنهج، كما يقول المؤلف: "على جدلية الثقافة، من حيث خلوصه إلى تعددية الأقطاب الجدلية دون انحباسها في أبعادها الثلاثية الأحادية التقليدية (أطروحة Thesis، أنقوضة Antithesis، وأُجموعة Synthesis). فما يكون أطروحة في جانب، قد يكون أنقوضة في جانب آخر؛ والأجموعة التي تتشكل الآن، قد تصبح لتوها أطروحة أو أنقوضة في مواجهة أقطاب أخرى .. وهكذا دواليك". ويُحمَد للمؤلف أنه قدم إلى القراء معالجاته وتعريفاته بتوظيف منهج التحليل الثقافي، بأسلوبٍ اتَّسم بالبساطة والوضوح والسهولة والإيجاز والمباشرة. وقد اكتسب الأسلوب تلك السمات من صيغةِ الاستفهام التي اتخذها المؤلف مدخلاً للتناول، وكذلك من المباشرة، فجعل لمعالجة كل مصطلح أو مفهوم أو قضية عنوانًا فرعيًّا، ومن ذلك: ما هي الثّقافة؟ ما هو الوعي الثقافي؟ ما هي الدولة الوطنية؟ ما هو الشعب؟ وما علاقة المصطلح بمؤسسة الدولة؟ الدولة الوطنية وسؤال الهوية، الدولة الوطنية ومفهوم الأمة، الطبيعة الجدلية لمؤسسة الدولة الوطنية، الحرب الأهلية ظاهرة ارتبطت بالدَّولة الوطنية، ضبابية مفهوم العِرق، ولكن من العرب؟ كيف نواجه العنصرية الصادرة من الأفراد والجماعات والبلدان؟ ماذا يبقى لدينا بعد هذا؟ وما المخرج؟ من أين تأتي الموضة؟ مرة أخرى؟ كيف نواجه العنصرية عملياً؟ وهكذا.
وفي سعي المؤلف إلى معالجة العديد من القضايا بمنهج التَّحليل الثَّقافي، كأنه أراد أن يجعل من هذا الكتاب كتاباً تأسيسيَّاً لمشروعه، وتعليمياً عنه كذلك بقدر ما هو تلخيص لمشروعه. فقد تناول موقف منهج التَّحليل الثقافي من حركة الآفروعمومية، فقدم رؤية تجاه المشروع الآفروعمومي السوداني، والدَّور المناط بمدرسة منهج التحليل الثقافي إزاء حركة الآفروعمومية. وتناول كذلك موقف منهج التَّحليل الثَّقافي من الاقتصاد. وتكاد صيغةُ الاستفهام أن تكون حاضرةً في كل فصول ومحاور الكتاب. فعندما خصَّص محوراً بعنوان: "منهج التَّحليل الثَّقافي وصراع الهامش والمركز"، جعل المدخل لمعالجته صيغة الاستفهام: ما هو المركز؟ وما هو الهامش؟ فالتّهميش، عنده، لا يتصل بالجغرافيا أو العرق وإنما "تنموي وثقافي". والتهميش، كما جاء في كتاباته، يجري على نوعين: "تهميش بسيط وتهميش مركّب. التهميش البسيط ذلك الذي ينحصر في الحرمان التنموي والاقتصادي. في هذا يتساوى جميع السودانيين بمختلف ثقافاتهم وأقاليمهم باستثناء صفوةٍ منهم يشكلون المركز وينتمون إليه. أمّا التهميش المركّب، فهو الذي يجمع بين الحرمان التنموي والحرمان الثقافي ممثّلاً في توجّهات الدولة الأيديولوجية لمحق الهويات غير العربية وقتل لغاتها" أما المركز، كما يرى محمد جلال، "ليس إلا مجموعة من الصفوة المعاد إنتاجها ثقافياً ــــ ومن ثم أيديولوجياً ــــ داخل حقل الثقافة العربية الإسلامية عبر عملية من الأدلجة والتشكيل، الأمر الذي يُفضي في النهاية إلى شيء لا علاقة له بإنسانية هذه الثقافة نفسها وبذلك ينسفها". فالمركز، عنده، أيضاً، لا يرتبط بعرق ما، أو جهة ما، "فالمركز مركز صفوي يحتكر السلطة والثروة، وفي سبيل تأمين مصالحه يسخّر الثقافة والعرق والدين والجغرافيا".
عالج محمد جلال في كتابه هذا، وبمنهج التَّحليل الثقافي، قضايا الديموقراطية، وما بعد الحداثة، وعلاقات النَّوع، وأجناس الموسيقى الأدائيَّة في السُّودان، والإبداع بوصفه آليَّةً لإحداث التَّغيير، وظاهرة الحرب الأهليَّة. كما خصَّص الفصول الثلاثة الأخيرة من كتابه لقضايا الأيديولوجيا الإسلاموعروبيَّة، فتناول في الفصل الرابع مصادرها التَّاريخيَّة، وأصولها ومصادرها في السُّودان، كما اتخذ من دولة سنار نموذجاً، فهي عنده سلطنة إفريقية سوداء ذات أيديولوجيا إسلاموعروبية! وعالج التَّمفصُل الأيديولوجي للقوى السِّياسة السُّودانيَّة، قوى اليمين واليسار والوسط السوداني. ودرس الفصل الخامس مؤسسات الأيديولوجيا الإسلاموعروبيَّة في السُّودان، فوقف عند الجلَّابة! من هم وكيف تشكَّلوا؟ والتصوف وأيديولوجيا الطَّائفيَّة. وقد نظر للطائفية باعتبارها آخر مراحل العبوديَّة، وبصيغة الاستفهام عالج سؤالاً تاريخيًّا مهمَّاً: كيف نتخلّص من الطَّائفيَّة؟ والأيديولوجيا دائماً باطشة، لكن متى تصبح متسامحة؟ وتناول دولة الإنقاذ، العهد البائد، ودلالة أيديولوجيَّتها الإسلاموعروبية. ووسم الفصل السادس وهو قبل الأخير بـ: "الخلايا النَّائمة للأيديولوجيا الإسلاموعروبية (ظاهرة الغباء الأيديولوجي والضُّمور الفكري)، فقدم طرحاً عميقاً وجديداً، ثم قدَّم مقترحاتٍ تمحورت حول "كيف نتعامل مع الخلايا النائمة للأيديولوجيا الإسلاموعروبية؟". هنا لابد من الإشارة إلى أن المؤلف في كتاباته يمايز بين مصطلحي "الإسلاموعروبية" و"الثقافة العربية والإسلامية". فالمصطلح الأول، عنده، كما يقول: "ذو دلالة أيديولوجية بحتة تعني مجموعة المحددات السلوكية التي تشكّلت بها الطبيعة الأيديولوجية للدولة السودانية الحديثة التي قامت على الأسلمة والاستعراب مظهراً إيّاها على أنها وعي اجتماعي ــــ ثقافي (هذا بينما هي محض أيديولوجيا في حقيقتها)، إذا قسناه بمقياس الإسلام، لن يكون إسلامياً، وإذا قسناه بمقياس العروبة، فلن يكون عربياً". بينما المصطلح الثاني يعني عنده "مجمل التراث العربي والإسلامي في حال تجرّده من أي تشكلات أيديولوجية مرتبطة بالمصالح الحياتية لمجموعة معينة من البشر".
هذا الكتاب يمثل حلقةً من حلقاتِ مشروع المؤلف؛ والمشروع، في تقديري، من أكبر المشاريع الثورية والنقدية المبوبة التي ظلت تدعو لبعث السودان وسوْدَنةِ النظر فيه وعنه، وتنشد التحرير والتغيير. تميز المؤلف، وهو يعمل في مشروعه، بالإنتاج العميق والمتنوع والمستمر، باللغتين العربية والإنكليزية، مُتبنياً الفكر النقدي، والمنهج التوثيقي الصارم، والإعمال للخيال التَّاريخي، مع الحضور الدائم في الفضاء المعرفي. فقد أصدر نحو عشرين كتاباً، ونشَر نحو مئة ورقةٍ علميةٍ، ومثلُ ذلك وأكثر من مقالٍ صحفيٍّ، وأذاع عشرات البيانات، وتحدث في مئات المحاضرات والندوات. ويكاد لا يمر أسبوع إلا ونجده قد رفد الفضاء السوداني والكوكبي بمقال أو بيان أو ورقة أو كتاب أو محاضرة. ومن نماذج كتبه على سبيل المثال، لا الحصر:
تميز هذا الإنتاج الفكري المستمر والمتنوع، بالأصالةِ والإتقان والجودة الشَّاملة، سواء على مستوى اللغة أو المنهج أو التَّوثيق. والإتقان في الكتابة، فعل لا تصنعه الأحلام، ولا يتأتى بالحماسة، ولا تكفي فيه غزارة المعلومات، وإنما يتطلب الجد، والدربة، والدِّراية، وعمق المعرفة، وسعة الخيال، ووضوح الرؤية، وإعمال الحس النقدي، فضلاً عن التبحُّر في اللغة، والإلمام بمناهج البحث والمواكبة للجديد منها. وفوق كل ذلك؛ فإن الإتقان في الإنتاج الفكري يحتاج للمفكر الحر. فطاقة النصِّ وقدرته على النفاذ إلى القلوب والعقول والذَّاكرة، وتمكنه من عبور الزمان والجغرافيا والثقافة، لا تجيء إلا من المفكر الحر. وبقدر مستوى الحرية الفردية عند المفكر يكون مستوى التدرُّج في إتقانه، وقدرة نصِّه على النفاذ، وتمكنه من العبور والخلود. والحقُّ أن محمدًا ظل ينتج بإتقانٍ نادر المثالِ في السودان. فمتى ما قدَّم محمدٌ كتاباً، أو ورقةً علميةً، أو مقالاً صحفياً، لجهة ما، فإن المسؤول عن التحرير في تلك الجهة، يكون، وهو يدقق في عمله، حسب تقديري وتجربتي، في استمتاع وتعلم وارتياح كبير. فلقد اتفق أن كنت مُنسقاً لعدد من المؤتمرات والندوات الفكرية، وأحياناً عضواً في اللجانِ العلمية أو لجان التحرير، وكان محمدٌ مشاركاً في جلها، ومن بين عشرات الأوراق العلمية، فإنَّ الورقة التي يكاد المحرر لا يحتاج أن يدخل يده فيها، سواء من حيث اللغة أو المنهج أو المعالجة أو المصادر والمراجع، وهو يقرأها بمتعةٍ وارتياحٍ كبيرين، تكون هي ورقة محمد جلال أحمد هاشم.
على الرغم من أن مشروع المؤلف لم يحظَ بالاهتمام اللازم في الماضي، ولم يجد العناية التي يستحقها من قبل الأكاديميِّين والمشتغلين بشؤون الثقافة والفكر والسياسة في السودان، إلا أن الاهتمام به قد زاد الآن، ويقيني بأنه سيزيد، وما هذا الكتاب إلا دليل على ذلك. وفي تقديري، بالإضافة إلى نمو الوعي والتحرر، هناك عوامل عديدة ستجعل من مشروع المؤلف موضعاً للاهتمام في السودان، منها أولاً: تقاطع هذا المشروع مع رؤى قادة ثورات الكفاح المسلح، ولقاؤه مع تلك الرؤى في منتصف الطريق، كما سيرد الحديث لذلك لاحقاً. ثانياً: زاد الاهتمام بالمشروع بعد اندلاع ثورة ديسمبر (ديسمبر 2018 - أبريل 2019) المجيدة، فقد مثَّلت ثورة ديسمبر، على الرغم من محاولات اختطافها، خطوةً نحو الثورة الكبرى لإحداث التغيير الشامل والجذري. الأمر الثالث: ارتفاع صوت بعض المثقفين النبلاء من زملاء المؤلف واعترافهم بفضله وإسهاماته، فعلى سبيل المثال، لا الحصر، كتب سامي صلاح محمد (في موقع سودانير أونلاين بتاريخ 11 يوليو 2007)، قائلاً: "محمد جلال أحمد هاشم رجل قامة بحجم وطن، بل رجل وطن ما زال في معتقلات النظام إثر ما حدث في كجبار". وأضاف سامي، قائلاً: "هذا الرجل أستاذي وأستاذ جميع الأجيال من الذين ينادون بفكرة الوطن المفتوح على التعدُّدية والاختلاف والتنوع، أول من رفض فكرة الدولة الآيديولوجية في بواكير الثمانينات عندما كان طالباً بجامعة الخرطوم، وصاغ في عام 1986م منهج التحليل الثقافي، وتحدث عن الصراع الثقافي العرقي وآيديولوجيا الخطاب الإسلاموعروبي و تكتيكاته الخادعة و المدمرة". وكتب زميل دراسته بالمرحلة الجامعية فتحي الصديق (في بوست سامي صلاح)، قائلاً: "الأستاذ الدكتور محمد جلال أحمد هاشم رجل بقامة الوطن عرفته حين تزاملنا سويًّا بكلية التربية ــــ جامعة الخرطوم في منتصف الثمانينيات من القرن الماضي .. مناضلاً من أجل إرساء دعائم الحريةِ وتثبيت أركانها". وكتب أبوبكر سيد أحمد (في بوست سامي صلاح) في حق محمد جلال هاشم، وعن انشغاله السودان، قائلاً: "محمد يصغرني عمراً بكثير ولكنه صديقي .. همه ليس حصرا على منطقة النوبة، إنه يحمل الهم السوداني معه أينما ذهب. يكتب عنه ويحاضر ويبحث فيه .. لا وقت له لغير ذلك". وشهد كذلك الصادق إسماعيل (في بوست سامي صلاح)، قائلاً:
"فتح لي محمد جلال الكثير من أبواب المعرفة، وتعلمت منه الكثير من شؤون الحياة اليومية، وكان يتحدث معي في أعقد القضايا الفلسفية … ولمحمد جلال مقدرة غير عادية في القراءة، فهو يقرأ أكثر من عشر كتبٍ في نفس اللحظة، ويستطيع أن يقدم لك تلخيصاً مُذهلاً عن هذه الكتب. ما زلت أدين بفضل كبير لأستاذى محمد جلال على تعريفى على العديد من الكتبِ والكتَّاب الرائعين؛ القائمة تطول ولكن أبرز الأسماء (شيخ أنتاديوب، كازنتزاكى، رسول حمزاتوف، سمير أمين).
ومن بين العوامل التي زادت وستزيد من الاهتمام بمشروع المؤلف، وهو الأمر الرابع: ظهور المثقفين الجدد المتحررين من التيارات السياسية والمنعتِقين من إرث الماضي، فقد أعلنوا عن تقديرهم للمؤلف واحتفائهم بإنجازاته. فقد كتب الدكتور قصي همرور، في صفحته على الفيسبوك (8 أبريل 2020)، قائلاً: "محمد جلال هاشم أحد أهم الأصوات والأقلام في المشهد السوداني العام منذ ثمانينات القرن المنصرم وحتى اليوم؛ ذلك لأنه أحد الأصوات الأساسية، الأصيلة، للحركة المستقلة السودانية؛ والحركة المستقلة أحد أهم تجليات الفكر والعمل السياسي السُّوداني الحديث". وعن الجدل حول محمد جلال هاشم، أوضح قصي، قائلاً: "ما يلقاه محمد من استقبال مثير للجدل إنما يشير عموماً لفاعليته، فأولئك الذين لا يثيرون الجدل يعني أمرهم أن أحجارهم لا تُحدِث صوتاً أو أثراً ذا بال حين تُلقى في بركة العمل العام في السودان". وعن كتابات محمد جلال هاشم، كتب قُصَي ــــ بنبلٍ وإنصافٍ ــــ قائلاً:
"من يقرأ كتابات محمد، وأوراقه العلمية وتحليلاته المتعمقة في قراءة التراث السوداني ــــ قراءة موسوعية موثقة ــــ لا يمكن أن ينظر للأمور بعد ذلك كما لو أنه لم يقرأ لمحمد جلال من قبل؛ سواء اتفق أم اختلف معه. أنا شخصيَّاً لم أعد أنظر للأمور في السودان كما كنت أنظر لها قبل قراءتي لمحمد جلال والتي بدأت منذ حوالي عشرة سنوات".
وخلص قُصَي، قائلاً: "الذين يتجاوزون محمد جلال هاشم، ولا يستأنسون برأيه ــــ سواءً اختلفوا أم اتفقوا معه في النهاية ــــ يخسرون كثيراً".
كما كتب فاروق عثمان في صفحته على الفيسبوك (14 أبريل 2020)، قائلاً: "أستاذنا وصديقنا د. محمد جلال هاشم ظل ولأكثر من أربعين عاماً يقف كالطَّود الأشم في سوح الفكر والمعرفة والتنوير، منذ أن كان طالباً يافعاً في كلية التربية جامعة الخرطوم … باحثاً في مجالات الهوية والحضارات واللغات السودانية القديمة ومنظراً لطبيعة الصراع في السودان من خلال منهج سودانوي خالصٍ ومُتفردٍ". وعن الهجوم الذي واجهه محمد جلال هاشم، كتب فاروق عثمان، قائلاً:
"إن الهجمةَ الشرسةَ والمنظَّمةَ والمتلاحقةَ التي يشنها سَدنةُ مشروع السودان القديم بكل تفرعاته وتمفصلاته، ورأس رمحهم من الإسلاموعروبيين القُدامي واللاعبين الجدد، يدلل على أن الرجل يسير في طريقه القويم نحو دك معاقل السودان القديم وإزالة آثاره، وبناء سودان جديد ديموقراطي علماني فدرالي على أنقاضِه، بفكره وقلمه، قبل السيف والبندقية".
يحضرني مع قول فاروق عثمان هذا، ما كتبه الأستاذ جمال محمد أحمد (1915 - 1986)، في مجلة كلية غردون، في ديسمبر 1935، وهو أوانئذ طالب بكلية غردون (جامعة الخرطوم حالياً). كتب جمال، قائلاً: "وويلٌ لأمة أوقفت نشاطها على حرب الأشخاص لا على حرب أعمالهم" . والحق أن أعمال محمد جلال تستحق منا الاحترام والاحتفاء، غير أن الحرب على الأشخاص، حجبت أعماله عن القراءة والتحليل، ولكنه حجاب إلى حين. فالحرب على الأشخاص، والعداء للمبادرات الخلاقة، والمنافسة غير الشريفة بين المثقفين، وسعي العاجزون عن العمل والكمال بالنيل من الاخرين، أمر موروث في السودان منذ طلائع المتعلمين، ويرجع في بعض صوره إلى المعرفة الاستعمارية. فنحن كما يقول محمود محمد طه (1974: 12) حتى الآن مستقلون سياسياً، مستعمرون فكرياً، فقد أخرجنا المستعمر من أرضنا، ولكن الاستعمار لا يزال في عقولنا. كما أشار إلى أن الحركة الوطنية في ظل الصراع والمنافسة كانت "لا تجد فرصة للدرس والتفكير والنضج، بل لا تجد فرصة حتى لإشاعة روح الزمالة والثقة المتبادلة والشعور بوحدة المصير". وهنا لابد من استدعاء اعتراف جيمس روبرتسون، آخر سكرتير إداري في السودان. فقد اعترف روبرتسون بأنهم كحكام شجعوا على التنافس المحموم بين الطائفتين الدينيتين وزعيميهما، وهي سياسة لا تزال آثارها السلبية باقية على السياسة السودانية. وبالفعل فإن الكثير من الصراعات والسياسات مثل سياسة التطهير والتمكين تجد تفسيرها في سياق السياسة الاستعمارية. ولهذا فإننا في حاجة لاستكمال الاستقلال بتحرير العقول والفكر والخيال.
والحاجة لتحرير العقول والخيال يتصل أيضاً بأمر آخر، وهو احتفاء السودانيين بالمفكريين والكتاب من الخارج، مع الإهمال للمفكريين المحليين. فعلى سبيل المثال، احتفى الكثير من السودانيين بما كتبه الناشط الامازيغي أحمد عصيد، بعنوان: "الأمم المستعربة أخطر على أفريقيا من العرب أنفسهم"، وحق لهم أن يحتفوا بذلك، كونها كتابة لامست وجدانهم، ولكن الإشارة هنا لا تتصل بالناشط أحمد عصيد، له منا التحية والاحترام، ولا تتصل برأينا فيما كتبه، وهو موضع تقدير عندنا، وإنما تأتي الإشارة إلى أن ما كتبه أحمد عصيد هو عين ما ظل يردده محمد جلال هاشم على مدى أربعين عاماً.. وعندما تبادلت الرأي مع محمد جلال هاشم حول احتفاء الكثير من السودانيين بما كتبه أحمد عصيد، علَّق محمد جلال هاشم، قائلاً: "هذا ما ظللت أقوله على مدى 40 عاما دون أي احتفاء. هذا مرده عندي هو مركب النقص لدى قطاعات عريضة من السودانيين فأجمل الناس هم الذين في الخارج، وأجمل الكلام ما يقوله الذين خارجنا.. إلخ". ثم سألت محمد جلال هاشم عن أسباب ذلك، فأجاب، قائلاً:
"الغالبية الكاسحة من أقرب الأقربين لي من الأصدقاء، فكرياً وسياسياً واجتماعياً، بما في ذلك أسرياً وعشائرياً، ليس فقط لا يقرأون لي، بل يتحاشون قراءة ما أكتب. وفي ظني أن مرد هذا لأنهم، أولاً، ينتمون للأيديولوجيا الإسلاموعروبية، وثانياً لخشيتهم من أن تهتز مواقفهم الأيديولوجية إذا ما ألموا بأفكاري. ومع هذا لم تعز أغلبهم الجرأة في الكذب والادعاء في وجهي بأنهم قد قرأوا: مثلا، كتابي الفلاني مرتين وليس مرة واحدة فحسب. يظنون أنهم يخدعونني ويخدعون النّاس بهذا، بينما لا يخدعون إلا أنفسهم".
هذا أمر مؤسف، أن نترك ما نريده، وهو بين أيدينا، ونبحث عنه عند الآخرين. وفي تقديري أن الاحتفاء بالخارج وعدم إعطاء الاعتبار للمفكرين في الداخل، أمر يتطلب منا عمل كبير من أجل التحرير. فالأمر بالطبع يعود لعوامل عديدة، ولكن من بين تلك العوامل، وأهمها، في تقديري، أسطورة الغريب الحكيم أو الوافد، وهي أسطورة حاضرة في تاريخ السودان. فالغريب هو الذي يأتي معه العلم والمعرفة، وهو الذي ينظم حياة الناس، وهو الذي أسس الممالك. أذكر أنني في مرة سألت الطيب صالح في محاضرة كان قد قدمها في الدوحة عام 1996، وقلت له: للغريب حضور كبير في أعمالك، كما أبطال رواياتك غرباء، هل لهذا الأمر علاقة بالغريب الحكيم أو الغريب الواحد الذي تحدثنا كتب التاريخ عنه وعن دوره في تطور السودان الفكري والسياسي، خاصة وأنه هو الذي أسس الممالك الإسلامية.. وقد أشار بعض النقاد لذلك، ومنهم على سبيل المثال، لا الحصر، عبد الرحمن الخانجي، في دراسته التي صدرت بعنوان: قراءة جديدة في روايات الطيب صالح. فأجاب الطيب صالح: نعم أبطالي هم غرباء وافدون وحكماء، وقد أخذتهم من تاريخ السودان ومن المواقع التي أشرت له ا.. فالاحتفاء بالغريب أمر له جذور في تاريخ السودان، مما يحتم علينا العمل من أجل تحرير الخيال والتصورات.
إن الاحتفاء بمشروع محمد جلال أحمد هاشم، والذي بدأ متأخراً من بعض الشرفاء والنبلاء، ولكنه الآن في توسع مستمر، يُعبر عن الاعتراف بصحة ما ظل يطرحه محمد جلال بشأن العديد من القضايا منذ ثمانيات القرن الماضي. والحق أننا عندما نتفحص ما كتبه محمد جلال خلال العقود الأربعة الماضية، مقروناً بما آل إليه حال السودان، من حالة الثورية الشاملة والرغبة القوية في التغيير والتصورات الجديدة لسودان المستقبل، فإننا ندرك بأن محمد جلال أحمد هاشم هو ذلك المفكر الذي عناه معاوية محمد نور (1909 - 1941). فقد قدم معاوية نور تعريفاً للمفكر في العام 1929، وهو يستعرض كتاب: فن التفكير The Art of Thinking الذي وضعه باللغة الإنكليزية عام 1929 الفيلسوف الفرنسي إرنست دمنت Ernest Dimnet (عاش ما بين 1866 إلى 1954)، عندما أجاب، ضمن استعراضه، عن السؤال الآتي: ما هو المفكر؟ فقد كتب معاوية، قائلاً: المفكر هو الذي "يرى حيثما لا يرى الآخرون، والذي لا تقع عينه على خلاف ما تقع عليه الأعين، غير أنه يرى فيها ما لا يراه بقية الناظرين" . وفي تقديري أننا في السودان إن أردنا تحسس مسار حركة التنوير والوعي بالذاتية السودانية وقياس مستواها ودراسة توجهاتها نحو سودان المستقبل فعلينا قراءة كتابات محمد جلال أحمد هاشم والاستماع إلى أحاديثه. فقد تنبأ محمد جلال منذ عام 1983 مستخدماً منهج التحليل الثقافي، بأن الحرب في السودان، ليست هي حرب الجنوب ضد الشمال، بموجب التمفصل الخطي، وإنما هي حرب الهامش ضد المركز بموجب التمفصل الدائري. وتنبأ بانتشارها وبفشلها كذلك في "تحقيق النصر المنشود وتفكيك بنية المركز طالما ظلت الحلقة مفتوحة لم تستغلق بعد، أي طالما استمر تقاعس الوسط والشمال النيلي عن اللحاق بركب قوى الهامش وهي الحالة الراهنة التي نعيشها جميعاً اليوم" (ص 115 - 116). وهنا يقفز قول الفيلسوف الماركسي الإيطالي أنطونيو غرامشي (1891 - 1937): "لا تنجح الثورة في تحقيق أهدافها وتثبيت وجودها عبر ضرب رأس الدولة، إنما يتوجب على الثوار تفكيك المجتمع السياسي الذي هو جوهر الهيمنة والقائد الفعلي" (أماني السنوار، 2017). وهنا نلاحظ التوافق في النتيجة عند كل من محمد جلال وغرامشي، مع الاخلاف في المنهج المستخدم في التحليل. فالنصر المنشود عند محمد جلال، وبتوظيف منهج التحليل الثقافي، يكون بتفكيك بنية المركز، الذي هو محتكر السلطة والثروة، والمُؤمِّن لمصالحه بتسخير الثقافة والعرق والدين والجغرافيا، بينما يكون نجاح الثورة عند غرامشي بتفكيك المجتمع السياسي الذي هو جوهر الهيمنة والقائد الفعلي.
الدولة القديمة ومصير السكان الأصليين ومشروع محمد جلال هاشم
كان محمد جلال أحمد هاشم من الذين أعلنوا منذ ثمانينات القرن الماضي، المواجهة لإرث الدولة السودانية، الدولة القديمة منذ الاستقلال عام 1956، ناقداً برؤية ثاقبة ومنهج علمي، وباستمرار، لإرثها ومسارها، وعاملاً من أجل التأسيس للبديل. والحق أننا في السودان، كمجموعات وثقافات، لا نزال في مرحلة تعارف، وليس هناك سودان متفق عليه، وإنما جميعنا يبحث عن السودان. والبحث عن السودان لا يكون بالتمني والأحلام، وإنما يكون بالعمل، والعمل ثم العمل، على النحو الذي يقوم به محمد جلال هاشم. فالمسار الذي اخطته القادة والسياسيون والأحزاب السياسية السودانية، ولا يزال ماثلاً، يصادم تركيبة السودان الوجدانية، ويناقض مكوناته الثقافية، ويناطح إرثه الحضاري. بل مثَّل ذلك المسار حرباً مستمرة على التعدد الثقافي الذي ينعم به السودان. إذ لم ينتج عنه سوى اغتراب السودان عن ذاته وتعميق انبتاته عن نسبه الحضاري، فضلاً عن تعاليه على محيطه الأفريقي، وفوق كل ذلك أدى إلى استمرار التهميش والاقصاء والحرمان والاحتقار للسكان الأصليين ولثقافاتهم، بل استمرار قتلهم. وفي تقديري، أن المصير الذي كان ينتظر السكان الأصليين في السودان، في ظل مسار الدولة القديمة، دولة ما بعد الاستعمار، وتوجهاتها وسياستها وفكر قادتها وجل أحزابها، هو مصير السكان الأصليين في أستراليا (aborigines)، وكذلك في الولايات المتحدة وكندا، لولا أن هناك من فدى هذه الشعوب. وفي تقديري كان محمود محمد طه بمشروعه الفكري ومن خلال مواقفه هو الفادي. فالمفاضلة بين الناس عنده تكون بالعقل والأخلاق وليس بالعنصر أو العقيدة أو اللون أو الجنس. كما أعلن باكراً بأننا أمة أفريقية، وأن ‘السودان بلد أفريقي’ .. بل الحقيقة عمله كبلد أفريقي أعظم من عمله كبلد عربي". ودعا منذ خمسينات القرن الماضي إلى السير بالسودان وبكل وضوح في طريق الحكم الذاتي لجميع مناطق وأقاليم السودان، ذلك لأن "اختلاف هذه المناطق يجعل التشريع المركزي الموحد غير صالح لإدارتها". كما دعا إلى احترام اللغات المحلية و"عدم فرض اللغة العربية"، وإنما يجب تعليم أهل الأقاليم بلغات أمهاتهم، قائلاً: "الناس يعلموهم بألسنة أمهاتهم" (للمزيد، انظر عبدالله الفكي البشير، 2021). كما ظل رافضا للدستور الإسلامي، ووسمه بالمزيف، كما أن الشريعة الإسلامية التي ظلت الأحزاب السودانية تدعو لها، هي عنده لا تكفل حقوق المواطنين غير المسلمين، بل هي تستهدف الضعفاء وتهمش غير المسلم وتجعله مواطناً من الدرجة الثانية. وظل مناهضاً لها بصلابة وشدة مراس، حتى يوم تجسيده لمعارفه على منصة الإعدام يوم الجمعة 18 يناير عام 1985. وقد ظلت أفكار محمود محمد طه حاضرة عند المحطات الوطنية الكبرى، محطات بناء السلام، مثل اتفاقية 1972 واتفاقية 2005، كما أخبرنا بذلك منصور خالد (1931 - 2020)، وهو أحد المشاركين فيها. كتب منصور، قائلاً: "إن ما طرحه الأستاذ محمود في كتابه: أسس دستور السودان لقيام حكومة جمهورية فيدرالية ديموقراطية اشتراكية، الذي نُشر عام 1955، واستهجنه الناس آنذاك، قامت على جوهره اتفاقية أديس أبابا عام 1972، ولم تخرج اتفاقية السلام الشامل [2005] من روحه، وقد جاءت بعد نصف قرن من الزمان" (المرجع السّابق). والدارس لمشروع محمود محمد طه يجد أن السياسيين والمفكرين في السودان وخارجه قد تبنوا أفكاره وسربوها ضمن أعمالهم ونسبوها إليهم دون الاعتراف بفضله أو الإشارة إليه. وقد كان محمد جلال، وهو من الذين جمعتهم بمحمود محمد طه جلسة ذات مضامين ودلالات عظيمة تتعلّق بمشروعه وبمسيرته الفكرية وقد عبر محمد جلال عن ذلك باحترام وتقدير كبيرين في عديد المرات. كان محمد جلال من أوائل الذين أشاروا لذلك التعاطي غير الأمين وغير الشريف من قبل السياسيين والمفكرين ووسمه "بالقرصنة الفكرية". فقد كتب محمد جلال هاشم (2011)، قائلاً: "تمّ تبنّي أفكاره [أي محمود محمد طه] من قبل المفكّرين المسلمين على امتداد العالم كما من قبل المفكّرين السّودانيّين بوجهٍ خاصّ دونما أيّ اعترافٍ منهم جميعاً بهذا. ويكمن السّخف في هذا أنّ أغلب الذين سلخوا أعمارهم في محاربة أفكاره كانوا أيضاً ضمن من مارسوا هذه القرصنة الفكريّة". وقد نشرت المقالة باللغة الإنكليزية، وتمّت ترجمة النص أعلاه إلى اللغة العربية بواسطة كاتبه محمد جلال هاشم، بناء على طلب كاتب هذا التقديم.
كذلك كان الحزب الشيوعي السوداني، هو الحزب الوحيد الذي ظل يفدى السكان الأصليين. فقد كان في أطروحاته الفكرية ورؤيته الوطنية، عابراً للثقافات والأديان والإثنيات والأقاليم، وهو الذي بذر بذرة الثورة من أجل الحقوق ورفع المظالم، منذ مؤتمر البجة/ البجة (11 - 13 أكتوبر 1958). فقد ضم الحزب أعضاء من مختلف أنحاء السودان، وقدم مناضلين كباراً وكثراً، منهم، على سبيل المثال، لا الحصر، المناضل جوزيف قرنق (1926 - 1971) المولود في قرية بالقرب من مدينة واو بجنوب السودان، والذي أعدم شهيداً في سبيل الوطن والمبادئ والفكر والإنسانية. وقد رثاه محمد الواثق (1936 - 2014) أستاذ اللغة العربية وآدابها بجامعة الخرطوم، وهو من أوائل المبدعين الذين رثوا مناضلاً جنوبياً، إن لم يكن أولهم، قال الواثق في رثائه لجوزيف قرنق:
صديقي الُمثابر جوزيف قرنقْ
فيا ربِ هلْ
على روحهِ أقرأُ الفاتحة
فقد عدِمَ القبرَ والنائحة
وأُلحِدَ في التُربِ كيفَ اتفقْ
***
وكان إذا جاشَ مِواره
تدافعه روحه الثائرة
وصادمت الكونَ أفكاره
وكم أنبت الكونُ من زهرةٍ ناضِرة
فكنتُ إذا تمادتْ به الفكرةُ الجانحة
أشيح إلى مكة القرية الصالحة
أعوذ نفسي بربِ الفلقْ
على أن جوزيف قرنقْ
كما شهدت دمعتي السافحة
جميل المحيا جميل الخُلُقْ
فياربِ هلْ على روحهِ اقرأ الفاتحة
فقد عَدِمَ القبرَ والنائحة
وأُلحِدَ في التربِ كيف اتفقْ
ولن أبرح هذا المحور والذي سعينا فيه لتقديم طرفاً من إنصافنا للحزب الشيوعي السوداني، إلا بعد استدعاء إنصاف محمد جلال هاشم لهذ الحزب. فقد نظر محمد جلال (في مقاله المسوم بعنوان: "الحزب الشّيوعي السّوداني.. الله لا جاب يوم شكرك!"، 2009)، إلى الحزب الشيوعي السوداني باعتباره أحد روافد الحداثة بجانب ثورة اللواء الأبيض ومحمود محمد طه. وقال إن شهيد الوطنيّة الحقّة عبد الخالق محجوب، قاد حزباً إليه يعود الفضل في تدشين الحداثة وفق رؤية حداثويّة ووطنيّة راشدة.. وفصَّل محمد جلال هاشم في إنصافه وأشار لمشروع الحزب الفكري الإنساني الضخم، فكتب، قائلآً: "من المؤكّد أنّ الحزب الشّيوعي السّوداني يقف كحالة ماثلة لتجاوز الزّمن سياسيّاً لمشروع فكري وإنساني ضخم بحجم الماركسيّة. هذا من جانب، إلاّ أنّه، من جانب آخر، بوصفه الحزب الرّائد في تدشين الحداثة، والأضخم إنجازا في مجالها، يقف كحالة نكوصيّة ورجعيّة في بنية الثّقافة السّودانيّة". فالنّكوص هنا هو الموجة المتصاعدة لاستهداف هذا الحوب، بدلاً من الاعتراف بفضله. ولهذا نراه قد تناول ما تعرض له الحزب من استهداف واتهامات من قبل بينة الثقافة السودانية، فكتب، قائلاً: "فقد ظلّ هذا الحزب يتعرّض للاستهداف طيلة عمره السّنِي الموشّى بلون الدّماء ورائحة الموت، تتناوشه الاتّهامات وتلاحقه النّقمات بالطّعن في عقيدته وإنسانيّته. وقد صمد في وجه هذه العواصف كالطّود الأشمّ، إلاّ أنّ ليل الرّجعيّة، شأنه شأن كلّ الليالي المدلهمّة، قادر على إخفاء الجبال الشّوامخ. إنّ تشريع وجود مثل هذه الحركات تشريعاً ثقافيّاً واجتماعيّاً كاملاً سيظلّ أحد أهمّ المؤشّرات في تنامي الحقوق الإنسانيّة في المجتمعات التّقليديّة التي تسعى لاستشراف الحداثة". لاشك أن الحزب الشيوعي السوداني قام بدور عظيم في سبيل السودان والإنسان، وكان له دور أعظم في فداء السكان الأصليين في السودان". ولعلّ من المهمّ أنّ نُشير هنا إلى نصيحة محمّد جلال هاشم للحزب الشّيوعي السّوداني في خطابه المشار إليه بخصوص ضرورة تلافي الفجوة الفكريّة البرامجيّة المتعلّقة بالاقتصاد. فقد نصح محمّد جلال هاشم الحزب الشّيوعي بضرورة إعادة النّظر في الاشتراكيّة كحزمة سياسيّة برامجيّة تقوم على نظام الحزب الواحد، حسبما أُثر عن تجربة المعسكر الشّرقي. وجاءت نصيحة محمّد جلال هاشم للحزب بأن يتبنّى نظام الاقتصاد التّعاوني باعتباره الوصفة البرامجيّة للاشتراكيّة. واليوم، تحمل الأنباء أنّ الحزب الشّيوعي السّوداني قد تبنّى فعلاً نمط الاقتصاد التّعاوني. وهذا يعكس لنا روحاً راقية في مجال التّكامل الفكري المأمول فيه أن يتطوّر إلى تكامل سياسي في المستقبل وذلك في سبيل بناء الكتلة التّاريخيّة التي من شأنها أن تحقّق مشروع السّودان الجديد.
أيضاً هناك بعض المثقفين من طلائع المتعلمين الذين فدوا السكان الأصليين، يصعب رصدهم، إلى جانب بعض المثقفين والسياسيين والمناضلين منهم، على سبيل المثال، لا الحصر، الدكتور منصور خالد، والدكتور الواثق كمير، والدكتور محمد يوسف أحمد مصطفى، والأستاذ ياسر عرمان، والدكتور محمد جلال أحمد هاشم الذي تميز بأنه صاحب مشروع فكري مبوب وموثق، ولا يزال يفصل فيه، فضلاً عن يقظة السكان الأصليين (المهمشين) أنفسهم واندلاع ثورات الكفاح المسلح. وهنا تأتي أسماء كثيرة من المفكرين والقادة والمناضلين، منهم على سبيل المثال، لا الحصر، الدكتور جون قرنق (1945 - 2005)، القائد يوسف كوة مكي (1945 - 2001)، والقائد عبدالعزيز آدم الحلو، والقائد مالك عقار، القائد مني أركو مناوي، والقائد عبدالواحد محمد نور، والدكتور أبكر آدم إسماعيل. بالطبع يصعب رصد جميع الأسماء في هذه المساحة الضيقة.
وعلى الرغم من استحالة تحقيق سيناريو مصير السكان الأصليين (كما هو الحال في أستراليا وكندا والولايات المتحدة)، في السودان، بعد الحالة الثورية التي انتظمت البلاد، والرغبة القوية في التغيير، إلا أن بقايا ذلك السيناريو، حيث العنصرية والتعالي الثقافي والاحتقار والتهميش للمجموعات والثقافات، لا تزال حية في العقول والتصورات والأخيلة والمخيلة، ولا تزال ماثلة في هياكل الدولة القديمة، وفي سياسات وخطاب حكوماتها منذ الاستقلال وحتى يوم الناس هذا. وعلينا، إن أردنا التعايش وتحقيق السلام والبناء الجماعي للسودان والمستقبل، في ظل وحدة المصير المشترك التي بدأت تتجلى، بأكثر من أي وقت مضى، في أفق الإنسانية، علينا الاعتراف بإرث الدولة السودانية اللا إنساني، وعلينا كذلك مواجهة التاريخ والراهن بشجاعة وصدق ووعي. فالتاريخ ليس هو دراسة للماضي، فحسب، وإنما هو الآلية والحادي لإحداث التغيير. وواجبنا أن نتعاون جميعاً من أجل الأفضل لشعوب السودان وذلك بتصحيح مسار الدولة السودانية، وباستدعاء المُهمش والمقموع والمكبوت والمُبعد والمُغيب، ومن ثم العمل على إحداث التغيير الشامل والجذري، وهذا ما سيسعفنا فيه مشروع محمد جلال أحمد هاشم، بما اشتمل عليه من تنقيب وتشخيص وتحليل وحلول ورؤى مستقبلية.
محمد جلال هاشم شاعراً
كلما توغل الدارس في مشروع محمد جلال هاشم وسيرته الفكرية، يزداد دهشة أمام هذه الطاقة الإبداعية المتنوعة، والقادرة على التعبير عن نفسها عبر الانتاج المتقن والمستمر. لعل الكثير من الناس، كما هو حالي، لا يعرف أن محمد جلال شاعر مطبوع، كتب الشعر منذ منتصف سبعينات القرن العشرين وهو دون العشرين، وله إنتاج شعري نال إعجاب الكبار من المتخصصين والشعراء في السودان غير أنه صام وتخلى عن أن يَشْعُرَ. وما سائر الناس يَشْعُرُ! والمعنى مأخوذ من سيبويه صاحب: لسان العرب، حينما أورد في حديثه عن معنى يَشْعُرُ، قائلاً:
شَعَرْتُ لكم لَمَّا تَبَيَّنْتُ فَضْلَكُمْ *** على غَيْرِكُمْ، ما سائِرُ النَّاسِ يَشْعُرُ
وقد اكتشفت هذا الإنتاج الشعري لمحمد جلال مؤخراً بعد أن فقد وظيفته، فذهب للعمل بالمشاريع الزراعية بمنطقة القضارف بشرق السودان، مستدعياً في هذا دربته في حقول الزراعة أيام طفولته بمسقط رأسه جزيرة صاي بشمال السودان. هاتفته وهو في تلك الفيافي، فكتب لي، قائلاً: “أبعث لك بالتحية وأنا الآن في القضارف (المشاريع الزراعية على بعد 150 كلم من القضارف) حيث أتلمس طريقي في عالم الزراعة بعد أن فارقتها منذ طفولتي الباكرة وأنا وقتها بجزيرة صاي. أفعل هذا بعد أن انسلخ العمر كله ما بين ديكتاتوريتين وبعد أن قررت حكومة الثورة ألا يعود للخدمة من تجاوز سن المعاش. كأنما يعاقبوننا بما اقترفت الأنظمة الديكتاتورية في حقنا، فتصور يا صديقي”! ثم بعد حديث طويل، كان بعضه ممزوجاً بالدموع، بعث لي بطرف من قصيدة له كتبها في ثمانينات القرن الماضي، وكان الشاعر والأستاذ محمد الواثق (1936 - 2014) معجباً بها ودرج على مطالبتها بقراءتها متى ما اجتمعا في ليالي الشّعر بدار جامعة الخرطوم منتصف الثّمانينات إلى بداية التّسعينات. أدناه سوف نستعرض بعض قصائده الجياد، ذلك كيما نلفت النّظر إلى جانب إبداعي ظلّ مخفيّاً وغير معروف من قبل الكثيرين.
يقول محمد جلال هاشم في مطلع قصيدة "رأيتُك":
رأيتُك في مدارات السّماءْ
رأيتُك كيفما شاء اللقاءْ
لقاءً كان في حكم القضاء
وجئنا في مدارات السّماء
وفي ليلٍ مطالعُه البهاء
رأيتُك نجمةً تهب الضّياء
وترنو ثمّ يغمرُها الحياء
وتخفُتُ ثمّ تبدو في خفاء
فتقرأُ في محيّاها الذّكاء
جمالُ الرّوح والدّنيا سِواء
وطُهرٌ من طُهور الأنبياء
وجسمٌ كالأثير بلا دماء
سما باللطفِ فالتحف الضّياء
ثمّ ينطلق الشّاعرُ في سديم الفضاء، متجوّلاً بين النّجوم وكواكبها وأقمارها، ليمزج صور رحلته هذه بواقعيّة سحريّة نتأرجح معها ما بين الأرض والسّماء:
وأسرى البدرُ ليلاً ثمّ جاء
ليشهدَ كيف يأتلقُ المساء
فكان له وكان لنا اللقاء
فأسرينا وطاب لنا الحِداء
هنالك في عوالمَ من صفاء
أنِخْنا بل جلسنا القُرفُصاء
تسامرنا وثالُثُنا الضّياء
ونجمتُنا هنالك في السّماء
تُحَلِّقُ في سرابيل البهاء
تُصَعِّدُ في مسار االكبرياء
زكت فلها الصّدارةُ لا ذُكاءْ
ثمّ ينزل الشّاعر من سديم الفضاء ليغوص في عمق بحور الحزن والشّقاء، هذه البحور التي لا تعرف ساحلاً كما لا تعرف لها قاعاً: فهو يريد أن يواسي من يخاطبها بهذه القصيدة التي تشعُّ بأنوار الفضاء ومنارات النّفس وإضاءاتها:
لأنّك دمعةٌ تبكي الشّقاء
فتستبكي قلوبَ الأشقياء
وتشدو في ترانيم المساء
فيشدو الكونُ ثمّةَ بالغناء
فتهتزُّ الكواكبُ في الفضاء
وتأتلفُ المحبّةُ والعداء
ويأتي الدّفءُ حتّى في الشّتاء
ويمحو العيدُ ذكرى كرْبِلاء
فينسى النّاسُ ما معنى الشّقاء
ويبسُمُ كلُّ من نسيَ الهناء
لأنّك قُبلةٌ تحكي الوفاء
وتُطبع في جبين الأوفياء
ومما يؤكد أنه كان شاعراً مكتملاً، منذ بداياته، فقد شارك في العام 1980 في منافسة الشعر بكلية التربية، جامعة الخرطوم، حيث يدرس، بثلاث قصائد، ففازت إحدى القصائد الثلاث بالجائزة الأولى. وكان من المفترض أن تكون هناك منافسات بين كليات جامعة، وكان المقيّم للشعر هو البروفيسور عبد الله الطيب (1921 - 2003) وهو وقتها في إحدى إجازاته. طلب عبدالله الطيب القصائد الثلاث التي شارك بها محمد جلال هاشم، فحكم بفوز قصيدة أخرى، وهي “غربة الروح”، بخلاف القصيدة التي اختارتها لجنة التحكيم في كلية التربية، وحكم مسبقاً بأن هذه القصيدة التي اختارها سوف تفوز بالجائزة الأولى، واصفا إياها بأنها سوف تحتل مكانها ضمن جياد الشعر العربي في مجال الحكم والتأمل الصوفي. كتب محمد جلال هاشم القصيدة في 3 فبراير 1979 ، وهي قصيدة، في تقديري، تنبأت بحال كاتبها حتى قبل اندلاع ثورة ديسمبر المجيدة، وأرى الآن زوال الغربة قد لاح في الأفق. تقع القصيدة في (31) بيتاً، يقول محمد جلال هاشم في مطلعها:
غريبٌ أنا في عالمي متشرّدُ ** وحيــدٌ أنا في معبـدي أتـعبّـــدُ
ولا من حبيبٍ أصطفي فأبُثُّه ** لواعجَ حبٍّ في الفؤاد تُـــعـربــدُ
فؤادي به الأشجانُ تخلقُ ثورةً ** وتجأرُ بالشّكوى وكم تتــمـــرّدُ
فأسْأَلُه: "أين الحبيبُ؟" يُجيبُني ** بآهاتـه وهْـــو الخَلِيُّ المُشــرّدُ
ويبكي عهوداً لم يعِشْها ولم تكن ** ويسعى لآفاقٍ بها الرّوحُ ترقُدُ
رحابُ لحِبٍّ في الزّمان مكانُها ** وحُــبٌّ مقيــمٌ بالأسى يتـجـدّد
معانٍ تجلّت في رؤى القلبِ لحظةً ** تؤجّـجُ مـن نار الغرام وتُوقدُ
هو الحبُّ كُنهٌ للحياةِ ولُبِّها ** وإن عُـدِمت دومـاً ربـابُ ومهْــددُ
يختم الشّاعر بحكم فلسفي عميق يقرّر فيه بأنّ الحبّ هو جوهر الحياة حتّى لو لم تكن صورةُ المحبوب أو اسمه معروفة ومُدركة بالوعي المباشر. وهذا لعمري سبر صوفي عميق لجوهر هذه الحياة. ثمّ يستعرض لنا الشّاعر جانباً من الصّراع النّفسي الذي يمرّ به الإنسان ما بين الرّوح والجسد. ولنلاحظ أنّ الشّاعر وقتها لم يكن قد بلغ الثانية والعشرين من عمره:
حياةٌ تناديني لكيـــــما أعيشُــــــــها ** بحـسّي وجسمي إنّـما أتـردّدُ
وأخرى وراءَ الصّحوِ تبدو ظلالُها ** فتسعى إليها الرّوحُ ترقى وتصعُدُ
معذّبَةٌ روحي تضلُّ سبيلَها ** ويدفعُها الشّـوقُ المُريـدُ فتبعُـــدُ
من العالم المرئِيِّ في عَتْمةِ الدّجى ** يظلُّ يُناديها الحبيبُ فتسجُد
وتعجزُ أنْ تسعى إليه بنفْسِها ** فتنــتـكسُ الأحلامُ فيها وتهــجُــدُ
هذه أبيات تشعُّ بالشّفافيّة النّاجمة عن روحٍ شفّها ألمُ الشّوق لحبيبها في سفرٍ سوف يستمرّ طويلاً بقدر العغمر المكتوب للشّاعر، بل إلى ما هو أبعد من ذلك. وبرغم انتكاسة الأحلام، إلاّ أنّ قلب الشّاعر لا يزال عامراً بالأمل الذي يرمز إليه بإشراقة الصّباح:
غداً يُسفرُ الصّبحُ المكلّلُ بالنّدى ** وإلاّ فإنّـــي هـــا هنــا مُتــوجِّـدُ
سأرتقب الإسفارَ أنَّى زمانُه ** ومستشرفاً نحــــو الشّروق أُصعِّــدُ
فإنّي مضغتُ الحزنَ حتّى سئِمْتُه ** ولم يبقَ بي صبرٌ له أو تجلُّدُ
وقد كانت الأحزانُ عند اجترارِها ** تولِّدُ عزماً في الفؤاد فيصمُـد
فأصبحت الأحزانُ كأساً عتيقةً ** يُعاقــــرُها قلبي مراراً فيسعَـــدُ
لا غرو أن أوصى عبدالله الطّيّب بفوز هذه القصيدة في المنافسة الشعرية، ذلك بعد أن أوصت اللجنة المصغّرة بفوز قصيدة أخرى له بعنوان "الفراق" (مروي، 7 يناير 1980م) هي بدورها لا تقلُّ عن قصيدة "غربة الرّوح"؛ وعندي أنّ قصيدة "الفراق" من أعذب ما قرأتُ من شعر. ويقول في مطلعها:
عادني الطّيفُ الحبيبُ ** غير أنّي لا أُجيبُ
فهوانا قد تولّى ** وتناسته القلوبُ
والليالي قد عفته ** وأزالته الخطوبُ
وافترقنا والأماني ** ذكرياتٌ ونحيبُ
وحنايا الصّدرِ فينا ** قد خلا منها الوجيبُ
ثمّ تغلبُ الشّاعرَ نزعة قدريّة إزاء اشتعال نار الحبّوشبوبها ريثما تنطفئ. فهو يواسي نفسه بأنّ الحبّ من حيث ابتدائه وانتهائه أشبه ما يكون بدورة الأرض حول الشّمس ومجيء الصّباح ريثما ينتهي أجلُه ليأتي الليل وهكذا:
إنّما الحبُّ صباحٌ ** سوف يتلوه المغيبُ
فإذا ما الشّمسُ كادت ** أن يوافيها الغروبُ
فهناك الحبُّ يبكي ** ثمّ ترثيه القلوبُ
فالهوى إن كان ولّى ** إنّما الدُّنيا شَعوبُ
والأماني إن تبقّت ** فهي ما دامت تخيبُ
غير أنّي والهوى من ** هذه الدّنيا يغيبُ
سال دمعي لِهوانا ** والنّوى حُلْمٌ رهيبُ
ولكنّه برغم قدريّته هذه لا يزال مشدوداً لذلك الماضي البعيد، فهو يبكي ويستبكي النّاس في استذكار هذا الماضي. ولنا أن نتخيّل هذا الماضي البعيد لإنسان في مقتبل عمره. إذن فالمسألة ليست مجرّد تجربة عاطفيّة لنجلعا نارُها ثمّ انطفأت تاركةً أثاراً غائرة في المحبين؛ فالمسألة تتعلّق بجوهر الحياة، وهي نفس ما تعالجه قصيدة "غربة الرّوح". يقول الشّاعر:
في دجى الماضي بعيداً ** حيث ذكرانا تجوبُ
قد بذرنا الحبَّ نوراً ** وسنا البرقِ خَلوبُ
كم رعيناه ولكن ** آده الدّهرُ الغَضوبُ
واستحال الجمرُ برداً ** فهو ثلجٌ وضريبُ
ثمّ مات الحبُّ فينا ** ذلك اللُغزُ العجيبُ
وهنا مكمن ومبرّر هذه القدريّة! فكيفما توهّم المحبّ بإمكانيّة عودة الماضي، فإنّ الماضي لن يعود؛ وبالمثل، لن يجدي الهروب إلى الأمام للتّخلّص من آثار هذا الحبّ:
ترقصُ الأوهامُ وهناً ** وهوانا لا يُجيبُ
إنّه قد مات فينا ** واعترانا ما يُريبُ
وهربنا منه ظنّاً ** أن سيُجدينا الهروبُ
فيستسلم الشّاعر ويتوقّف عن مقاومة أمواج الحياة العاتية، ويدعها تأخذه حيث تُريد. هذا بينما هو لا يزال يتستذكر حبَّه الذي مضى وانقضت أيّامُه (حتّى لو لم تكن هناك حبيبة بعينها).
فوداعاً للأماني ** حيث ولّت لا تؤوبُ
ووداعاً للهوى قد ** جفّ مغناه الخصيبُ
وجرت ريحُ السّوافي ** وانمحى الرّوضُ القشيبُ
فبكى الغصنُ هوانا ** وبكى المجرَى اللعوبُ
ثمّ ناح البومُ ليلاً ** حيث غنّى العَندَليبُ
بعد أيّام الهوى فاليومَ تذروه الجَنوبُ
جنّةً جرداءَ تعوي ** في ثناياها الهبوبُ
هذا شعر يذوب رقّةً وحنانا، بجانب السّلاسة والقدرة الفائقة للتّعبير عن مكنونات النّفس ولواعجها بطريقة هي فعلاً ما تسمّى بأسلوب السّهل المتتنع.
ولمحمد جلال هاشم قصائد شعريه أخرى، كما علمت بأن له ديوان شعر مجاز في دار جامعة الخرطوم للنشر منذ أكثر من 35 عاما، ولكنه قرر حبسه. وهنا، أسمح لأنفسي، بأن أدعو محمد جلال هاشم بأن يفك الحبس عن هذا الديوان، وغيره من القصائد، كون الشعر تاريخ ومرآة وشاهد. وأرافع وأحاجج في دعوتي هذه، مستدعياً الشاعر الكبير محمد المهدي المجذوب (1918 - 1982)، والفيسلوف الفرنسي ريجيس دوبريه Debray Régis. فالمجذوب (1981) يرى بأن الشعر قاض وشاهد، فقد كتب، قائلاً:
وأكتبُ شِعراً ليْسَ للشعرِ غايةٌ ** سِوَى أنّهُ قَاضٍ عريقٌ وشَاهِدُ
كما أن دوبريه يرى بأن "الأوضاع التاريخية تُسلِّم نفسها بطريقة أفضل، من خلال عمل أدبي مهم" . ولهذا نرجو من محمد جلال هاشم أن ينشر أعماله الشعرية.
قدَّم المؤلفُ كل هذا الإنتاج وهو يقود معاركه وحيداً فسعى، كما أشار، إلى شرحِ وتمليك مفاصل احتجاج منهجه بالحُسنى للقطاعات العريضة من شعبنا، كما تبنى المواجهة واللا مساومة، فضلاً عن فضح تكتيكات الأيديولوجيا الإسلاموعروبية وكشفها. ولمَّا وصف البعض لغة المؤلف في بعض المعارك بأنها شديدة، نجده أوضح، قائلاً: "هي لغة شديدة بمقتضى شدَّة الحالة المراد علاجُها" (ص 186 - 187). وظل المؤلف يقود معاركه الفكرية والثقافية والسياسية بلا غطاء حزبي يحميه أو يدعمه، دخل الساحة فرداً، غير راكنٍ لتكتيك الاستعانة الحزبية أو خاضعاً للموازنات السياسية. فقد تجرع ــــ بعزة وشجاعة وكبرياء ــــ مرارة السجون والفصل التعسُّفي من الوظيفة، والحرب في معايشه، ولم يكن لديه سندٌ أو من يدعمه، سوى قناعاته وإيمانه بواجبه، فضلاً عن أسرته الصغيرة زوجته ورفيقة دربه الأستاذة هالة المغربي وأطفاله كمال وآنج وسَمَا، والقليل من الأصدقاء والصَّديقات والتلاميذ والتلميذات، والذين هم في ازدياد الآن. وقد تحملت أسرته الصغيرة العناء والأذى الجسيم، وتقاسمت معه قسوة الأعداءِ والأنظمة، وأعانته على الصبر والصمود والتحدي. وهنا أستميح القارئات والقراء عذراً بأن أحيِّي هذه الأسرة العظيمة على صبرها، وصمتِها، وصلابتها، وصمودها، وهي تراهن على رائدِها. ولأنَّ الرائد لا يكذِبُ أهلَه أقول لهم: إن رهانكم، في محله، لا ريب في ذلك، كما أن وقت الاحتفاء بأبيكم قد أزف، فقريباً سيكون الاعترافُ به وبإنتاجه، ليمثل نموذجاً إرشادياً يُحتذَى. فهو من الأعزاء الأحرار الذين قاموا بواجبهم تجاه الوطن وشعوبه خير قيام. وقريباً ستكون إنجازاته ومشروعه مصدراً لعزكم وفخركم.
محمّد جلال أحمد هاشم وإرهاصات الثّورةُ الشّعبيّة
لا يتجادل إثنان في أنّ محمّد جلال هاشم ظلّ مؤمناً بقدر الشّعب السّوداني المعقود بالثّورات الشّعبيّة وذلك منذ بداية ثمانينات القرن العشرين. فجميع كتاباتُه، وعلى رأسها كتابُه منهج التّحليل الثّقافي: القوميّة السّودانيّة وظاهر الثّورة في السّودان الذي ظهرت طبعتُه الأولى في عام 1986م إلى أن خرجت طبعتُه الثّامنة في عام 2018م (قبل شهرين من اندلاع ثورة ديسمبر المجيدة)، ظلّ يحلم ويتنبّأ بالثّورة. وله في هذا نبوءات جميعُها صدقت وأصدقتها الأيّام. من ذلك أنّه كتب في حلقات بصحيفة أجراس الحرّيّة الغرّاءعام 2009م مجموعة مقالات جمعها في كتاب وصدر في عام 2014م تحت عنوان منهج التّحليل الثّقافي: صراع الهامش والمركز، أشار فيها إلى جملة محاذير تتعلّق بمصير الثّورة التي تنبّأ باندلاعها في يومٍ معلوم. مع يقينه بقيام الثّورة، جاءت تحذيراتُه من إمكانيّة سرقة الثّورة. وقد كان أوّل من تكلّم عن احتمالات الثّورة المضادّة لثورة شعبيّة لا تزال في رحم الغيبن وقد أسماها بمرحلة الإنقاذ (2). بل أكثر من ذلك، ذكر وبدقّة تستوجب الإعجاب تفاصيل سرقة الثّورة. فقد قال وبالحرف الواحد (صفحة 164) بأنّ قبول قيام مجلس عسكري يعمل تحته مجلس وزراء مدني يعني أنّ الثّورة قد سُرقت. وهذا ما حدث بالضّبط!
ولعلّ من الإرهاصات العجيبة والغريبة هذه القصيدة التي كتبها في الخرطوم في يوم 22 ديسمبر 2016م تحت عنوان "ثورتُنا الشّعبيّة الرّابعة" (باعتبار أنّ الثّورة المهديّة هي الأولى):
خرج الثّوّارُ ليلاً يهتفون،
وتنادوا لا يهابون المنون،
ثمّ ساروا مثلَ طُوفانٍ يدكّون الحصون.
**
ثمّ ها هم يكتبون،
بمدادٍ من دماءٍ ودموعٍ وشئون،
في جدار المجد والتّاريخ للدّنيا مُتون:
انطوى عهدُ الجنون،
واقبل الصّبحُ كوعدٍ لا يخون،
وأتى النّصرُ كأشهى ما يكون.
**
ثمّ ها هم يهتفون!
**
خرج الثّوّارُ فجراً يهتفون!
ومشوا نحو الأعادي بخطىً ثابتةٍ لا يجفلون!
**
خرجوا يستنهضون الشّعبَ للزّحف المُريد،
ما راعهم هُذيانُ فرعونَ وقد أرغى وعيداً في وعيد،
هكذا قد استفاق الماردُ الغضبانُ ذو العزمِ الحديد،
وأطلّ الصّبحُ، صبحُ الثّورةِ الكبرى على وعدٍ أكيد،
خرجوا في ثورةٍ رابعةٍ تقفو خطى الماضي التّليد،
فأعادوا قصّةَ التّاريخِ والثّوراتِ والشّعبِ الفريد!
**
غضبةُ الماردِ زلزالٌ أتى من عمق تاريخٍ مجيد!
**
ثمّ ها هم يهتفون!
في المدى يعلو هتافُ الشّعبِ يجتازُ السّكون،
والطُّغاةُ الغافلون،
إنّهم لا يسمعون!
إنّها لحظةُ النّصرِ ولكن هل تراهم يعلمون؟
إنهم لا يعلمون!
أفهلاّ تنظرون!
كيف يأتي النّصرُ في جزءٍ من الثّانية الأخرى وهم لا يشعرون!
**
إنّها لحظةُ النّصر الأكيد!
لحظةٌ عُظمى يُعيدُ الشّعبُ فيها كلَّ أمجاد القرون،
ينتفي الوقتُ فلا قبلُ ولا بعدُ ولا حزنٌ ولكن محضُ أفراحٍ وعيد.
لحظةٌ يأتي اليقينُ الحقُّ فيها ثمّ تنجابُ الظّنون.
لحظةٌ قاطعةٌ فيها التّماهي، إنّها لحظةُ النّصر السّعيد.
كيف فيها يلتقي الماضي مع الحاضرِ والقادم في سلكٍ نضيد!
**
ثمّ ها هم يهتفون!
**
خرج الثّوّارُ فجراً يهتفون!
ومشوا نحو الأعادي بخطىً ثابتةٍ لا يجفلون!
وبعد؛ ولا أجد أفضل ولا أجمل من أن أختم تقديمي لهذا الكتاب العظيم ببعض من أبيات هذه القصيدة التي يصعب أن يصدّق الواحد منّا أنّها كُتبت قبل سنتين كاملتين من اندلاع ثورة ديسمبر 2018م. فقد اندلعت الثّورة في يوم 13 ديسمبر 2018م بالدّمازين ثمّ انتقلت إلى عطبرة في يوم 15 ديسمبر لتصل الخرطوم يوم 18 ديسمبر 2018. وكتب محمّد جلال هاشم هذه القصيدة بالخرطوم في يوم 16 ديسمبر 2016م.
عبدالله الفكي البشير
الدّوحة ـــــ قطر
بيبليوقرافيا التّقديم
جمال محمد أحمد، "مؤهلات الزعامة بين العشائر والأمم"، مجلة كلية غردون، العدد الثاني، المجلد الثاني، 21 ديسمبر1935، الخرطوم، ص 6.
جيمس روبرتسون، السودان. 1996. من الحكم البريطاني المباشر إلى فجر الاستقلال، تعريب مصطفى عابدين الخانجي، دار الجيل، ط1، بيروت.
عبد الله الفكي البشير. 2021. محمود محمد طه وقضايا التهميش في السودان. الخرطوم: دار باركود للنشر والتوزيع.
عبدالرحمن عبدالله. 2002. السودان: الوحدة أم التمزق. ترجمة الفاتح التجاني. ط 1. بيروت: شركة رياض الريس للكتب والنشر.
معاوية محمد نور. 1994. الأعمال الأدبية لمعاوية محمد نور: دراسات في الأدب والنقد وقصص وخواطر، جمع وأعداد: رشيد عثمان خالد. الخرطوم: دار الخرطوم للطباعة والنشر والتوزيع.
محمّد المهدي المجذوب. 1981. منابر (مجموعة شعريّة). بيروت : دار الجيل؛ الخرطوم: المكتبة الأهلية.
محمّد جلال أحمد هاشم. قيد الطّبع. منهج التَّحليل الثَّقافي: فشل مشروع الحداثة في السُّودان وتحدِّيات ما بعد الحداثة.
محمّد جلال أحمد هاشم. قيد ىالطّبع. الإسلام الثَّقافي: فقه ما بعد الحداثة.
محمّد جلال أحمد هاشم. 2021. مُفاكراتٍ حول منهج التحليل الثقافي: الثقافة، الدَّولة، الدِّيموقراطيَّة، الاستقلاليَّة، الأيديولوجيا، والآفروعمومية. الطّبعة الثّانية. جوبا: دار ويلّوس للنّشر والتّوزيع.
محمّد جلال أحمد هاشم. 2018. منهج التَّحليل الثَّقافي: مشروع الدَّولة الوطنيَّة السُّودانيَّة وظاهرة الثَّورة والدِّيموقراطيَّة. الطّبعة الثّامنة. الخرطوم. الدّار البيضاء للنّشر والتّوزيع ودار الرّاوي للنّشر والتّوزيع.
محمّد جلال أحمد هاشم. 2016. رسالة كجبار: من أجل السودان لا من أجل قرية (قضايا السُّدود بشمال السودان). الطّبعة الأولى. أوكسفورد: دار شفق للنّشر والتّوزيع.
محمّد جلال أحمد هاشم. 2014. جزيرة صاي .. قصَّة الحضارة: قضايا التَّنمية والتَّهميش في بلاد النُّوبة. الخرطوم. الطّبعة الأولى. مركز عبد الكريم ميرغني الثّقافي للنّشر والتّوزيع.
محمّد جلال أحمد هاشم. 2014. منهج التّحليل الثّقافي. صراع الهامش والمركز. الخرطوم.
محمود محمد طه. 1974. الدعوة الإسلامية الجديدة، ط1، أم درمان.
محمود محمد طه. 1955. أسس دستور السودان لقيام حكومة جمهورية فيدرالية ديموقراطية اشتراكية. الخرطوم.
مقالات ومصادر
أماني السّنوار. 2017. "الهيمنة الثقافية وتحدي الثورة". على الشّبكة (طولعت الصّفحة يوم 20 مارس 2021م):
https://www.ida2at.com/cultural-hegemony-and-revolution-challenge/
ريجيس دوبريه، "حوار مع ريجيس دوبريه"، أجرى الحوار محمد برادة، مجلة الدوحة، مجلة ثقافية شهرية، العدد 19، مايو 2009، وزارة الثقافة والفنون والتراث، الدوحة، قطر، ص 54.
محمّد جلال أحمد هاشم. 2018. الأطعمة السُّودانيَّة: ثراؤها وتنوُّعها وإمكانيَّة انتشارها عالميَّاً" ورقة قدّمت في ورشة موسوعة الأطعمة السّودانيّة بالخرطوم، دار التّراث (مركز الفحيل الثّقافي).
محمّد جلال أحمد هاشم. 1997. "نحو منهج لإحياء التراث السُّوداني: الثَّقافة النُّوبيَّة كحالة دراسيَّة". ورقة قدّمت في منتدى الفولكلور بمعهد الدّراسات الأفريقيّة والآسيويّة بجامعة الخرطوم في 30 أكتوبر 1997.
محمّد جلال أحمد هاشم. 1986. "المسئوليَّة الثَّقافيَّة للنَّصِّ الدِّارمي". ورقة قدّمت في منتدى الثّلاثاء بكلّيّة الدّراسات العليا بجامعة الخرطوم في الأسبوع. الأسبوع الثّاني يونيو 1986م.
محمود محمّد طه. 1958. صحيفة أنباء السودان، العدد رقم (162)، 4 أكتوبر 1958.
قصائد وأشعار
محمّد جلال أحمد هاشم. "ثورتنا الشعبيّة الرّابعة" (قصيدة غير منشورة). 22 ديسمبر 2016، الخرطوم.
محمّد جلال أحمد هاشم. قصيدة "رأيتُك" (قصيدة غير منشورة). 26 نوفمبر 1983م، الخرطوم.
محمّد جلال أحمد هاشم. قصيدة "غربة الرّوح" (قصيدة غير منشورة). بتاريخ 3 فبراير 1979م، الخرطوم.
محمّد الواثق مصطفى. 1971. قصيدة "صديقي المثابر جوزيف قرنق". على الشّبكة (طولعت يوم 20 مارس 2021م):
https://ar.wikipedia.org/wiki/%D8%AC%D9%88%D8%B2%D9%8A%D9%81_%D9%82%D8%B1%D9%86%D9%82
English References and Sources
Ernest Dimnet. 1929. The Art of Thinking. London: J. Cape.
M. Jalal Hashim. 2019. To or not to be: Sudan at Crossroads: A Pan-African Perspective. Dar es Salam: Mkuki wa Nyota.
شارك هذا الموضوع: