ليس السلام في صيحة أرضا سلاح وكفى، أو وداعا لقعقعته وقهقهة القهر والاستبداد. إنه يعني الكل، ويطلب الإلهام والتغذية والتثبيت من الجميع، بالقيام وقبل كل شيء، بعدد من العادات والواجبات المبتكرة البناءة في التعامل، والمهام الاجتماعية الثقافية الجديدة، التي يأتي في أولها نبذ مفاهيم العنصرية والقبلية والتكتلات الجهوية، بالانفتاح على الآخر وتعميق قيمة المواطنة، ومكافحة أي اختراقات تستهدف تلكم العلاقة. اضطهاد الآخر باللون، أو العرق، أو القبيلة، يعد بمثابة صب الزيت على نار الحرب سواء في أوارها أو خمودها وهي كلام بعد، وأفكار متسلسلة وعقيدة في التباين والتمييز .إن نشر وعي المواطنة، مساهمة مهمة مشتركة، علينا جميعا الانهماك فيها والعمل عليها دون هوادة. نحن أمام جملة من الاتفاقيات والتعهدات، التي انتهت إلى التمزيق والإهمال وتعطيل الصلاحية، ليس بسبب فساد عقول الحكام فقط، ولكن بسبب عدم خلق الاصطفاف الشعبي وراء مضامين القيم السياسية والثقافية والأخلاقية المطلوبة، من أجل حماية اتفاقيتنا الحالية من ذلك المصير المر المرير علينا بمراقبة أدائها شعبيا، بنقد كل ما يتصل بالخروقات التي تحولها لاتفاقية صفوية بين القيادات السياسية وكفى. إجراء ذلك يستوجب البناء الذاتي والجمعي لثقافة السلام، من خلال تضمين قيمه في المناهج التعليمية والأداء الإعلامي والتربية. والأخيرة تعد في نظري ليست أقل أهمية مما دونها، لأنها قيم تسكن وتتساكن في عقول المربيين والمربيات، ومنهن الأمهات. منظمات المجتمع المدني النسوية ذات الأهداف المعلنة بترقية الوعي، أمامها عمل كبير وضخم ونوعي، بالاشتغال وسط الأمهات والمربيات، وترسيخ أهمية غرس قيم المساواة والعدالة في أذهان النشء، بما يجعل اجتماعهم طبيعيا غير منتهك بعنصرية متوارثة. فالعنصرية ليست في الجينات، ذلك أن الجميع يولدون بصفحات خلق وأخلاق ناصعة، سرعان ما يكتب عليها الكبار أفكارهم، فيحولون ميول وتأييد الصغار، بما يرضي أمراضهم هم المتوارثة، والتي ليس للصغار صلة بها. ففي سياقات تزكية التمييز الاجتماعي، يعد التمييز أو التهميش الاقتصادي، الآفة التي تقعد الوعي عن التحول إلى وعي وطني موحد، يعمل على خلق الرابطة الوطنية الواحدة المتحدة. هذا ما ناله منا التاريخ الاجتماعي المعوج المعيب، والذي أجاز لأقسام اجتماعية وجغرافية وإثنية معلومة، اضطهاد إخوة لهم في المواطنة، بالأنانية وباتباع سياسة غلق الأبواب والحيازة المطلقة لحقوق التطور دون إتاحتها لغيرهم. علينا اتباع السياسات الصالحة والتصحيحية، المتعلقة بإحقاق العدالة الانتقالية، المجربة في عدد من البلدان الإفريقية،، وتغذية ذلك بإضافة ما يمكن من قيم التعايش الثقافي الاجتماعي الحميدة، الكامنة في خزين التاريخ الاجتماعي للمكونات السودانية، بدلا من إعادة تدوير القيم السالبة، المرتكزة على الاحتفاء والفخر بالأصل العرقي والمكانة الاجتماعية، وغير ذلك مما تولده سلطة وسطوة الوعي الزائف. نعم يوجد تاريخ مخز وعلاقات آثمة، وأخطاء عمقت سلطة الإنقاذ لها بصورة ممنهجة، عبر سياسية فرق تسد، ورفد القبلية وترفيع سلطتها بدعم الكراهية ونشر التخاذل الاجتماعي بين الناس. ولكن الشعارات التي رفعتها الثورة وأوجزتها في شعار حرية سلام وعدالة، دائما ما يجب تذكرها، ليس في شكلانية مفرداتها، ولكن في كليات معانيها النافذة للفرقة والتفرقة. بدون العمل بكل ذلك و جعله ميثاق شرف بيننا، فإن الاتفاق الموقع في جوبا، سيواجه ذات المصائر السابقة البائسة، وسينضم غير مأسوف عليه، لميراث نقض المواثيق والعهود، ليس من طرف واحد كما كل مرة، ولكن من جميع الأطراف.. ولا نامت أعين من دخلوها وصقيرها قد حام، أو دخلوها وتساورهم أفكار بشيء من ذلك.
شارك هذا الموضوع: